الرئيسية / صوت الثقافة / شهادة على عصر..
شهادة على عصر..

شهادة على عصر..

 رؤى ابنة رائد ابن نبيل من نسل “محمد المنصف الزيدي”

(كلّ ما سيلي هو من قبِيل المستقبل، وأيّ ابتعاد عن الشّبه بالماضي أو الحاضر سيكون من محْض خيال القرّاء).

تفطّنَت البشرية منذ2020 (عام الكورونا كما سمّاهُ أجدادنا) إلى الإهْدار المُفرط للعباد والعتاد الذي كانت تسبّبه الحروب والنّزاعات الموجبة للتسلّح بين الدول والشعوب والأمم، بينما عجز معظمها تلك السنة على مواجهة علاج المصابين بذاك الوباء الجديد الفتّاك الذي أوْدى بحياة عشرات الآلاف من الناس في عدّة أسابيع. ولاحظ الجميع أنّ نفقات التسلّح في ذلك العام كانت خمسة أو ستّة أضعاف لما قدَّرتْه منظّمة الصحة العالمية من تكاليفٍ لإلحاق سبع وستّين دولة بمعدلٍ مقبول للخدمات الصحّية الأساسية في سنة 2030.

وفجأة عمّت بين معظم الناس تقريبا وقفة تأمّل بلسانِ حالٍ يقول: “لقد عشنا لقرون ونحن عبارة عن أموات بسبب حياتنا التّعيسة تلك، وها نحن أمام وباء مُعَوْلم يوفّر لنا فرصة أخيرة لكي نصبح فعلا أحياءً بسبب الموت الذي وزّعه بيننا بكلّ تمييز طبقيّ وبلا أيّ عدل”.

وهكذا وما إن انتهى الأطبّاء وأعوان وعلماء الصحّة (والذين أُطلِق عليهم آنذاك اسم “الجيش الأبيض”) من التغلّب على الوباء بوقف تفشّي عدواه واكتشاف لقاح وعلاج له، حتّى سرَتْ بين الناس عدوى أسرع وأشمل من وعيٍ سياسيٍّ وتمرُّسٍ تنظيمي ثوريّين أُسْوة بالطبقة العاملة والشّيوعيين.

وفي شهور قليلة تحوّلت الأزمة الشّاملة للنظام الرأسمالي العالمي (والتي عمّقتها التأثيرات المدمّرة لجائحة “الكورونا”) إلى حراك ثوري للتّغيير الجذري. فبعد أن ظنّت البرجوازية العالمية أنها ستخرج من أزمة نظامها كالعادة غانِمةً سيِّدةً من جديد بتحميل أعبائها للشّغّيلة والشعوب مواصِلة استغلالهما واستعبادهما، انْقلب السّحر على السّاحر وسَرى المدّ الثوري في أنحاء المعمورة كسرَيان النار في الهشيم…

وفي حركة خبيثة شبيهة برقصة الدّيك المذبوح لجأت الامبريالية لتفجير الصراع بين عمالقتها (والذي كان يعتمل منذ سنين) بحربٍ عالمية ثالثة أُريدَ لها أن تنتهي بالاتّفاق على قيادة العالم بنفس المبادئ والأساليب القديمة. إلا أنّ كيدها قد رُدّ إلى نحرها بتحويل تلك الحرب إلى ثورة تعزل تلك القيادة برمّتها وتُقيم نظاما جديدا لتسيير العالم: الاشتراكية.

وقبل أن تتوسّع المعارك، وفي حركة تاريخيّة لتجنيب البشرية مجزرةً جديدة، أعطت الحركة الثورية العالمية إشارة الانتفاضة باستيلاء عمال الصناعات والمرافق الحربية مع الجنود والضباط والخبراء العسكريّين على منشآتهم وتحويلها فورا إلى صناعات ومرافق مدنية سلميّة لصالح النقل والصحة والتعليم والفلاحة وصنع الغذاء والملبس والإسكان والتّعمير. بدأت تلك الحركة مع وقف الاقتتال، وشملت في البداية الدّول الامبريالية الكبرى التي طوّرت أكثر من غيرها أدوات الموت تلك، وسرعان ما تتالت في كافة أنحاء الأرض سيطرة الشّغيلة والشعوب على مجمل قطاعات الإنتاج والتوزيع للثروة الجماعية المشتركة بين بني الإنسان. وأَعْلنت بالتوازي مع ذلك مجالس جماهيرية اختيارها لحكومات ثورية محلّية في كل بلد ٱنتخبت بدورها حكومة ثورية أممية لتسيير شؤون العالم.

