الرئيسية / صوت الوطن / لا خوف على اليسار الثوري فهو باق ويتمدد
لا خوف على اليسار الثوري فهو باق ويتمدد

لا خوف على اليسار الثوري فهو باق ويتمدد

علي البعزاوي

التجربة اليسارية التونسية تجربة حديثة العهد وهي مسار تشقه الخلافات والصراعات والتجاذبات التي لن تتوقف لأنها تعبير عن الواقع من زوايا مختلفة. هناك يسار ماركسي لينيني ويسار ماوي ويسار تروتسكي ويسار اشتراكي ديمقراطي وآخر إصلاحي وأناركي… والمقاربات تختلف باختلاف هذه المرجعيات. لكن التشبيك والعمل المشترك يبقى رغم هذه الاختلافات ممكنا.

إنّ الظروف الدولية والثقافة السائدة اليوم ليست مواتية لليسار واليساريين. فهم يجدون صعوبات جدية في الإقناع بمشروعهم خاصة بعد فشل التجربة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفياتي. لهذه الأسباب وغيرها تحتدّ الصراعات بين اليساريين وتصبح في بعض الأحيان غير قابلة للحل في انتظار أن يؤكد الواقع صحة هذه المقاربة أو تلك.

لكن فشل الرأسمالية بمختلف تعبيراتها السياسية في إعالة الشعوب وتوفير الأدنى من انتظاراتها المختلفة وإحلال السلام بدل الحروب المدمّرة مقابل انتشار الفقر والبؤس والأوبئة والجريمة والانحطاط الأخلاقي، يوفر للأحزاب اليسارية مناخا ملائما للانتشار والتأثير والإقناع فتحقق هنا وهناك بعض النجاحات الجزئية لكنها مهمة من زاوية المراكمة على طريق عودة اليسار إلى المشهد السياسي بديلا عن الرجعية بمختلف نسخها.

وبإلقاء نظرة سريعة على واقع اليسار ومسار تطوّره منذ سقوط التجربة في الاتحاد السوفياتي إلى اليوم نلاحظ عودة مهمة وملموسة للأحزاب اليسارية في عديد البلدان، وهي مؤثرة في واقع بلدانها ومجتمعاتها بهذا القدر أو ذاك وهي بصدد التطور نحو الأفضل في أمريكا اللاتينية وأفريقيا وأوروبا وفي تونس أيضا.

إنّ ما جرى ويجري داخل مختلف الأحزاب والمجموعات اليسارية من صراعات وانقسامات وتعطل يمكن فهمه في هذا السياق. هناك انسحابات وانقسامات مثلما هناك وافدون جدد على هذا الحزب أو ذاك. وهناك ارتباك وتعطل. وفي نفس الوقت محاولات لتصحيح الأوضاع الداخلية في اتجاه المزيد من الوحدة والقدرة على الفعل في الواقع. وهناك انتصارات ولو بسيطة وجزئية وإخفاقات أيضا.

إنّ مسار البحث عن الاستقرار والوحدة بمعناها الفكري والسياسي والتنظيمي من أجل مزيد النجاعة والفاعلية والقدرة على التأثير في الواقع ومواجهة مختلف التحديات متواصل. والصراع الطبقي مثلما يفعل فعله داخل المجتمع يفعل أيضا فعله داخل الأحزاب باعتبارها كائنات حية. والأكيد أنّ عديد الخلافات/الصراعات سيحسمها الواقع داخل كل حزب يساري على حدة بترجيح هذه المقاربة أو تلك أو بين الأحزاب اليسارية حتى يتسنى لهذا الحزب أو ذاك فرض مشروعه وتبوّء قيادة النضال من أجل مشروع بديل قادر على لف الأغلبية حوله سواء في شكل ائتلاف أو جبهة. ومثلما توفرت عوامل الانقسام في ظروف معينة فإنّ الواقع الموضوعي سيدفع مرة أخرى في اتجاه التقاطع والوحدة.

