الرئيسية / صوت الوطن / الخطاب الشعبوي في تونس: آليات المغالطة وأهدافها
الخطاب الشعبوي في تونس: آليات المغالطة وأهدافها

الخطاب الشعبوي في تونس: آليات المغالطة وأهدافها

علي الجلولي

أعلن توفيق شرف الدين وزير الداخلية يوم 17 مارس 2023 على الهواء مباشرة استقالته من الإشراف على “الوزارة الأم”، وهي استقالة أثارت جدلا في الأوساط السياسية والإعلامية التونسية،
ويعود ذلك إلى سببين أساسيين، أولهما ارتباط الرجل سيرة ومسارا بفترة حكم الشعبوية وانتمائه للحلقة الضيقة لقيس سعيد لذلك يُعتبر خروجه في مثل هذه الأوضاع والظروف مثار أسئلة مشروعة ومعقولة، وثانيا أنّ الاستقالة أو الإقالة كما يسميها العديد، أتت في ذروة المعركة التي أعلنها النظام على خصومه، وهي معركة تلعب فيها أجهزة الداخلية دورا مركزيا، ويلعب فيها وزير الداخلية دورا قياديا بارزا. إنّ محورية دور شرف الدين في المدة المنقضية لا يعود إلى هذا فحسب، بل يعود إلى ما يجود به الرجل من تصريحات يرقى بعضها إلى مستوى “النصوص الأصلية في فقه الشعبوية في تونس”، من ذلك أنّ هذا الوزير كان قد صرّح قبل عشرة أيام فقط من استقالته/إقالته وتحديدا يوم 7 مارس 2023 بمناسبة حضوره إحياء ذكرى أحداث بنقردان بما يجب أن يحال عليه مباشرة على المحاكمة لو كانت ثمة في بلادنا دولة قانون وديمقراطية وثمة مسؤولية أدبية وشخصية على ما يصرّح به مسؤولو الدولة.

لقد كان من المفروض أن يجيب الوزير كعضو في الحكومة عن انتظارات مواطني الجهة ومطالبهم العادلة والمشروعة وعلى راسها التشغيل وتوفير الخدمات الضرورية، لكنه وحكومته، مثلهما مثل كل الوزراء السابقين والحكومات المتعاقبة ليس في جرابهما ما يقدمانه إلى أهالي بن قردان سوى قراءة الفاتحة في ساحة الشهداء والعودة سريعا إلى العاصمة. ولكن شرف الدين قطع مع العادة هذه المرة لا بتقديم ما ينفع الناس في حياتهم الصعبة وإنما بارتجال تصريح قبل المغادرة سيظل عالقا في الأذهان لخصوصية بل لوقاحة (arrogance) ما ورد فيه.
ماذا قال الوزير بالضبط؟
قال على الهواء مباشرة متوجها إلى الحاضرين معه وإلى عموم الناس: “رجال إعلام خسارة فيهم كلمة رجال إعلام، مرتزقة. ورجال أعمال باعوا الوطن، نقابيين باعوا الوطن، أحزاب باعوا الوطن، نخبة سياسية هي نكبة سياسية. تحالفوا جميعا ضد الشعب التونسي.. أنا نحب نقول للشعب التونسي اللي تعرفوه الكل راهو بكلو صحيح.. إنهم خونة”.
إنّ هذا التصريح المكثف سيظل يلاحق توفيق شرف الدين أينما حلّ، وسيظل وثيقة فكرية/سياسية أساسية من وثائق منظومة الحكم الشعبوية القائمة. لقد لخّص الرجل بدقة قلّ نظيرها المقولات الجوهرية للشعبوية الفاشية التي تخوّن الجميع، دون استثناء أو تنسيب أو تأطير لسياق أو خلفيات…، مستلهما ذلك (عن دراية او دون دراية) من معجم الخطاب الشمولي الكلياني الذي ظل ميزة مميزة لكل أنظمة الاستبداد ماضيا وحاضرا.

