الرئيسية / صوت العالم / النضال ضد الشعبوية في أوروبا (*)
النضال ضد الشعبوية في أوروبا (*)

النضال ضد الشعبوية في أوروبا (*)

الجزء 1/4
ترجمة مرتضى العبيدي

إنّ الحاجة إلى تعريف صحيح وتقييم موضوعي للظاهرة الشعبوية لها أهمية كبيرة بالنسبة للأحزاب والمنظمات الماركسية اللينينية في أوروبا، نظرًا لتأثيرها المتزايد بين جماهير العمال وفي أكثر الفئات تضررًا من المعاناة الاجتماعية.
لذلك يجب أن نحاول توضيح طبيعة الشعبوية وخصائصها، وتحليل قواعدها الاجتماعية ودراستها، وكذلك الأشكال الملموسة لسياساتها، من أجل مكافحتها أيديولوجيًا وسياسيًا.

فـ”الشعبوية” (النزعة السياسية التي تطمح لكسب الطبقات الشعبية) ليست مفهوما جديدا. ولدت هذه الحركة السياسية في روسيا في منتصف القرن التاسع عشر تحت تأثير أ. آي. هيرزن (1). كان الشعبويون منتقدين طوباويين ورومانسيين للرأسمالية. لقد دعوا إلى ثورة تقوم على تقاليد الجماعات الزراعية وطالبوا المثقفين بوضع أنفسهم في خدمة الناس.

عرّف لينين هذه الظاهرة على النحو التالي: “يتمثل جوهر الشعبوية في حقيقة أنها تمثل مصالح المنتجين من وجهة نظر المنتج الصغير، البرجوازي الصغير”.

كما ظهر في الولايات المتحدة في عام 1891 حزب شعبوي، “حزب الشعب”، الذي كان له قاعدته الاجتماعية بين جماهير صغار الملاك الزراعيين البيض الرازحين تحت الديون والساخطين على التفاوت الاجتماعي المتزايد في مجتمع كانت هيمنة رأس المال المالي عليه تتأكد يوما بعد يوم.

أما الشعبوية اليوم فهي تختلف عن التي كانت في القرن التاسع عشر. إنها تنشأ في ظروف تاريخية واجتماعية مختلفة: من مرحلة تطور الرأسمالية الاحتكارية إلى مرحلة تفاقم الأزمة العامة للرأسمالية. ولكن على الرغم من الاختلافات الناجمة عن الظروف التاريخية المختلفة، فإنّ جوهر الشعبوية وهدفها الأساسي، اليوم كما كان بالأمس هو كبح جماح الجماهير الشعبية وفي المقام الأول البروليتاريا وحرفها عن النضال الواعي والمنظم ضد الرأسمالية والإمبريالية.

اليوم، في أوروبا، لهذه الظاهرة السياسية تعبيرات وأشكال تنظيم مختلفة. ففي البلد الواحد، يمكن أن تتخذ الشعبوية عدة أشكال، أحيانًا في منافسة مع بعضها البعض، في أعقاب الأزمة الاقتصادية والسياسية العميقة التي أثرت على جميع البلدان في العقود الأخيرة، وولّدت تفاوتات عميقة صلب شرائح اجتماعية واسعة، بما فيها البرجوازية الصغيرة والوسطى.

يرتبط انتشار الدعاية الشعبوية بتدهور الظروف المعيشية والعمل للجماهير الواسعة، والتأثير السياسي والاجتماعي العميق لسياسات الليبرالية الجديدة وسياسات التقشف، وأزمة شرعية المؤسسات البرجوازية وسلطتها، وكذلك بالأزمات والتناقضات الداخلية والتصدعات التي تحدث داخل الطبقات السائدة.

إنّ النجاح السياسي للشعبوية هو نتيجة مباشرة للأزمة، ولتدهور النظام السياسي والأخلاقي والانتخابي للأحزاب الليبرالية والاجتماعية الديمقراطية السابقة. وفي غياب حركة عمالية مستقلة وثورية، يملأ الشعبويون هذا الفضاء السياسي.

تتطور الشعبوية عندما تضعف سياسة “الوفاق الاجتماعي”، أي نظام التعاون الطبقي بين الدولة البرجوازية والنقابات والصناعيين، وهو أساس دولة الرفاه. وهذا يؤجج حركات الاحتجاج الواسعة التي تنشط فيها الجماعات الشعبوية من “اليسار” واليمين المتطرف والفاشيين والنازيين.

