الرئيسية / أقلام / ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان: الحرب على الإرهاب لا تعني دوس الحقوق والحرّيّات
ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان: الحرب على الإرهاب لا تعني دوس الحقوق والحرّيّات

ذكرى اليوم العالمي لحقوق الإنسان: الحرب على الإرهاب لا تعني دوس الحقوق والحرّيّات

عليأحيت الإنسانية التقدمية وقواها الحية الذكرى 67 لإصدار الاعلان العالمي لحقوق الانسان من طرف هيئة الامم المتحدة يوم 10 ديسمبر 1948، هذا الاعلان الذي شكّل خطوة مهمّة على درب ايجاد مرجعيات كونية تحمي حقوق البشر من الانتهاك.

وبقطع النظر عن الظروف التاريخية التي حفّت بالإعلان وعن حقيقة القوى الواقفة وراءه خاصة في فرعها الرأسمالي الامبريالي ممثلا في القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية (دول الحلفاء)، فإنّ القوى التقدمية في كل العالم تعتبر هذا الإعلان وثيقة مهمّة وأساسية على درب تحرّر الإنسانية من بربريّتها ووحشيّتها، فضلا عن كون الإعلان يشكّل مرجعا وملاذا للشعوب والفئات التي تتعرّض حقوقها إلى الانتهاك، وهو ما أكّدته التجربة. إذ كثيرا ما وجدت الشعوب والقوى المضطهدة في الإعلان وفي المواثيق المنبثقة عنه (العهد الدولي للحقوق السياسية والمدنية، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادرين سنة 1966) وبقية الصكوك القطاعية والفرعية التي تشمل تقريبا كل واجهات الانشغال الإنساني (التعذيب، الميز العنصري، الاحتلال، الأسرى، المرأة، الإعدام، الأقليات،المعوّقين، الأطفال التعليم، الثقافة، المياه، البيئة…) العزاء والسلوى والملاذ في الظروف الصعبة. وحققت في هذا الباب عديد الانتصارات على كل أشكال التسلط والدكتاتورية والعسف والظلم. وتمكنت عديد الشعوب والجماعات من استرداد حقوقها أو فرض الاعتراف بها وذلك بتدخل ناجع وفعّال من القوى المدنية والحقوقية والسياسية المؤمنة بكونية حقوق الإنسان وأهلية الجميع بالتمتع بها.

ورغم المكاسب غير القابلة للدحض والتشكيك التي حققتها الأسرة الإنسانية في مشارق الأرض ومغاربها، إلاّ أنّ وضع الإنسان في أكثر من مكان في العالم يثير أسئلة تعود بنا إلى مراحل الإعلان أو ما قبله، وهي أسئلة تطرح في جانب منها أسئلة حارقة حول مدى إنسانية الإنسان الذي يمنع الحقوق عن غيره، “الإنسان” الذي لاتهمّه إلاّ مصالحه الأنانية الضيّقة، مصلحته في الحفاظ على السلطة والثروة والنفوذ ولو كان ذلك على حساب الأعداد الكبيرة من المسحوقين والمنسيّين والمفقّرين الذين لا حقّ لهم في أبسط الحقوق، وهذا الأمر حاصل بحكم تركّز الثروة في أيدي كمشة من الأغنياء بينما تحرم طبقات واسعة وشعوب بكاملها خاصة في بلدان الجنوب، حتى من ثروات بلدانها ومقدّراتها. وهو أمر يطرح بإلحاح مصداقية الدول الرأسمالية وتابعاتها حول حقيقة إيمانها بحقوق البشر، بينما تأتي العكس تماما في سياساتها وخياراتها التنموية.

عالم اليوم والتّراجع الرّهيب عن المكاسب

تأتي ذكرى هذا العام، والعالم يشهد تناميا للأنشطة الإرهابية التي تعدّت طور الأعمال المعزولة إلى طور الدولة في شرق المتوسط، “داعش”، ممّا انعكس مباشرة باتساع نطاق الإرهاب والإرهاب المضاد الذي يأخذ اليوم شكل الحرب المفتوحة وأساسا في سوريا والعراق واليمن وليبيا، حرب بين دول بصفة مباشرة (كبريات الدول كأمريكا وروسيا وفرنسا وانقلترا) وبالوكالة (دويلات الخليج- التي تتدخل مباشرة في اليمن- وتركيا وإيران)، وأيضا شكل الأعمال المتفرّقة والتي طالت عديد البلدان وآخرها فرنسا. فضلا عن تواتر العمليات الإرهابية الغادرة في بلادنا ومنطقتنا. وقد صاحب الحرب على الإرهاب لغط كثير حول حقوق الإنسان ومدى إمكانية احترامها في مثل هكذا ظروف. وبرزت أصوات عديدة تطالب بضرورة التخلص من عبء حقوق الإنسان لضمان نجاعة التصدي للإرهاب والإرهابيّين في إطار استعادة المعادلة الدكتاتورية التقليدية: الأمن أو الحرية، وهي معادلة تُطرح لابتزاز المجتمع كي يضحّي ويتخلّى عن مكاسبه أو جزء منها لإعطاء تفويض لا محدود للدولة ولأعوانها يتمّ بمقتضاه تعليق الالتزام بالنصوص والمرجعيات القانونية والحقوقية بما يفتح الباب واسعا أمام الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وأمام عودة الممارسات القمعية والفاشستية، مثل التعذيب، لانتزاع اعترافات بقطع النظر عن صحتها، والمسّ من الحريات الفردية والعامة. وقد طلبت فرنسا رسميا من المفوضية الأوروبية لحقوق الإنسان تعليق العمل بمنظومة حقوق الإنسان في إطار الحرب على الإرهاب، وهو نفس ما قرّره الرئيس الروسي بوتين منتصف هذا الشهر. وفي تونس ترتفع أصوات من هنا وهناك لنفس الغرض وبنفس الطريقة والأسوب.