إنّ اعتماد الأحكام الكلية الاطلاقية هو عملية غير عفوية بل مقصودة في ذاتها، ومن يريد إطلاق أحكام نسبية يعتمد صيغة “بعض رجال الإعلام و…” لا أن يعتمد صيغة “رجال الإعلام…”، لكن الرجل اعتمد صيغة تعميمية وحدد الفئة المستهدفة وهي: رجال الإعلام ورجال الأعمال والنقابات والأحزاب، وطبعا فإنّ السياق الذي يندرج فيه هذا الكلام واضح فالوزير يشير إلى ما بات يعرف بمجموعة “التآمر على أمن الدولة” التي ضمت نشطاء من هذه الفئات الذين لفقت ضدهم تهما بطريقة عشوائية وبدائية لانهم يتداولون في الشأن العام وفقا لتصوراتهم بالطبع التي تحملها انتماءاتهم الفكرية والسياسية والطبقية.
لقد خرج الوزير عما يقتضيه المسار القانوني العادي الذي يفترض احترامه في أيّ دولة تحترم نفسها وتدّعي أنها دولة قانون وهو فسح المجال للقضاء بأن يشتغل دون أية ضغوط حتى تكون أشغاله مستقلة ونزيهة، لكن وزير داخلية الانقلاب الذي يتولّى أعوانه الإيقاف والبحث له، على غرار رئيسه، رأي آخر،. فهو الذي يتهم ويدين ويصدر الأحكام بالتعميم الشامل المقصود منه إدانة فئات بأكملها بغاية تصفيتها أو إخضاعها أو تحييدها بطريقة من الطرق لتحقيق هدف ما وهو السيطرة المطلقة على الدولة والمجتمع وفقا للتصورات الفاشية. لذلك من البديهي أن ينتهي إلى الاستنتاج: “جميعا تحالفوا ضد تونس… إنهم خونة”.

ومن المعلوم أنّ خطاب التخوين، مثله مثل خطاب التكفير إن تسلّل إلى الخطاب الاجتماعي والسياسي تحديدا فإنه مؤشر انحراف كبير في تأطير المجال العام. إنّ الخطاب وخاصة الرسمي منه يلعب دائما دورا حاسما فيما يعرفه الفضاء العمومي من تقدم أو تأخر.

لقد انتبه علماء اللغة والمنطق منذ زمن بعيد إلى ما يحمله الخطاب (الشفوي منه والمكتوب) من مخاطر ومنزلقات.

صياغة التصريح تكشف أفكار صاحبه

لقد أسس أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد علم المنطق ليقعّد اللغة ويخرجها من خانة المغالطة السفسطائية، واعتمد في قياسه قاعدة التفريق بين “كل…” و”بعض…” لتستقيم الأحكام وتحتكم إلى قصد عقلاني في إطلاقها.

أما في حال توفيق شرف الدين فقصده واضح واختار الصيغة اللغوية/المنطقية الملائمة لما يريد تبليغه، وهو في ذلك وفيّ لمنظومة التفكير التي اختارها والتي عبّر عنها رئيسه أكثر من مرة في خطابات موثقة تنزع نحو الأحكام التعميمية حول الأجسام الوسيطة التي يجب إيجاد كل التعلات لاستهدافها كخطوة نحو إلغائها، والواضح أنّ شرف الدين كان يرمز بكلماته، كما بيّنّا أعلاه إلى ما يسمى في الدعاية الرسمية “مجموعة الوفاق التآمري” التي تضم إعلاميين ورجال أعمال ونقابيين وسياسيين. ولا شك في أنّ شرف الدين مثل رئيسه ونظرا للتكوين القانوني لكليهما، وهو اختصاص يعتمد عادة الصرامة اللفظية والدقة الحكمية، لا نعتقد أنهما “ضائعان في الطبيعة ولا يعرفان ما يقولان” بل هما يعيان جيدا ما يقصدان، وهذا بلغة القانون سيكون “ظرف تشديد” في تقييم الخطاب وتبعاته.
لقد قصد شرف الدين ووعى إطلاق الأحكام التالية التي حوتها جملته التي لم تتجاوز أربعة أسطر و40 كلمة:
• رجال إعلام مرتزقة وخونة
• رجال أعمال مرتزقة وخونة
• نقابيون مرتزقة وخونة
• أحزاب مرتزقة وخونة
• نخبة سياسية هي نكبة سياسية
• كلهم تحالفوا ضد الشعب
• كلهم خونة
و في الرياضيات كما في علم المنطق يمكن إعادة صياغة ما سبق كما يلي:
• رجال إعلام= مرتزقة + خونة
• رجال أعمال = مرتزقة + خونة
• نقابيون = مرتزقة + خونة
• أحزاب = مرتزقة + خونة
• نخبة سياسية = نكبة سياسية
• رجال أعلام + رجال أعمال + نقابيون + سياسيون = حلفاء ضد الشعب
• رجال أعلام + رجال أعمال + نقابيون + سياسيون = خونة

فماذا يعني هذا؟ ألا يعني هذا استهدافا قصويا لكل الوسائط التي تضمّ أهم فعاليات المجتمع المدني (وسائل الإعلام والأحزاب والنقابات) إضافة إلى النشطاء الاقتصاديين (رجال الأعمال).