إنّ الحزب الماركسي اللينيني المعبّر عن مصالح الطبقة العاملة باعتبارها الطبقة الأكثر ثورية في المجتمع بحاجة الى وحدة صماء، وحدة الفكر والسياسة والتنظيم، وحدة يقوّيها الصراع الديمقراطي الذي يحسم بالأغلبية والأقلية داخل كل حزب، حتى يكون الحزب قادرا على مواجهة الرأسمالية المنظمة من أخماسها إلى أسداسها بمؤسساتها المختلفة العسكرية والأيديولوجية والفكرية وترسانتها القانونية وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية المكرسة للاستغلال… وكسب المعركة ضدها وفرض المشروع الذي يناضل من أجله.

أما الأحزاب الإصلاحية بمختلف مشاربها الفكرية التي أصابها داء الليبرالية وتشقها الصراعات والخلافات دون قدرة على حسمها وتعشش داخلها الشقوق والكتل التي أجبرتها على اتخاذ مواقف توفيقية مترددة وباهتة في السياسة فلن تقدر على تغيير الواقع أو حتى مجرد المراكمة على طريق تكريس مشروعها. وستبقى على الدوام احتياطيا للقوى اليمينية التي تهيمن على مشهد الحكم وربما تتلاشى مع مرور الوقت. والتجربة اليسارية التونسية منذ عشرينات القرن الماضي إلى اليوم تؤكد هذه الفكرة حيث ناصرت بعض الأحزاب المحسوبة على اليسار نظام بورقيبة تحت شعار المساندة النقدية ونظام بن علي بدعوى مقاومة الإسلاميين وبنفس هذه الخلفية دعّمت السبسي بعد الثورة وتناصر اليوم الشعبوية.

إنّ تطور الواقع سيفرض على هذه الأحزاب مراجعة ذاتها في اتجاه مزيد التأقلم مع متطلباته أو الاندثار. وفي هذا السياق جاء اليسار الجديد بديلا عن تجربة الحزب الشيوعي التونسي الذي اندثر مع مرور الوقت لأنه لم يعد قادرا على التأثير والإقناع. وهذا اليسار الجديد أفرز مع مرور الوقت تنظيمات وأحزاب جديدة (حزب العمال الشيوعي التونسي بديلا عن منظمة العامل التونسي – حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد الذي جمع بين الوطنيين الديمقراطيين وشق من حزب العود). والأكيد أنّ أحزابا ومجموعات أخرى ستتطور في اتجاه الوحدة أو مزيد الانقسام (بروز شقين داخل الوطد الثوري شق الكحلاوي وشق العويني) أو الاندثار (حزب النضال التقدمي-رابطة اليسار العمالي).

إنّ الصراع الفكري والسياسي داخل كل حزب يساري على حدة أو بين الأحزاب اليسارية وتعاطيها مع الواقع هو الكفيل بتحديد مساراتها سواء في اتجاه التصحيح بعيدا عن الانحرافات الانتهازية البورجوازية الصغيرة التي تجر هذه الأحزاب أو مجموعات صغيرة داخلها إلى مربع منظومة الحكم بالتطبيع مع خياراتها اللاوطنية واللاشعبية مقابل فتات أو في اتجاه مزيد التقوقع فالاضمحلال.

إنّ النزعات اليمينية والانتهازية داخل الأحزاب اليسارية لا تعبّر عن نفسها بكامل الوضوح منذ الوهلة الأولى. بل تسعى في البداية إلى محاولة الظهور بمظهر الناقد للبيروقراطية والانحراف عن الخط السياسي الثوري تارة أو برفع شعار البحث عن مراجعات وحلول لتجاوز الأزمة المركبة، أزمة الانغراس صلب الجماهير وكسب الأصوات في الانتخابات والإقناع بالمشروع اليساري البديل تارة أخرى. لكن الواقع سرعان ما يزيح اللثام عن هذه المجموعات وعن حقيقة علاقتها بما تطرحه من تصحيح. وحالما ينكشف أمرها وتتضح نواياها الحقيقية يتناساها المتابعون وينفضّ من حولها من استطاعت خداعهم قبل أن تندثر نهائيا.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×