فالشعبوية إذن هي تعبير عن الأزمة العميقة للديمقراطية البرجوازية وأشكالها التقليدية للتمثيل السياسي، وخاصة تلك المتعلقة بالأحزاب الإصلاحية، التي لا تقدم بديلا عن السياسات النيوليبرالية والتقشفية، ولم تعد تريد تمثيل العمال والمصالح الشعبية. وفي نفس الوقت، فإن رد النظام البورجوازي هو التغلب على “أزمة التمثيل” ومحاولة توظيف سخط الجماهير الشعبية وغضبها لصالح أهدافه السياسية.

إنّ صعود الشعبوية هو نتيجة للإجراءات الرجعية والتسلطية المعادية للشعب التي تطبقها البرجوازية وأحزابها الليبرالية والاشتراكية الديمقراطية، والتي تفكك الإنجازات والحريات الديمقراطية للعمال، وتقيّد الحقوق البرلمانية البرجوازية، وتنتزع السيادة الشعبية، وتلغي الاستقلال الوطني وتكثف القمع ضد الحركة العمالية والنقابية.

ومن بين العوامل المساعدة على انتشار الشعبوية الهزيمة المؤقتة ولكن العميقة والمتعددة الأوجه للاشتراكية، على الصعيد الدولي، والصعوبات التي تحول دون استرجاع حركة الطبقة العاملة لزخمها، نظرا لضعف الثقة بالنفس لدى هذه الأخيرة، فضلاً عن الضعف السياسي والأيديولوجي والتنظيمي لأحزاب الطبقة العاملة والحركات الثورية بشكل عام.

إنّ الحالة التي عليها المجتمع البرجوازي اليوم، بسبب المستوى الذي وصلت إليه تناقضاته، وتخلف العامل الذاتي للثورة البروليتارية، تساعد على انتشار الظواهر المرضية مثل الشعبوية، “مرض الشيخوخة” النموذجي للإمبريالية.

الظاهرة الشعبوية في أوروبا
تميز العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين في أوروبا بنمو اقتصادي ضعيف، في أعقاب أزمة فائض الإنتاج الكبيرة في عام 2008، وزيادة عدم الاستقرار السياسي. وأدّت هذه للأزمة الى تخفيضات في الرواتب والمعاشات والنفقات؛ وازدادت التفاوتات الاجتماعية بشكل كبير وانتشر الفقر بين الجماهير وكذلك الهشاشة.
كما أن ضغوط الهجرة والإرهاب، التي تتلاعب بها وسائل الإعلام البرجوازية بمهارة، أدت إلى زيادة الشعور بعدم الأمان الاجتماعي، بينما زاد الفساد والمحسوبية والفضائح من عدم الثقة بالأحزاب التقليدية.

في هذا الوضع التاريخي حيث “يموت القديم والجديد لا يمكن أن يولد” (غرامشي)، ظهرت في العديد من البلدان، من شمال الاتحاد الأوروبي الى جنوبه، أشكال سياسية جديدة لحرف الجماهير الشعبية، وخصوصا البروليتاريا، عن النضال الثوري الواعي والمنظم ضد الرأسمالية التي لا تفقد طبيعتها الرجعية حتى في حالاتها الأكثر ديمقراطية.

فالشعبوية تعزز الأحزاب أو الحركات الاحتجاجية الوهمية والرجعية في كثير من الأحيان ضد الأوليغارشية في الاتحاد الأوروبي، التي تقترح بدائل من داخل النظام، مستبعدة أية إمكانية للانتصار على الرأسمالية باتباع النهج الثوري. وهي تعتمد في دعايتها على: استعادة السيادة الوطنية، وانتقاد تدخل الاتحاد الأوروبي في شؤون البلدان، وسياسات التقشف، والمشاكل المتعلقة بالهجرة، والتعددية الثقافية، ومسؤولية البنوك في الأزمة، ونظرية “المؤامرة”، وفكرة “الخيانة” للإيذاء للشعب، إلخ.

اكتسبت هذه الأحزاب والحركات الشعبوية، وخاصة بعضها، بصفة سريعة مكانة في أوروبا على المستوى الانتخابي وفي بعض البلدان احتلوا مواقع في الحكومات، وشرعوا في إدخال تغييرات ذات طابع استبدادي رجعي. وقد بدأت هذه الأحزاب في التطور في ظل تطبيق السياسات النيوليبرالية من قبل الأحزاب “التقليدية” اليمينية أو الاشتراكية الديمقراطية.

مع إضعاف هذه الأحزاب، وخاصة الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، وكذلك الأحزاب الليبرالية والكاثوليكية التقليدية، نشأ فراغ سياسي استفادت منه الشعبوية ومنظماتها.

كانت البلدان المفضلة للشعبوية، التي تم استغلالها بمهارة، هي بلدان أوروبا الشرقية، مثل المجر وبولندا، التي انتقلت من دول بيروقراطية تحكمها أحزاب تحريفية إلى دول رأسمالية “كلاسيكية”، فرضت عليها وحشية السياسيين النيوليبراليين برامج العلاج بالصدمة الشهيرة، داخل إطار الاتحاد الأوروبي.

