الرئيسية / صوت الوطن / التونسي والماء: الصورة الهلاميّة الجديدة
التونسي والماء: الصورة الهلاميّة الجديدة

التونسي والماء: الصورة الهلاميّة الجديدة

بقلم حسين الرحيلي

يعيش المواطن التونسي في هذه الفترة صور دراماتيكية إلى درجة الهلامية، إذ ينقطع عنه الماء في المنزل ومن النافذة يرى الأمطار تهطل ومياهها تضيع في الأرصفة والشوارع وتنتهي إلى قنوات صرف مياه الأمطار أو قنوات تصريف المياه الصحية.
ولئن تحوّلت الموارد المائية خلال السنوات الأخيرة من قضية المختصين والقضايا التي تدار بالمنطق البيروقراطي في المكاتب المغلقة، إلى قضية رأي عام بكل ما في الكلمة من معنى، فذلك يعود إلى أننا دخلنا فعليا في مرحلة الشحّ المائي وبما تعنيه هذه الكلمة من مخاطر على المدى المتوسّط والبعيد. إذ أن الماء ليس مجرّد مادة طبيعية قابلة للنقل والضخ، بل هو محور الحياة ومحدد للتنمية وإنتاج الثروة، وبالتالي التواصل مع الحياة بكرامة. إذ أنّ شعبا دون ماء شعب فاقد حتما لكرامته.
غير أن الإشكالات المرتبطة بالموارد المائية في تونس ليس إشكالات ظرفية مرتبطة بانحباس الأمطار لمدة معينة، كما أنّ أزمة شحّ المياه في تونس ليست مرتبطة عضويا بالتحوّلات المناخية، بل مرتبطة مباشرة بالسياسات العمومية والخيارات الاقتصادية، ولم تساهم التحوّلات المناخية سوى بتعميق هذه الأزمة. هذه السياسات العمومية ليست وليدة الصدفة، بل هي نتاجٌ لسياسات وخطط مدروسة وممنهَجة للعديد من الأطراف الأجنبية، وخاصة منها المؤسسات المانحة للقروض، التي سعت إلى تحديد الإطار العام للسياسات العمومية في مجال الماء في تونس، وذلك خدمة لمصالح الدول الغنية التي يمثّلونها، والتي تريد المواصلة في استنزاف ثروات مستعمَراتها القديمة ولكن بطرق وسياسات ومناهج جديدة.
لذلك فإن مشكلة الموارد المائية في تونس هي مشكلة هيكليّة متمحورة حول أربعة أبعاد أساسية هي :
ندرة المياه كمعطى طبيعي من خلال موقع تونس في مناخ شبه جاف.
فشل السياسات العمومية المتعلقة بالماء وخاصة فيما يتعلق بالطرق والسياسات المائية الكبرى.
فشل الخيارات الاقتصادية الإنتاجية المرتبطة باستعمالات الماء والتي بنيت، في إطار اقتصاد مناول، على استعمال الماء لإنتاج المواد والسلع الموجّهة للتصدير وذات قيمة مضافة ضعيفة لا ترتقي إلى مستوى أهمية الماء وكلفته على المجموعة الوطنية.
تأثير التحولات المناخية خلال العشرين سنة الأخيرة على التساقطات وارتفاع كبير لدرجات الحرارة وما ينتج عنها من تبخّر كبير للمياه من السّدود ومن المسطحات المائية بشكل عام.
وانطلاقا ممّا تقدم ذكره، فإن المقاربة التقنية التي تنتهجها السلطة في تونس منذ سنوات عديدة لحلّ الإشكالات المرتبطة بالشّح المائي، لا يمكن أن يكون لها نتائج تذكر باعتبار أن المسألة مرتبطة بالرؤية والتصور والخيارات، وليست مرتبطة ببعض الحلول التقنية، مثل التي تمّ إقرارها منذ شهر مارس 2023 والمتعلقة بنظام القطع الدّوري لمياه الشرب. وكأن مياه الشرب الموجهة للمواطنين هي المتسببة الأولى فيما نعيشه من شح مائي. إذ لا تمثل مياه الشرب سوى 12 بالمائة من الإمكانات المائية المستعملة سنويا على المستوى الوطني، ذلك أن النسبة الأكبر تستعمل في الفلاحة لريّ 8 بالمائة فقط من مساحة الأراضي الفلاحية الوطنية. وبذلك يمكن القول أن 92 بالمائة من الفلاحة في تونس هي فلاحة لازالت مطرية أو بعلية.