أعطت تلك الحكومات أمْرًا موحّدا لكافة أجهزة الشرطة والمخابرات (والتي قبلت جميعها الانضمام تحت لوائها) بتطويق آخر بؤر العصيان والمقاومة اليائسين للبرجوازية المندحرة، مع توصية صارمة بالحرص على الأرواح البشرية والسلامة الجسدية وحفظ الكرامة لكلّ من أذعن وٱلتزم بقانون الأغلبية (الحقيقية هذه المرّة) من عناصر الطّغم المالكة والحاكمة السّابقة مع منع ومعاقبة أيّ أعمال انتقامية قد تقوم بها قلّة متهوّرة من الجماهير الثائرة وإنزال أشدّ العقوبة على أيّ معتدٍ على الأبرياء أو مرتدٍّ غادر ومخرّب لثورة البشرية ضدّ الاستغلال والظلم..

وتمّ الاقتصار على استعمال القوة المسلّحة فقط في حالات محدودة ومعزولة ضدّ من استعملها.

وهكذا سرعان ما خمد التوتّر وأمن الناس وانطلقت حركة واسعة للتنظيم العقلاني والعادل لمجهود وقدرات البشر العمليّة والذهنية في كافة مجالات الحياة المادية والمعنوية لصالح عامة سكان الأرض في ظلّ يقظة تجاه أي محاولة عودة إلى الوراء، إلى الماضي التّعيس.

وما هي إلا بضعة عقود من الزمن حتى حقّقت الإنسانية قفزة نوعية عظيمة في اتّجاه تقدّمها وازدهارها وسعادة كافة أفرادها متضامنة حقّا وآمنة فعلا من الأوبئة والحروب متناغمة مع بيئة كوكبها حافظة لنوعها وسائر الأنواع والكائنات الحيّة المتعايشة معها.

لقد أنجزت البشرية تحولها الطّاقي بتخلّصها من استعمال مصادرها الأحفورية بمخاطرها. ومع الطاقات المتجدّدة للشّمس والرياح أعادت الاعتبار لنظريات طلائعيّة كانت مغمورة ومغيّبة عنوة من أساطين الاستغلال سابقا فتحوّلت وسائل النقل وكافة الآلات إلى الاشتغال اعتمادا على الطاقة الكهرومغناطيسية الحرّة والنظيفة الملتقطة من حركة الكون الأبديّة. وتمّ قبل ذلك تفكيك الأسلحة النوويّة وجرى تحويل طاقتها إلى الاستعمالات السلمية ورسْكلة نفاياتها إلى أن تمّ التخلّص منها نهائيا.

وجرى تطوير الإنتاج وتحسين إنتاجية العمل بالتوازي مع تخفيف عِبْئه على الفرد، إلى أن تقلّصت ساعات العمل الفعلية يوميا إلى ثلث ما كانت عليه بداية القرن الماضي وصار العمل مُمتعا ومبدعا إلى حدّ تغيرت معه نظرة الإنسان له فأصبح يسعى إليه بوعيٍ وطواعيةٍ بل وبرغبة وسعادة شبيهة بتلك التي كانت تبديها الأقلّيات البائدة عند سعيها إلى السّياحة والترفيه.

لقد تمكّنت الإنسانية منذ ما يزيد عن نصف قرن بفضل نجاحها في الوقاية من حرائق الغابات ومنع تدميرها وسيطرتها على البراكين من القضاء على تلوّث الهواء وحماية الغلاف الجوي من تقلص طبقة الأوزون، ومع نجاح برنامج عظيم لإعادة تطهير البحار والمحيطات من رواسب تسمّمها أنقذت وتكاثرت آلاف الأنواع من الحيوانات والنباتات التي كانت سائرة بثبات نحو الاندثار، وأُبْعِد إلى غير رجعة شبح ما كان يُعرف لدى العلماء بالفناء البيولوجي العام.

أمّا على المستوى الاجتماعي فقد عمّ التعلّم بمستواه الجامعي كافة البشر، فاستِلْهامًا من حكمة فيكتور هوغو “كلما فتحت مدرسة أغلِق سجْنا” وبقول الشاعر العربي أحمد شوقي: “قمْ للمعلم وفِّه التّبجيل كاد المعلم أن يكون رسولا”، اختارت البشرية أن تطوّر بنايات السجون وتوسّعها وتجهزها لتفتحها لآلاف المعلمين. فقد حوّلتها إلى مراكز جدُّ متطورة لتعليم الأطفال عن بعدٍ وبثّ وتعميم الدراسات والبحوث البيداغوجية بمختلف الوسائط واللّغات كما تحسّنت الصحّة العامة إلى حدّ تعافي الجميع واختفاء الأمراض المُزمنة كالسكّري وارتفاع ضغط الدم والخطيرة منها مثل السرطان والمعدية السّارية كمختلف أنواع الأنفلونزا ونقص المناعة وغيرها حتى اجتاز معدّل أمل الحياة عند الإنسان عَتَبة المائة سنة.

