الرئيسية / صوت الوطن / علم آخر من أعلام الفكر الحرّ يترجّل …
علم آخر من أعلام الفكر الحرّ يترجّل …

علم آخر من أعلام الفكر الحرّ يترجّل …

غادرنا هذه الأيّام الجامعي والمفكّر التّونسي الكبير محمّد الطالبي. وقد ترك الرّجل وراءه عددا هاما من المؤلّفات 77s titre-1والمواقف التي اتّسمت بالجرأة والشّجاعة. فقد وقف الفقيد في وجه الدّكتاتورية في زمن بن علي ودافع بقوّة عن الحرّيات وخاصة حرية الرأي والتّعبير وناصر ضحايا القمع بمختلف اتّجاهاتهم ووقف نصيرا لحقوق النّساء ورافضا لحكم الإعدام. وبعد الثّورة انتصب الفقيد، بكلّ ما لديه من معرفة بالتاريخ العربي الإسلامي شوكة في حلق القوى الظّلامية، بدءا بحركة النهضة ووصولا إلى الجماعات السلفيّة الوهابيّة، يفضح طابعها الرّجعي والاستبدادي المتخلّف وينبّه التونسيّات والتونسيّين إلى المخاطر المحدقة بهم جرّاء التّجارة بالدين والخلط بينه وبين السّياسة. وقد ظلّ الفقيد يقدّم في مواجهته لهذه القوى الظّلامية قراءة متميّزة للنّصوص الدينية، يقطع فيها مع القراءات المتحجّرة والمعادية للحرّيات والحقوق الإنسانية التي يستعملها أصحابها غطاء للدّفاع عن مصالحهم ومصالح أكثر الفئات رجعيّة في المجتمع.

لقد تعرّض محمّد الطّالبي، زمن بن علي، إلى شتّى ضغوط النّظام البوليسي النوفمبري. فكان تحت المراقبة المستمرّة وحوصرت كتاباته ومُنِعت أحيانا أخرى وتعرّض الرّجل إلى حملات التّشويه والتّخوين واتّهم بـ”العمالة”. ولكنّه لم ينحنِ، وكان حاضرا في كلّ المعارك تقريبا رغم كبر السنّ ومتاعب المرض. أمّا بعد الثورة ووصول “حركة النهضة” إلى الحكم، فقد تغيّرت الأساليب والوسائل في مواجهة الرّجل. لقد أطلقت القوى الظّلامية كلابها لتكفيره والدّعوة، عبر الشبكات الاجتماعيّة، إلى إهدار دمه. ولكنّ الرجل لم يتزعزع. فعمل إعلام المجاري، المرتبط بألف خيط وخيط بالجماعات الماسكة بالسّلطة والمقرّبة من “حركة النهضة”، على تشويه صورة الرّجل وتحريض الناس عليه من خلال جرّه، وهو في سنّ متقدّمة جدّا وفي حالة صحّية متعبة، إلى منابر إعلاميّة جُعِلت للإثارة وليس للنّقاش الفكري الهادئ، ودفعه إلى الخوض في قضايا ذات أبعاد دينيّة، بهدف إثارة الناس ضدّه وتشويهه والاستهزاء منه.

إن الرّابط بين عهد بن علي وبين عهد “النهضة” وحلفائها وأعوانها هو معاداة حرّية التّفكير. فكلاهما يُعادي المفكّرين والمثقّفين الأحرار لأنهم يكشفون مساوئ الاستبداد ويفضحون آليّاته ودواليبه ويربّون الناس على الحرّية وعلى الجرأة على النّقد ورفض الخضوع والاستكانة. ولئن اختلفت الأساليب والوسائل من عهد إلى آخر فإنّ الهدف واحد وهو حماية سلطة الاستبداد من النّقد وتلجيم معارضتها لتتمكّن من السيطرة على المجتمع وإخضاعه لمصالح الأقلّيات التي تستأثر بمعظم خيراته وثرواته على حساب الأغلبيّة. فالأفكار مهما كانت ليست بمعزل عن الواقع الاجتماعي والسّياسي بل هي أسلحة بيد القوى المتصارعة في المجتمع، وهي تُستعمَل إمّا لتلويث الوعي وتبرير الاستغلال والحيف أو للتّنوير والتّعبئة من أجل مقاومة التخلّف وإقامة العدل وتحرير الإنسان من الجهل والاستغلال.

لقد وقف الأستاذ محمد الطالبي بعناد كبير ضدّ الدكتاتورية النّوفمبرية، كما وقف بعنادٍ أشدّ وأقوى ضدّ مشروع القوى الظّلامية بزعامة حركة النهضة، ولم يدّخر أيّ جهد لفضحه والتّشهير به انتصارا منه لثورة الشّعب ورفضا لإجهاضها. وفوق ذلك كلّه فهو صاحب منهج فكري في التّعامل مع التراث الدّيني بشكل نقدي (المنهج المقاصدي)، وهو ما مكّنه من أن يكون، بخلفيّته الدّينية نصيرا لقضايا الحرّيات ومعاديا للاستبداد بمختلف أشكاله. وقد تجاوز صيته تونس ليصل إلى العديد من الأقطار في مختلف أنحاء العالم، فللرّاحل أصدقاء ومريدون كثيرون في الخارج. ولأجل ذلك فهو يستحقّ التّقدير والاحترام، مهما كان حجم الاختلاف معه في هذه القضيّة أو تلك. إنّ بلادنا محتاجة في هذا الزمن الذي تسيطر فيه الرّداءة والانحطاط، إلى من يفكّر ويحرّر جماهير الشعب، ولو بقسط، من الجهل والظّلام ويدفعها إلى المسك بمصيرها.

فتحيّة لروح الفقيد محمد الطالبي، وهو يغادرنا إلى الأبد…

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

2 × 4 =

إلى الأعلى
×