الرئيسية / أقلام / بقلم عمران البكاري: لن نكون استثناءً
بقلم عمران البكاري: لن نكون استثناءً

بقلم عمران البكاري: لن نكون استثناءً

عمران البكاري مثقف تونسي بالمهجر

عمران البكاري مثقف تونسي بالمهجر

بعد فرار بن علي وجد المتساكنون الحاليون لتونس أنفسهم أمام أنفسم. دون سلطة تفرض عليهم ما يجب ان يقوموا به و ما يجب تجنُّبه، بين ما هو وضروري و ما ما هو غير ضروري. كان لزاما عليهم ان يتفاعلوا إيجابيا و بسرعة ما هذا الطارىء. كان يجب عليهم ان يصرّفوا أمورهم على نحو مستقلّ و ذاتيّ على قاعدة غياب سلطة عليا تقريرية تحلّ محلّهم. و لكن الأمر لم يكن سهلا بالمرّة. لم يكن سهلاً بالنظر الى ما هم عليه من فقر مادي واجتماعي كنتاج لسياسات و خيارات همّشت جزءًا كبيرا منهم. كما لم يكن الأمر سهلاً بالنظر الى استفحال الضحالة الفكرية و العلمية و الثقافية المنبنية إرث ديني قديم معقّد غير واضح الحدود و المعالم. ثم ان المسارات النفسية و الذهنية المؤسسة لسلوك التونسي منبنية على التحايل على الله و على العقل و على القانون و المجتمع الى ان صارت نمط وجودهم و تصريف أعمالهم. وهو نمط وجود كل الشعوب التي ترزح تحت العبودية.
فقر و تهميش و جهل وضحالة فكرية و تحايل و انتهازية هي أهم ملامح الشخصية التونسية العميقة إبّان الثورة.
السؤال الذي كنت اطرحه على نفسي و على اصدقائي آنئذ هو : بأي عمق و سُمك و إرادة و إمكانيات سيرفع المتساكنون التحديات المطروحة عليهم؟
كنت أوَّل المشككين في نجاحهم السريع في رفع التحدي و الاضطلاع بالمهام المطروحة عليهم بمسؤولية و نجاعة. و لكن كان يحدوني أمل في أن تدفعهم الظروف و التحديات التاريخية التي وجودوا فيها أنفسهم الى مراجعات عميقة و أخذ قرارات حاسمة في شأن المنوال الاقتصادي اليبرالي التابع و كذا السياسي القائم على التسلطية و الانفراد بالقرار و التشريع و الحكم ثم وبالأساس في علاقة الدين بالسياسة وإرساء العقل داخل المؤسسات . كنت أعتقد ذلك لإيماني الفلسفي و التاريخي السياسي بان الشعوب لا تتحول من مرحلة الى مرحلة و من حال الى حال و بشكل نوعي الا بكثير من الألم و المعاناة. هذه الآلام و المعاناة ستدفعهم الى تحيين برمجياتهم الذهنية و أنماط اشتغال عقولهم و مناويل تصريف مؤسساتهم. ولكن هذه المعاناة قد تجاوز حجمها و بكثير كلّ توقعاتي كما تجاوزت درجات تعقيدها و تنوّع الفاعلين الداخليين و الخارجيين فيها كلّ متوقَّع، رغم أَنِّي لم أكن أرى التفاعل مع الرهانات بشكل منقطع الصِّلة بالعناصر الخارجية كما لم أكن أهون من حجم المعاناة.
*
طبعاً السؤال الذي يطرحه العديدون اليوم هو: أمام ما بلغناه اليوم من انسحاق مادي و معنوي متمثلاً في الانحطاط السياسي و الاقتصادي و الأمني الذي صار معه وجودنا أصلاً مهدّداً أصبح سؤال “ما العمل؟” ملحاحاً على ألسنة الغالبية الساحقة ممن يهمهم أمر هذه البلاد. وهو سؤال وجود حارقٍ لا جدال.
في تقديري المتواضع جدّا، و انطلاقاً من تجارب الشعوب التي اطلعت عليها و استناداً الى تقفّي حركة العقل في تاريخ هذه الشعوب و معالم مساراته في انتاج المعاني و المؤسسات و القيم و العلوم و المعارف يبدو لي انّ الصورة الفوتوغرافية لتونس اليوم تفيد بعناصر هامة يجدر بنا قراءتها دون تسرّع و انطباعية و بعيون الحكمة لا الشهوة؛ إذ ما يحصل الآن في تونس رغم فظاعته و دمويته فهو دليل على ان السير باقٍ في مسلكه الصحيح: مسلك التغيير الجذري الذي لا يقبل بإنصاف الحلول و الإرساء على وضعيات رمادية. هو مسار الحسم؛ كلّ من جانبه يسعى الى فرض خياره و ان كان انتهازيا. اذ اليوم في تونس تتصادم الخيارات و النزعات من اليمين الى اليسار الى كل جهة و ينأى البعض الى حدود الإرهاب غباءً او طمعاً او خيانة فيما يختار البعض مسلك الانتهازية و الإسفاف في محاولة لإعادة النظام الدستوري القديم و تسعى مجاميع الاسلام السياسي الى التموقع في مناصب القرار و إنتاجه في المجتمع و الادارة و المدرسة و الجمعيات بكل حيلة و تقية و ازدواجية.
هذا الخبط في كلّ اتجاه و بكل وسيلة نلاحظه عند المواطن البسيط كما نجده في الحزب و الادارة و النقابة و بالتالي فهو خبط عامّ واسع و مشترك بين الكلّ. لا أحد يستقر على أمر، الصورة غير واضحة، المستقبل مفتوح على كلّ الاحتمالات. و طبعاً للجانب الذاتي الشخصي و الداخلي للبلاد كما للجانب الموضوعي العام و الخارجي الدولي دخل كبير في تشكل الصورة اليوم و مآلاتها غداً. ان رمادية الصورة اليوم هي أمر طبيعي لمجتمع في حالة تحوّل من حال الى حال ( وأحسبُ ان العالم بأسره واقع في هذا المسار/ وهو موضوع آخر). هذه الرمادية يواجهها المحافظون بالحنين الى الماضي بدعواتهم لعودة النظام القديم. ولكل واحد نظامه القديم: منهم من يراه تجمع بن على و منهم من يراه دستور بورڤيبة ومنهم من يراه في ستالين روسيا و منهم من يراه في الخلفاء الراشدين بالربع الخالي و منهم من يراه في الخلافة و منهم من يراه في العود الى ألأمازيغية و منهم من يراه في التغريب.

النظام الجديد الذي سيؤل اليه الوضع في تونس هو بصدد الكتابة و التاريخ لا يعود الى الوراء. بقي مشكل ثمن هذه الكتابة، أقول اننا لن نكون استثناءً من بين الشعوب التي دفعت غاليا من دم ابنائها و على امتداد السنين مهراً للحرية و الكرامة بل وهاهي اليوم هذه الشعوب ذاتها( الأوروبية مثلا) تتعهد بالصيانة و المراجعة ما كسبت و بتكلفة باهضة كذلك.
لن نكون استثناءً.
_____________
عمران من الضفة الاخرى.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×