الرئيسية / أقلام / تواصل مساعي الالتفاف على المسار الثوري: “دخلاء الجمهورية أم جمهورية الدخلاء؟”
تواصل مساعي الالتفاف على المسار الثوري: “دخلاء الجمهورية أم جمهورية الدخلاء؟”

تواصل مساعي الالتفاف على المسار الثوري: “دخلاء الجمهورية أم جمهورية الدخلاء؟”

%d8%b4%d8%b4كم هي عديدة ومتعددة الوضعيات التي تتخذها قوى الثورة المضادة في جميع المنعطفات التاريخية؟ فهي كالحرباء تتلون باستمرار حسب ما تمليه عليها اللحظة ويتطلّبه الإطار بدون تردّد أو خجل أو حياء. تلك هي طبيعتها التي لا تقوى على مصارعتها والتي عاشرتها طويلا فاستأنست عشرتها وأصبحت لا تطيق فراقها إلى حد الانصهار فيها والتباهي بها. وهي تسعى دائما للمراوغة بإضفاء صورة جميلة على ملامحها لتغطية قبحها. الشيء الذي يجعلها تتظاهر بما لا تملك وتدعي ما لا تؤمن به.

الفتاوي الديمقراطية

إن المشهد الذي نعيشه في تونس حاليا يكاد يكون سرياليّا من شدّة الغرائب والعجائب التي ما انفكّ يتحفنا بها أهل الزّمان خرّيجي العهدين البورقيبي والنوفمبري، وكذلك أولئك الذين ينتمون لعصور الظلام الغابرة. ما إن استفاقوا من الدّوار وحالة الغثيان التي أصابتهم أثناء ملحمة 17ديسمبر-14 جانفي حتى سارعوا في إعادة ترتيب البيت من جديد كي يتحصّنوا ضد الثورة والثوّار. فصاروا يلعلعون بأصوات عالية في جميع أنحاء البلاد منادين بقيم الحرية والكرامة الإنسانية ومدافعين عن الجمهورية الديمقراطية صباحا مساء كي يتخلّصوا من عباءة الماضي القريب ويتطهّروا من مستنقع الرّذيلة ويصبحون شرفاء البلد ومخلصي العباد من القمع والقهر.

ولتيسير تسرّبهم إلى المشهد السّياسي واحتلال مواقع متقدّمة فيه تفنّنوا في إسداء الفتاوي المستلهمة من مدارس الديكتاتورية والظّلامية التي نشأوا وترعرعوا فيها. فأصبح للديموقراطية معاني جديدة لا يقدر على استنباطها ولا حتّى على استيعابها أعتى مِؤسّسيها ومنظريها. فمن جهة قرّر نوابغنا الإسلاميون أنها لا تعدو أن تكون آلية للصعود إلى سدة السلطة عبر الانتخابات مع إلغاء كل الآليات الأخرى المتعلّقة بالمراقبة والمحاسبة البرلمانية وخاصة منها الشعبية التي تعدّ أهم ركيزة للعملية الديمقراطية فجثموا على صدور التونسيين سنتين ونيف عوض السّنة كما اتفق عليه باسم الشرعية الانتخابية التي صمّوا بها آذاننا.

ولا يفوتنا في باب الفتاوي الديمقراطية لمشايخ الإخوان أن نذكّر بنسخة دستور 2013 المستلهم من “الشريعة”، أين وقع التنصيص على أن “المرأة مكمّلة للرجل” وتهديد مدنيّة الدولة والحقوق والحريات.

التمسّك بقيم الجمهورية ومبادئ الديمقراطية من قبل الإسلاميين تجلّى أكثر في الدّفاع المستميت واللامشروط عن دويلات الخليج الريعيّة التي تفتقر إلى أبسط أركان ومقوّمات الدولة الحديثة ولا ترتقي حتى إلى مستوى أسوأ أنواعها مثل الديكتاتوريات. ألا تنسجم كل هذه الفتاوي وكل هذه المواقف مع منظومة الخلافة السادسة التي تمّ الإعلان عنها خلال “لحظة ربّانية”؟

ضرب مبدأ توازن الحياة السياسية

البراعة في إصدار الفتاوي ليست حكرا على إخوان النهضة فحلفائهم الندائيون أيضا لهم باع وذراع في هذا الشأن، وهنا يكمن سرّ التحالف بينهما. فكما يقول المثل “الطيور على أشكالها تقع”. انطلاقتهم في هذا الميدان كانت مع فوزهم في الانتخابات التشريعية أين أفتوا بأن الحزب الأوّل يجب أن يتحالف في الحكم مع الحزب الثاني ليضمن أغلبية مريحة في البرلمان. فسارع هذا الأخير بمباركة هذه الفتوى وردّ بأحسن منها حينما حيّا النداء على ديمقراطيته بما أنّه تخلى على الانفراد بالسلطة ورفض “التغوّل” وبذلك أمكن لهما التغوّل سويّة والدّوس على إحدى المبادئ الأساسية للديمقراطية المتمثّلة في تحمّل الفائز الأول في الانتخابات مسؤوليته كاملة في ممارسة الحكم والتّموقع في المعارضة من طرف الفائز الثاني.