وعلى مستوى الحوكمة والشّفافية تحوّلت المقرّات والمراكز القديمة للبورصات المالية إلى مِنصّات إحصائية ومحاسبيّة مفتوحة للعموم لمتابعة ومراقبة إنتاج وتوزيع الثّروة العالمية بالعدْل بين سكان الأرض وتعديلهما حسب الحاجات وحسن التّخطيط للمستقبل.

أما السلطة القضائية فقد أصبحت مستقلّة فعلا، ولكن المحاكم تحوّلت إلى هيئات تحكيم وفصل لخلافاتٍ وبتٍّ في تأويلات للقوانين وقلّ وندر أن تُطرح أمامها جرائم ضدّ الحقوق العامة أو الفردية.

وفي بلادنا (تونس سابقا) والإقليم المُجاور لها فقد تقلّصت الصحراء بفضل جهود الإحْياء وتحسّن المناخ وعادت الطبيعة إلى ما كانت عليه منذ آلاف السّنين فانتشرت فيها الواحات وعادت لها غابات الطّلح والسّافانا وأُعيد لها أُسود الأطلس ونسوره والفِيلة والغزلان.

ومنذ السّنوات الأولى من التحول الثوري العالمي تميّزت فعالياته عندنا بتحويل معظم النّزل والمنتجعات السّياحية إلى مراكز بحث علمي وجامعات رقميّة ومحاضن ابتكار تكنولوجيّ ومستشفيات متطوّرة ومخابر اكتشافات طبّية وبيولوجية متنوّعة أسهمت بها بلادنا بقسطها في التبادل الأمميّ الحرّ للمنافع والمكتسبات والابتكارات العلميّة إضافة إلى تطويرها لحسن ٱستغلال طبيعتها المستعادة فازدهرت لدينا الفلاحة البيولوجية مع إنتاج أرْفَع أنواع التّمر وأرْقى أصناف الخمر في العالم، وإلى جانب المحافظة على المراتب الأولى لإنتاج زيت الزيتون، طوّرنا أبْحاثا وتصنيعا لمشتقاته. وهكذا بتوسّطها العالم كنقطة وصْلٍ حضاري بين الشمال والجنوب والشرق والغرب، صارت “إفريقية” بعد استعادة هذا الإسم الذي أعطته للقارّة الأم، مركزا حضاريا ومَزارا مُهمّا ضمن المسارات السياحية الثقافية والاستشفائية الأمميّة الجديدة. وبتحرّر الإنسان من استغلال أخيه الإنسان وانتهاء صراعه معه، انتفت قاعدة الاستيلاب وضمر الانفصام إلى مستوى لا يعتبر، فانفجرت المواهب وعمّت الثقافة وارْتقت إلى درجاتٍ عالية من الإبداع والنقد. وانتهت غُربة الفلسفة واشتغل بها الجميع وازدهر الفن بكافّة فروعه القديمة والمبتكرة وصار القرن من العمر لا يكفي المرْء منّا لإتمام جزءٍ بسيط ممّا يتوفّر له من عبقريّة وموْهبة وتعلّم عاد موسوعيّا وجدل وفكر وابداع لا تنضب منابعه وجداوله… وإن لم أحدّثكم عن الحبّ فلِأنه عاد لوضعه المستوْجب لدى الإنسان كما الهواء الذي يتنفّسه.

واليوم نعمّر مع سائر البشريّة الأرض كوكبنا الأزرق الجميل وسفينتنا الفضائية السابحة في الكون بأمنٍ وسلامٍ بعد أن عزلنا رُبّانا قادَها لقرون وتبيّن لنا أنّه كان مُصابًا بجنون العظمة والرّبح، وعوّضناه بآخر عادل وحكيم. وعند كتابة هذه الصفحات تصلنا أخبارا سارّة عن وصول بعثتنا الفضائية الأمميّة إلى أقرب كوكب شبيه بكوكبنا على بعد سنوات ضوئيّة، وتشير هذه الأخبار إلى نجاح مهمّة الاستكشاف وحسن التّلاقي مع سكّان ذاك الكوكب وترحيبهم وسهولة التّفاهم معهم، وقد تساعدهم بِعْثتنا على زيارتنا بفضل وسائلنا المتطوّرة.
ما كان لمثل هذه النجاحات أن تحدث لو قبِلت الإنسانية مُواصلة الإذعان والخضوع لِتعنُّت ومُكابرة وعَجْرفة البرجوازية التي سيّرت الأرض لعقود أليمةِ… وربما كانت جائحة “الكورونا” الفرصة، أو القادح الذي أحدث اِسْتفاقةَ الوعي والعزيمة الأمميّين بضرورة التّغيير الجذريّ والرائع إلى هذا الأفضل… وربّما يصحّ أن نقول اليوم: “شكرا أيتها الكورونا؟”.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×