دعاوي الرّدّة في تونس أم الحنين إلى الاستبداد؟

احتدّ الجدل في المدة الأخيرة بمناسبة تزايد نسق الإيقافات والمداهمات للمشتبه في ضلوعهم أو انتمائهم إلى العصابات الإرهابية. وارتفعت بعض الأصوات للاستنقاص من دور الأنشطة الحقوقية وحتى التشكيك فيها، ولا نقصد طبعا “الجمعيات” أو الأشخاص الذين يبيّضون الإرهاب. والخلفية المعلنة هي تخليص البلد من هذا الطاعون بأيّ وسيلة وأيّ ثمن ولو كان ذلك عودة الاستبداد. ولم يتوان البعض عن التحسّر على بن علي- ونظامه- ونعتقد أنّ هذه المعالجة خاطئة شكلا ومضمونا، فمقايضة الأمن بالسلم والحرية هي مقايضة تشرّع للاستبداد، فضلا عن كون التنافر بينهما هو مصطنع. فالتلازم ضروري بينهما إذ أنّ الأمن يسهّل إشاعة الحرية ويخلق إطارا ملائما للتمتع بها. وتوفّر الحرية يقوّي مناعة المجتمع وأمنه، والتصدي للإرهاب والإرهابيّين ممكن باحترام حقوق الإنسان، والتناقض بين الجانبين وهمي ولا موجب له سوى نوازع الفشستة التي تدغدغ جزء من الطبقات الثرية والوسطى وحتى من البرجوازية الصغيرة ضيقة الأفق التي لا تعني لها الحرية شيئا أمام “اطمئنانها” على مصالحها الفئوية والأنانية التي قد يهدّدها الإرهابيون وهو ما تسميه “النمط المجتمعي” الذي تختصره تقريبا في هوامش الحرية الشخصية، حرية اللباس، حرية الحركة.

أمّا الحريات العامة فلا تعنيها. ولا ننسى أنّ كل التجارب الفاشية في العالم والتاريخ كانت محمولة على أكتاف هذه الطبقات والفئات، ونظام بن علي ذاته كان في آن محميّا منها ويوفّر الحماية لها، لذلك لا غرابة أن يدعو هؤلاء إلى “القبضة الأمنية” ضدّ الإرهابيين وما يقتضيه ذلك من اعتماد التعذيب والعنف في المداهمات والإيقاف الجماعي والعشوائي ودهورة ظروف الاعتقال وتشديد الأحكام، بما فيها الحكم بالإعدام، ومواصلة الأحكام العرفية ومنع التظاهر ومراقبة الإعلام.

إنّ هذه الدعاوي في اعتقادنا خطيرة ليس فقط من جهة دعوتها الصريحة إلى انتهاك الحقوق والدوس عليها، بل أيضا من جهة خلق مزيد من ظروف نموّ الدعاوي الإرهابية. ويتناسى هؤلاء المتزلّفون أنّ المعالجات السليمة لموضوع الإرهاب لا تكون بالدوس على الحقوق بل باحترامها. فمناهضة الإرهاب لا تكون إلاّ من زاوية معاداته والعمل على ضرب كلّ الظروف التي تنشئه وتنمّيه، لذلك فالموقع الصحيح للتصدي له هو موقع الحرية والحقوق، وقد أثبتت التجربة الحديثة والمعاصرة قصور المعالجات القهرية للإجرام وسداد المعالجات التي تحتكم لرؤية شاملة وفي مقدّمتها احترام الحقوق غير القابلة للتصرف. وفي تجربة شعبنا، تجربة النظام القمعي لبن علي الذي خلق استقطابا واسعا في صراعه مع حركة النهضة بداية التسعينات من القرن الماضي، وقد صفّق العديد للانتهاكات باسم معاداة التطرف الديني. لكنّ الدائرة دارت عليهم ووجدوا أنفسهم ضحايا ما صفّقوا له.

وللتاريخ، كنا في حزب العمال بمعية نزر قليل من القوى التقدمية والمنظمات الحقوقية ضد تلك الانتهاكات. وقد وصفنا خصومنا بأننا متواطؤون مع التطرف، ثم أثبتت الحياة سداد رأينا وتواطؤ غيرنا مع الاستبداد. واليوم نرفع الصوت عاليا بمناسبة ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أننا ضدّ أيّ انتهاك للحقوق كائنا ما كان المتّهمون ولو كانوا ألد أعدائنا: الإرهابيون الذي يستهدفون شعبنا وثورتنا واغتالوا رفاقنا. إننا لن نكون إلاّ مع معالجة صارمة للعصابات الإرهابية، وصرامتها لا تعني البتة التشريع للتعذيب وتلفيق التهم والعقاب الجماعي للعائلات والأقارب وعسكرة الفضاء العام وتقييد الحرية وفشستة القانون، نحن مع معالجة شاملة تحترم الحقوق والحريات وتحميها وتخلق الشروط لتوسيع المشاركة الشعبية في محاربة الإرهاب والواقفين معه وداعميه والمتقاطعين معه.

علي الجلّولي: عضو لجنة مركزية لحزب العمال

“صوت الشعب”: العدد 188

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×