الرئيسية / صوت الوطن / ثنائية الجديد والقديم في مشروع قيس سعيد
ثنائية الجديد والقديم في مشروع قيس سعيد

ثنائية الجديد والقديم في مشروع قيس سعيد

علي البعزاوي 

الواضح أن الرئيس قيس سعيد عمل ويعمل على فسخ الشكل القديم للحكم الذي وقع إرساؤه بعد سقوط الدكتاتورية في 2011 والتأسيس للجديد. فالديمقراطية التمثيليّة التي جاءت بديلًا عن الشكل الدكتاتوري الاستبدادي القديم فشِلت وأصبحت محلّ انتقادات واسعة، خاصة وأنّها لم تقترن بمعالجاتٍ اقتصادية واجتماعية، إضافة إلى أنه وقع تلويثها بالمال السياسي الفاسد. ويسعى الرّئيس إلى إقناع الرّأي العام على نطاقٍ واسعٍ بأن تغيير الشّكل يمثّل العلاج الجذري للأزمة.
وفي هذا السّياق نظّم استشارة إلكترونية حول الخيارات والسّياسات وشكّل لجنة من الأتباع لصياغة دستورٍ. لكنّه انقلب على مُخرجاتها وفاجأ الشعب التونسي بدستورٍ صاغه بنفسه ولنفسه، دستور يُكرّس الحكم الفردي المطلق، وعرَضه على الاستفتاء ليحصل على نسبةٍ ضعيفة من المُؤيّدين.
ثم نظّم انتخاباتٍ برلمانيّة لاختيار مجلس نواب بلا صلاحيّات رقابيّةٍ يقع انتخابه على الأفراد لضرب تأثير الأحزاب والمنظمات. وقد اعتبره المتابعون للشأن السياسي مجرّد غرفةَ تسجيلٍ.
وتستعدّ اليوم الهيئة المُنصّبة لإدارة الملفّ الانتخابي لتنظيم انتخابات مجالس الأقاليم والجهات التي تتمتّع بصلاحية “اقتراح” المشاريع المحلية، وهي مجالس لا صلاحيات لها مثلها مثل باقي المؤسّسات المنبثقة عن المسار الانقلابي. هذا في انتظار الانتخابات الرئاسية والقانون المنظّم لها والذي سيقع إعداده كالعادة من جانبٍ واحد وعلى قياس الحاكم بأمره. وهي الحلقة الأخيرة من إرساء مشروع البناء القاعدي الشعبوي الاستبدادي.
إذا شكل جديد للسلطة انبثقت وتنبثق عنه هيئات بلا صلاحيات ولا نفوذ. وهو نوع من ديمقراطية الواجهات الهدف منه محاولة تزيين الاستبداد الجديد وإبرازه في ثوب ديمقراطي تعدّدي يعكس “الإرادة الشعبية”. هو شكل يشبه كثيرا اللّجان الثورية للرّاحل معمّر القذافي المُنتخبة بدورها من الشعب ولها صلاحية تقديم المقترحات دون سواها.
لكن هل يكفي تغيير الشكل للخروج من الازمة، وهل الأزمة تختزل في الشكل/القشرة وستنتهي بمجرّد تغيير هذا الشكل؟
إن الحكم الحقيقي، لهذا الشكل أو عليه، مرتبط بالمضامين التي يتبنّاها ويدافع عنها وأهمية الطبقات والفئات التي يخدم مصالحها المباشرة والبعيدة. شكل السلطة مهما وقع تجديده مجرّد حامل لمضامين ولمشروع، والأشكال الدكتاتورية الاستبدادية لا تخدم في الحقيقة سوى الأقليات المتنفّذة التي تستحوذ على مقدّرات البلاد وتكرّس الاستغلال ولها مصلحة أكيدة من أجل الحفاظ على هذه الامتيازات في تكريس هكذا الشكل من السلطة لأن الشكل الديمقراطي مُثير للاحتجاجات ومن شأنه فرض قوانين حامية للحقوق والحريات، وهي مُكلفة ماديّا وسياسيا بالنسبة للأقلّية الكمبرادورية الباحثة دائما عن الرّبح والربح الأقصى.