خطاب التعميم والمغالطة هو خطاب فاشي

إضافة إلى الصيغة التعميمية التي يشترك في اعتمادها مع كل منتسبي خطاب المغالطة، فإنّ المعجم المستعمل انتقى جيدا ألفاظه مثل استعمال ألفاظ “مرتزقة.. باعوا الوطن… تحالفوا ضد الشعب.. خونة”، وهذا المعجم طبعا يشي بطبيعة الأفكار التي يحملها الرجل، مع الإشارة إلى أنّ هذه التهم تتطلب إثباتا وأحكاما يصدرها القضاء ولا يصدرها مسؤول الضابطة العدلية، علما وأنه في الأنظمة الاستبدادية فقط يتولى البوليس، إصدار الأحكام منذ لحظة الإيقاف، وهو الحال في بلادنا رغم ادعاء الشعبوية أنها افتكت منظومة الحكم من حركة النهضة وحلفائها للاحتكام إلى “العدالة وسلطة القانون”،
ولا غرابة في الأمر فقد صرّح قيس سعيد يوم 22 فيفري 2023 الجاري على الأثير أنّ “من يتجرأ على تبرئتهم (يقصد الموقوفين في القضية المذكورة وربما كل من يوقفه بوليس سعيد مستقبلا) هو شريك لهم”(؟؟؟؟؟) قاصدا أجهزة الأمن وخاصة أجهزة القضاء بمناسبة انطلاق حملة الاعتقالات الأخيرة.
إنّ اعتماد هذا المعجم في تسيير شؤون البلاد لا اسم له سوى الفاشية في أشد تعبيراتها، فمنطق تخوين الخصوم، كل الخصوم كتخوين الفئات التي ينتمون إليها، بالجملة، هو منطق استئصالي قهري اعتمدته منظومة الاستبداد طوال تاريخها. ولئن نجح الخطاب السياسي الديمقراطي المعاصر في صياغة شروط جديدة للصراع لا تعتمد الإلغاء كآلية تسيير، فإنّ عودة المنطق القهري من شقوق أزمة الديمقراطية البرجوازية يبقى واردا وممكنا وها هي بلدان متعددة في الشمال والجنوب تعيش على وقع تصاعد للخطاب والممارسة الفاشييين بما يهدف إلى إلغاء التعدد والاختلاف داخل المجتمع، ويتجه لفردنة الحكم وهو ما تمارسه بـ”إتقان وتفان” جوقة الشعبوية في تونس والتي تضم خصوما فعليين للديمقراطية بل واستئصاليين، كما تضم أنصار الزبونية السياسية المستعدين لتقديم الخدمات والأكل على موائد كلّ الحكام، أيا كانوا.
وما من شك في أنّ كل الذين تابعوا كلمة توفيق شرف الدين انتبهوا إلى ما جاء في خاتمتها من دعوة إلى “الالتفاف حول الرئيس” في الحرب الضروس” يخوضها ضد خصومه. فخلاصة الخطاب هو أنّ “الجميع خونة” ولا يوجد سوى “رجل واحد وطني” هو قيس سعيد “صاحب الرسالة المقدسة” الذي ينبغي اتباعه والخضوع له ولأوامره. وهل الاستبداد والفاشية من تعريف أوضح من هذا التعريف؟

إنّ بلادنا صغيرة والأغلبية الساحقة للنشطاء والمنشغلين بالشأن العام تعرف بعضها جيدا، فأغلب أنصار الشعبوية الناشطين أتوا من موائد كل أنظمة الاستبداد السابقة من بن علي إلى النهضة، ونحن على قناعة أنهم سينازعوننا غدا حين يغلق قوس الشعبوية بكونهم هم من قاومها ونبّه إلى مخاطرها.
إنّ أخطر ما في خطاب الشعبوية الفاشية هو ما يحتكم إليه من أحكام تعميمية وإطلاقية تستهدف خاصة الجمهور الواسع من المستائين والغاضبين من نتائج حكم الطبقات والأحزاب الرجعية.

إنّ هذه الجماهير في لحظات سخطها و إحباطها لا تميز ولا تريد أن تميز بين الأشياء والأحكام، وهو ما تحسن استغلاله مطابخ غسل الدماغ وتوجيه الرأي العام وصياغة القرار لأجل تمرير أكثر الحلول عنجهية وأكثر الخيارات إيلاما، وهو ما يجري اليوم على أرض تونس، فالحاكم بأمره يكرّس أفظع وصفات الرأسمالية المتوحشة التي تسلخ جلد الشعب، وفي الآن ذاته يطل في كل مرة عبر الأثير بخطاب موغل في المغالطة والطهورية والهروب من المسؤولية.
ولكن كل ذلك إلى حين… وواجبنا التسريع بهذا الافتضاح للحد من الخسائر والآلام.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×