تجمع الأحزاب الشعبوية التي تحكم هذه البلدان اليوم الخطاب المناهض للاتحاد الأوروبي: “الاتحاد الأوروبي يفرض علينا قرارات لم نعد نريدها”، مع السياسات العنصرية والمعادية للأجانب. كما أنهم يدينون المعاملة غير المتكافئة التي يمارسها الاتحاد الأوروبي: تقييد “المساعدة”، والقواعد التي تحد منها، وسياسة التمييز التي تعاقب الشركات في بلدانهم؛ كما يشتكون من موقف الاستخفاف للاتحاد الأوروبي والقوى الكبرى تجاههم.

تنتشر الشعبوية في أوروبا الغربية خاصة بعد أزمة عام 2008. أولاً، كان هناك تقدم في نسخها اليسارية (بوديموس ، سيريزا) ؛ ثم في نسختها اليمينية أو الهجينة (التجمع الوطني في فرنساFN، البديل لألمانيا AFD ، رابطة الشمالLega وحركة النجوم الخمسة M5Sفي إيطاليا إلخ).

في هذه المرحلة، تستمر الشعبوية الرجعية في التقدم. لدينا بالفعل حكومات يمينية شعبوية في بولندا والمجر والنمسا وسلوفينيا وجمهورية التشيك وإيطاليا.

أما تعبيرات الشعبوية في أوروبا اليوم، فهي رجعية بشكل أساسي، حيث تدعم هذه الأحزاب والحركات المواقف القومية والمحافظة والمعادية للأجانب مثل التجمع الوطني في فرنسا، البديل لألمانيا في ألمانيا، ورابطة الشمال وأغلبية M5S في إيطاليا، وحزب الشعب في الدنمارك، وحزب الحرية والعدالة في النمسا، والحزب من أجل استقلال المملكة المتحدة Ukip في إنجلترا، والفنلنديون الحقيقيون، وحزب الديمقراطيين السويديين، والتحالف الفلامندي الجديد N-VA في بلجيكا، وحزب الحرية في هولندا، وحزب النظام والعدالة في لاتفيا، والحزب القانون والعدالة في بولندا، ومواطنون من أجل التنمية الأوروبية لبلغاريا GERB، الاتحاد المدني المجري Fidez، والفاشيون المجريون، إلخ. و لا تقتصر الظاهرة على الأحزاب البرلمانية، فهناك حركات اجتماعية مثل “بيغيدا” Pegidaالألمانية (الأوروبيون الوطنيون ضد أسلمة الغرب) التي هي جزء من الشعبوية اليمينية.

أدى صعود ترامب إلى السلطة، الشوفيني والرجعي والمدافع عن الحمائية والقبضة الحديدية ضد المهاجرين، إلى تعزيز موجة الشعبوية اليمينية في أوروبا. لكن لا يمكننا في خضم هذا الخليط الشعبوي أن ننسى العنصريين والفاشيين الذين يسعون لإخفاء أيديولوجيتهم بتصريحات منمقة عن “الدفاع عن الشعب” ضد “الغزاة الأجانب” الذين يصلون إلى بلدان مختلفة “لسرقة عمل” السكان الأصليين، ضد المهاجرون الذين ولدوا جانحين، مغتصبين، تجار مخدرات، إلخ. فالشعبوية اليوم هي الوسيلة التي من خلالها تتسلل الفاشية بين الجماهير.

أما الشعبوية “اليسارية”، التي تتميز برفض غير متماسك لسياسات التقشف في الاتحاد الأوروبي، فهي موجودة بشكل خاص في الأطراف الجنوبية من الاتحاد الأوروبي: إسبانيا (بوديموس) واليونان (سيريزا) وإيطاليا (قطاعات معينة من M5S ومجموعات أخرى).

الهوامش:
(*) هذا النص هو عبارة عن حوصلة لنقاش جرى في الاجتماع الدوري للأحزاب الماركسية اللينينية بأوروبا سنة 2018، وقد نُشر في “النظرية والممارسة”، المجلة النظرية للحزب الشيوعي الاسباني الماركسي اللينيني، عدد 30، أكتوبر 2018

(1) كان ألكسندر إيفانوفيتش هيرزن، المولود في 25 مارس 1812 في موسكو والمتوفى في 9 يناير 1870 في باريس ، فيلسوفًا وكاتبًا سياسيًا روسيًا يُعرف باسم “أبو الاشتراكية الشعبوية الروسية”، ويُعتقد أنه ألهم المناخ السياسي الذي أدى إلى إلغاء نظام القنانة في عام 1861.

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×