الرئيسية / صوت الوطن / لن يمرّوا…
لن يمرّوا…

لن يمرّوا…

مرتضى العبيدي

مرة أخرى يجد الاتحاد العام التونسي للشغل نفسه مضطرّا للدفاع عن كيانه بصفة مباشرة، وعن الحريات النقابية والسياسية بشكل أعمّ، وهو يتعرّض لإحدى أشرس الهجمات عليه.

فكون الشعبوية لا تقبل بالرأي المخالف عموما، فهذا معلوم. وكونها تضيق ذرعا بالأجسام الوسيطة، سياسية كانت أم اجتماعية، أو مدنية، فهذا ما أشارت إليه عديد الدراسات المتعلقة بتطورها في فضاءات غير فضائنا.
أما أن تناصب العداء في تونس لأحد أعمدة النسيج الاجتماعي الذي قامت عليه التوازنات السياسية والاقتصادية والاجتماعية منذ ما يزيد عن سبعة عقود، فهذا لا يمكن أن يُصنّف إلا في باب العماء السياسي، خاصة لما تكون الآليات المستعملة هي مجرّد نُسخ مبتذلة من آليات جُرّبت في السابق وأثبتت إفلاسها.

فزيادة على خطابات الترذيل والتخوين التي تتعرض إليها المنظمة النقابية من أعلى هرم السلطة، وتتناقلها بغباء أبواقه التي تتصرف بلا حسيب ولا رقيب، نلاحظ منذ مدة اتخاذ بعض الإجراءات هدفها مضايقة الاتحاد بهذا الشكل أو ذاك:
فاستقبال رئيسة الحكومة للأمين العام لاتحاد عمال تونس إسماعيل السحباني، في محاولة لـ “إحياء العظام وهي رميم” كما قال البعض، والإجراءات التي تلت ذلك اللقاء مثل قرار الحكومة بتعميم الخصم المباشر لفائدة النقابات غير الاتحاد حتى تلك التي لا تُرى بالعين المجرّدة (حتى أن بعضها لم نكد نسمع بوجوده إلا من خلال المنشور الحكومي الصادر بالمناسبة)، وتضمّن الرائد الرسمي لإعلان عن تأسيس نقابة جديدة في قطاع التربية والتعليم بالذات، وتوزير أحد الأعضاء السابقين للمركزية النقابية المختلف مع القيادة الحالية والمساند لما يسمّى بمسار 25 جويلية، كلها رسائل مشفّرة ليست باتجاه قيادة الاتحاد فحسب بل لكافة هياكله ومناضليه.

إن تاريخ الاتحاد مليء بمثل هذه المناورات التي سعت جميعها لتحييده أو لتحجيم دوره في الحياة الوطنية بل وأحيانا لإخماد صوته بصفة نهائية.
فمنذ تأسيسه لا تكاد تمرّ عشرية إلا وكان للاتحاد فيها نصيبه من المناورات والمؤامرات. لكن الاتحاد الذي عرف، وهو في سنيّ النشأة، كيف يحافظ على كيانه بعد اغتيال زعيمه ومؤسسه الشهيد فرحات حشاد، تمكّن عبر تاريخه من الصمود في وجه كل الهجمات التي استهدفته، إن من داخل القلعة أو من خارجها.