وسنحاول فيما يلي رصد الخيارات والبرامج التي انْتهجها الحكم الشعبوي والتي حملها هذا الشكل الجديد، ونعني البناء القاعدي الشعبوي.
إن الحكومات التي شكّلها الرئيس قيس سعيد (حكومة نجلاء بودن، حكومة أحمد الحشاني) ورؤساء الحكومات السًابقين (إلياس الفخفاخ، المشيش ) لم يخرجوا جميعهم ولو قيد أنملة عن الخيارات الليبرالية المتوحّشة التي انخرطت فيها منظومة الاستغلال والتبعيّة منذ عهد بن علي، وقوانين المالية والميزانيات المعتمدة التي تخدم كبار الرأسماليين المحليين والأجانب والمكرّسة لسياسات التقشّف بما تحويه من ضغطٍ على الأجور وتحريرٍ للأسعار ودهْورةٍ للخدمات الأساسية من صحّة وتعليم وبيئة وتضييق على التشغيل وغيرها تؤكد ذلك. وحتى مشروع ميزانية 2024 الذي أعدّته وزارة المالية لحكومة أحمد الحشّاني فلم يحِدْ عن التوجّهات القديمة والمضيّ في الضغط على كتلة الأجور ورفع الدّعم عن المحروقات والمواد الحياتيّة بما فيها المسمّاة أساسية.
إن الحكم على الرئيس قيس سعيد، كغيره من الحكّام، لا يتمّ على قاعدة التصريحات والشّعارات والخُطب الرنّانة التي تتحدّث عن الإرادة الشعبية وعن مقاومة الفساد وضرورة التصدّي للاحتكار… بل على قاعدة الخيارات المتّبعة ونتائجها الملموسة على أرض الواقع، وهي إلى حدّ الآن نتائج سلبية ستزداد سوء مع مرّ الأيام لأن الأزمة هيكليّة ولا يمكن معالجتها بتغيير شكل السلطة مع الإبقاء على نفس الخيارات.
إن شحّ المواد الأساسية والطبية ومستلزمات الفلاحة والصّناعة وانقطاع التيّار الكهربائي والماء الصالح للشراب وإهدار التونسيات والتونسيين الكثير من الوقت في الطوابير لقضاء شؤونهم، وأزمة التعليم والصحة العموميّين والبيئة بكلّ حيثياتها، إلى جانب تفشّي الفقر والبطالة والإدمان على المخدّرات وتدهور القدرة الشّرائية هي نتائج مباشرة للخيارات والسياسات وليست قضاء وقدرا.
وإذا كانت المنظومات السّابقة تتحمّل جزء كبيرا من المسؤوليّة، فإنّ الحكم الجديد بأشكال سلطته الجديدة التي جاءت بديلا عن الشكل القديم لم يفلح في معالجة الأوضاع ولو جزئيا، بل إن الأزمة تتّجه نحو مزيد الاستفحال لأنه – أي الحكم الجديد- أصرّ على المواصلة في نفس الخيارات والسياسات الخادمة للأقلّية.
إن تأسيس الرئيس للجديد على مستوى شكل السلطة ومحاولة تزيينه بشعارات مقاومة الفساد والاحتكار وإرجاع الأموال المنهوبة لأصحابها وغيرها من الشعارات ليست الحل. إنه حلٌّ مغشوش هدفه تثبيت الحكم الشعبوي بنفس الخيارات والمضامين اللاشعبية واللاوطنية التي كرّستها المنظومات السّابقة وقادت إلى أزمات عميقة وشاملة.
تونس بحاجة إلى خيارات وبرامج وسياسات جديدة خادمة لمصالح الأغلبية ومُكرِّسة للديمقراطيّة الشعبية والعدالة الاجتماعية والسّيادة الوطنية لا إلى مجرّد شكل جديد بنفس المضامين القديمة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×