وبعد هذه الزيجة مباشرة بدأت حملة تشويه ضد الجبهة الشعبية واتهامها بالخروج عن صف الوحدة الوطنية لرفضها المشاركة في الحكومة ضاربين عرض الحائط بمبدإٍ آخر هام للجمهورية الديمقراطية التي ينادون بها ألا وهو ضرورة وجود معارضة لمواجهة السلطة القائمة، وبالتالي ضمان التوازن في الحياة السياسية. ومنذ ذلك الحين أصبح التوأم السياسي الذي أفرزته انتخابات 2014 يوجّه سهامه ويصبّ جام غضبه على الجبهة الشعبية بسبب تعنّتها ورفضها الانضمام إلى فريق الحكم وشهود الزّور المجمّل لوجه الائتلاف الحاكم القبيح، وذلك باسم “حكومة الوحدة الوطنية” وكأنّنا أمام خطر خارجي داهم والتي ما انفك هذا الأخير يلقّننا دروسا فيها ويكرّرها ويجترّها ويعيد صياغتها علّه يفلح في إقناع الجبهة بها وبالتالي حملها على تغيير موقفها.

تعنّت أهل السلطة وإصرارهم على  تخريب الديمقراطية المستحدثة والجمهورية الثانية التي يتغنّون بها دفعهم أيضا لاتّهام المعارضة بقيادة الجبهة الشعبية بتهديد هذه القيم عندما تصدّت جماهيريا لقانون المصالحة مع الفاسدين وذلك بالتظاهر في الشوارع، معتبرة أنّ الاعتراض على القوانين يجب أن يتمّ فقط تحت قبة البرلمان وليس في الفضاء العام وبتشريك الجماهير الشعبية، كما ردّدت ذلك مرارا وتكرارا المستشارة لدى رئيس الجمهورية، ناسفين بذلك روح الديمقراطية وكنه شرعية النظام السياسي التي ترتبط عضويا بمشاركة الشعب،  مانح الثقة والمصدر الأصلي للسلطة.

مصادرة الرأي وحرية التعبير

الائتلاف الحاكم الدّخيل على الديمقراطية والجمهورية يستند إلى روافد هامّة عزّزت موقعه ودعّمت مواقفه بفضل مهاراتها في نسف القيم والمبادئ التي تنبني عليها هذه الأخيرة. من بين هؤلاء نجد “التكنوقراط” الذين أرسلهم إلينا الغرب “المنبهر” بثورتنا وبتجربتنا الديمقراطية الفريدة و”الداعم” لها. لقد جاد بهم علينا لكي يساهموا مساهمة فعليّة في خدمة بلادهم وبناء الديمقراطية وترسيخ أسس الجمهورية الثانية بفضل التكوين الذي تلقّوه هنالك في “الوطنية” والذي جعل منهم وطنيّين حدّ النخاع.

هنالك أيضا “المناشدون” أصحاب الخبرات الطويلة في التزلّف والانبطاح وبيع الذّمم وعرض القوانين والمؤسّسات لدولة صانعهم للبيع بالمزاد العلني. إنهم يستميتون في خدمة أسيادهم الجدد ويطوّعون أقلامهم وعقولهم وألسنتهم لخدمتهم والدفاع عن عرشهم حتى يحافظوا على موطئ قدم في البلاط. وحتى أولئك الذين يفتقرون إلى هذه المهارات ولا يملكون غير المال، ونقصد هنا “رجال لعْمايِل”، فإنهم لم يتخلّفوا عن دعم مشروع الائتلاف الحاكم والانخراط فيه وذلك باقتحام الحقل الإعلامي والسيطرة عليه لجعله أداة طيّعة في يد هذا الأخير وبالتالي مصادرة حرية الرأي والتعبير.

إنهم في حقيقة الأمر متتلمذون لدى ساكن قرطاج الذي ما فتئ يهين الصحافيين ويعتدي عليهم لفظيّا كلّما أحرجه أحدهم بسؤال وذلك منذ كان وزيرا أولا في 2011 وإلى اليوم، وما حصل مؤخّرا أثناء فاجعة حادث المرور بجبل الجلود إثر اصطدام قطار بحافلة، عندما سألته صحافية عن الإجراءات التي سوف يتمّ اتخاذها في هذا الشأن. لا يجب أن يُسأل صاحب السلطة المطلقة أو هكذا يتراءى له، بما أنه كبر وترعرع في الدولة المتسلّطة، الشيء الذي جعله يتشبّه ب”المجاهد الأكبر” في جميع صفاته حيث أصبح نسخة منه في صورته وأفعاله وجسّد ذلك أحسن تجسيد خلال خطابه الأخير بمناسبة السنة الادارية الجديدة أين جدّد استعمال “أساليبه الديمقراطية جدا” حينما انتقد بشدة الأطراف التي لم تمض على “وثيقة قرطاج” ويعني هنا تلميحا طبعا الجبهة الشعبة، والتي وصفها ب”التغريد خارج السرب” لأنها تصرّ على التأكيد على قتامة الوضع الاقتصادي والاجتماعي في البلاد وإفساد صورته الوردية الناصعة.

إن الشيء من مأتاه لا يستغرب فهو لم يتربّى على ثقافة المواطنة بل دأب على حذق واستيعاب ثقافة “السرب” و”القطيع”. ما عسانا إلا أن نقول على لسان “الفرسان الأربعة”: “خرّبتوا هالجمهورية”.

“صوت الشعب”: العدد 227

فوزي القصيبي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×