يكفي أن نشير في هذا الصدد الى عدد المؤتمرات الاستثنائية التي وسمت تاريخه والتي جاءت إما للانقلاب على قيادة شرعية أو للـ “المصالحة” بينها وبين القيادات المنصبة. فمنذ 1957، وبعد مرور سنة فقط على مؤتمره الشهير المؤتمر السادس الذي انبثق عنه “البرنامج الاقتصادي والاجتماعي” الذي سيكون له شأن في السياسات الاقتصادية والاجتماعية للبلاد في لاحق السنين، وجد الاتحاد نفسه يعقد مؤتمره السابع المسمى مؤتمر التوحيد ليُعيد الى حضيرته المجموعة المنشقة عنه والتي أسست بإيعاز من السلطة القائمة “اتحاد عمال تونس”، ومثّل ذلك فاتحة للمؤتمرات الاستثنائية اللاحقة. إذ أنه وبتاريخ 31 جويلية 1965، وبعد قضية كيدية زُجّ على إثرها بالحبيب عاشور بالسجن، عقد الاتحاد مؤتمرا استثنائيا جديدا نُصّب خلاله والي تونس آنذاك البشير بلاّغة أمينا عاما للاتحاد. وبعد انتهاء تجربة التعاضد وحملة التخلص من رموزها، أزيح البشير بلاّغة في مؤتمر استثنائي أعاد الحبيب عاشور على رأس الاتحاد. وعلى إثر ملحمة الإضراب العام 26 جانفي 1978 والزج بأغلبية أعضاء القيادة النقابية بالسجن، انتظم مؤتمر استثنائي (28 فيفري 1978) لتنصيب من قبلوا بالانقلاب وعلى رأسهم التيجاني عبيد سيء الذكر. وقد تمت إزاحتهم في مؤتمر قفصة الاستثنائي الذي نظمته اللجنة الوطنية للمصالحة (29/30 أفريل 1981). وجاء “شرفاء” محمد مزالي سنة 1985 لينقلبوا على الاتحاد ويتربعوا على عرشه وطنيا وجهويا، إلى أن أزاحهم مؤتمر سوسة الاستثنائي (17/19 أفريل 1989) الذي أوصل السحباني على رأس الاتحاد بعد قبوله تحويل الاتحاد الى نقابة صفراء، إلى أن أزاحه هو نفسه مؤتمر جربة الاستثنائي (17/09 فيفري 2002).
فكل هذه المحطات وهي غيض من فيض تعطي صورة على طبيعة العلاقة بين السلطة القائمة والاتحاد الذي كان دوما مهددا في استقلاليته بفعل رغبة السلطة الجامحة في تحديد مربّع تحرّكه. فلم يكن الاتحاد يوما في منأى من هذا التدخل السافر أو المقنع والذي كان عموما يُنفذ بأياد من داخل الاتحاد ذاته، وإن تعذر ذلك فبقوة البطش وحبك الدسائس والمؤامرات.

ولم يتغيّر الوضع بعد ثورة 17/14 إذ سرعان ما جاهر حزب النهضة الحاكم بالعداء للمنظمة النقابية بالتلميح والتصريح قبل أن يُطلق عليها قطعانه الميليشيوية في واقعة 04 ديسمبر 2012، قبل أن يُقرّ بفشله ببعثه لنقابته الخاصة “المنظمة التونسية للشغل” وينصب على رأسها المسمّى الأسعد عبيد، ابن التيجاني عبيد الآنف الذكر.

وها أن سلطة اليوم التي روّجت ولا زالت أنها أقيمت على أنقاض حكم النهضة وضدّها تسلك نفس المسلك وتناصب العداء لهذه المنظمة العريقة التي مهما اختلف معها أطياف من التونسيين فإنهم لا يختلفون عليها. ففي أغلب المحطات المذكورة كانت المنظمة النقابية تعيش حالة من الصراع الداخلي الذي أدّى في كثير من الأحيان إلى إجراءات “تأديبية” من تجريد من المسؤولية الى طرد من الاتحاد، إلا أن المعنيين بهذا الإجراءات كانوا دوما في الصفوف الأمامية للدفاع عن المنظمة، ولعل مقرات الاتحادات الجهوية في أغلب أنحاء مازالت شاهدة على ذلك إبان هجمات الشرفاء على سبيل المثال.
فهلاّ يتعظ الساسة من هذا التاريخ الحافل بالبطولات أن أبناء الاتحاد اليوم كما بالأمس على أتم الاستعداد للدفاع عن منظمتهم، كلفهم ذلك ما كلفهم، لأن الاتحاد ليس ملكا لمنتسبيه فحسب بل هو ملك لجموع الكادحين والفقراء والمضطهدين.
لن يمرّوا… دمي اتحد الآن بالشهداء
لن يمرّوا… وشرعت صدري لأحمي الجدار
لن يمرّوا… وإن عبروا … فعلى جثتي… لا خيار

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×