كما وجب طرح سؤال محوري في هذا المجال : هل الكمية الكبيرة من المياه المستعملة في الفلاحة لها المردودية والقيمة المضافة التي تمكّننا من تعويضها في حالة ندرتها؟ طبعا لا، لأن المياه المستعملة في الفلاحة تنتج مواد مستهلكة للماء وذات قيمة مضافة ضعيفة مثل البرتقال والخضروات الورقية والطماطم والدلاع والبطيخ والفراز وغيرها.
كما تضخ كميات مائية كبيرة في القطاع الصناعي الملوّث والموجّه للتصدير في قطاعات ذات قيمة مضافة ضعيفة مثل الصناعات الغذائية والنسيج، إضافة إلى القطاع السياحي الذي يستهلك بحساب السرير 5 مرات استهلاك المواطن التونسي في اليوم.
إن الحلول الظرفية ذات الطابع التقني لمسألة الموارد المائية ليست إلا هروبا إلى الأمام، وبالتالي وجب التوجّه في إطار حلول استراتيجية مستدامة لمشكلة المياه في تونس، من خلال فتح حوار وطني جدّي يشمل كل مكوّنات المجتمع وخاصة أجسامه الوسيطة من أحزاب سياسية ومنظمات وطنية وجمعيات المجتمع المدني والمختصين ورجالات البحث العلمي، تحت إشراف الدولة بكل مكوناتها الاستراتيجية وليست التقنية البيروقراطية. كل ذلك في إطار محددات أساسية متمحورة حول :
إصدار إطار قانوني جديد يكون مواكبا للتطورات المستقبلية للموارد المائية، ذلك أن مجلة المياه الحالية والتي يعود تاريخ إصدارها إلى 13 مارس 1975 لم تعد قادرة على حلّ الإشكالات المائية الحالية ولا المستقبلية.
القطع مع السياسات العمومية الكلاسيكية المبنية على الحلول التقنية الصرفة.
تحديد أولويات استعمالات الماء في كل القطاعات مع إعطاء الأولوية لمياه الشرب.
إعادة النظر في خارطة الإنتاج الفلاحي والقطع مع الفلاحة التصديرية والتركيز على الفلاحة التي تحقْق السيادة الغذائية وتطوير المنظومات الأساسية للشعب : منظومة الحبوب، منظومة الألبان، منظومة اللحوم الحمراء ومنظومة اللحوم البيضاء.
إلزام الصناعيين وأصحاب النزل بضرورة توفير مصادر خاصة بهم للماء باعتبار الماء يدخل في كلفة الانتاج والخدمة الفندقية.
إعادة النظر في التهيئة الترابية والتعمير بشكل يضمن على المدى المتوسّط تعبئة أكبر كمّية ممكنة من مياه الأمطار بالمدن وإعادة استعمالها في المجالات العمرانية والسكنية.
القطع مع الطرق الكلاسيكية في تعبئة الموارد المائية المبنيّة على إنجاز السدود التي تسهّل التبخر خاصة في ظل ارتفاع كبير لدرجات الحرارة بفعل التحولات المناخية.
العمل على إعداد مخطط لإنجاز سدود جوفية لإيصال مياه السيلان مباشرة للموائد المائية وبذلك نضمن سلامة هذه المياه من التلوّث وحمايتها من التبخّر.
إعادة استعمال المياه المعالجة والتي ستصل كميتها في أفق 2050 إلى حوالي 660 مليون م3، ممّا يعني أنه يمكن أن نستثمر عُشُر كلفة تحلية مياه البحر للاستفادة من هذه المياه المعالجة خاصة في الأنشطة الفلاحية والصناعية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×