الرئيسية / صوت الثقافة / أيّة إستراتيجية وأيّة رؤية تسيّر الثقافة في البلاد؟
أيّة إستراتيجية وأيّة رؤية تسيّر الثقافة في البلاد؟

أيّة إستراتيجية وأيّة رؤية تسيّر الثقافة في البلاد؟

– في نقد شعار اللامركزية الثقافية –

بقلم يحي اليعقوبي

أيّة سياسة ثقافية تعتمد الدولة؟

كشف شعار اللامركزية الثقافية عن مدى طوباوية هذه الفكرة التي تصدّرت برامج وخطابات المسؤولين في المؤسسات الثقافية الوطنية وعن مدى تردّي الوضع الثقافي والفني في ارتباطه مع وضع اجتماعي لمهنيّي القطاعات الفنية والثقافية والعاملين صُلب المؤسسات الثقافية بعقود تشغيل هشٍّ وضبابية مصير الملفات الحارقة المطروحة على طاولة الوزارة. وبالتالي نتساءل عن طبيعة السياسات الثقافية المُعتمدة في البرمجة والخيارات والتعامل مع وضع بُنى تحتيّة متردّية في الجهات الداخلية، إضافة إلى شُحّ البرمجة الثقافية أو موسميّتها والتي تتعارض مع طبيعة الفضاءات الخاصة بتنظيمها واحتوائها، دون ملاحظة حلول أو مقترحات برامج إصلاح عميقة في تهيئة الفضاءات الثقافية وتأهيل بعضها. وكمثال على ذلك نذكر تراجع عدد قاعات السينما المؤهلة لاحتضان العروض السينمائية في 24 ولاية بالجمهورية التونسية من 95 سنة 1957 إلى 10 قاعات سنة 2023 أغلبها متمركز في العاصمة، فبعضها أُغلق وتحوّلت صبغته الثقافية إلى صبغة تجارية على غرار قاعة سينما “البلماريوم” وقاعة سيرتا بالكاف التي تحوّلت إلى مبيت خاص وأخرى تحوّلت إلى مطاعم ومحلات، وبعضها الآخر آيل للسقوط، هذا إن لم يكن قد هدم بالفعل والأمثلة عديدة، على غرار قاعة سينما الجريصة التي تأسست سنة 1909 وهي الآن مغلقة ومهدّدة بالسقوط ومتوقّفة عن أي نشاط من فترة طويلة، رغم الوعود المتكررة وبرامج إعادة التهيئة المتكرّرة والمتعطلة حتى في أغلب القاعات الأخرى في بقية الجهات، على غرار قاعة الكازينو في جندوبة، في غياب كلي لمبادرات الترميم والتصدي إلى مثل هذا الاعتداء الصارخ على حق المواطنين في النشاط الثقافي والفني والترفيهي من خلال تدمير البنية التحتيّة الثقافية بالبلاد وعدم تطويرها وتعصيرها وفقا للتطورات والتغيرات التكنولوجية الكبيرة التي يشهدها العالم.
هذا الوضع المتردّي ناتج عن غياب رؤية واضحة للخارطة في تطور قطاع والفنون بناءً على دوره الفعّال في الرّقي بالذّوق العام والتوجيه الفكري والبعد التثقيفي والترفيهي، يقابله في ذلك أيضا القوانين التي تنظم قطاعات الفنون والثقافة والتي تعود إلى فترة الثمانينات والتسعينات مع تغيرات طفيفة جدا ونادرة تعود بالمعاناة والبطالة والتشغيل الهش الغير ضامن لأبسط الحقوق على مهنييّ القطاعات (السينمائية والمسرحية والموسيقية…)، وهو ما عاد بالضدّ في تردّي الإنتاجات ونُدرة الإبداعية فيها وفراغها الفكري وسيطرة التّفاهة على المشهد الثقافي والفني العام.

أزمة مراكز الفنون الدرامية والرُّكحية بالجهات

شهدت مراكز الفنون الدرامية والرّكحية منذ فتحها (المراكز الجديدة التي أحدثت ابتداءً من سنة 2017) عدّة أزمات متواصلة في كلّ مرة يطفو فيها هذا الملف إلى السطح. ففي الوقت التي كان من المفروض أن تكون منارات ثقافية في الجهات مستقطبة للجمهور بمختلف فئاته وحاضنة للمشاريع الإبداعية للفنانين ومهنيّي القطاع ودورها الفعّال في إحياء المشهد الثقافي بالجهات، فإنها أصبحت ومنذ فتحها مشكلا أساسيًّا بسبب افتقارها لإطار قانوني ينظّم سيرها الإداري والمؤسسات، مع تعنّت الوزراء اللاحقين في الاعتراف الدور الحقيقي لهذه المؤسسات في التنمية الفنّية خاصة في الجهات الداخلية التي تفتقد إلى أبسط مقوّمات البُنى الثقافية التحتيّة. فبعد فتح هذه المراكز التي أغلبها دون مقرّ رسمي إلى حدّ هاته اللحظة، تعاقبت المقترحات الغير جديّة من السلطة في هيكلتها قانونيا، إمّا بإحداث مركز وطني للفنون الدرامية والرّكحية (وهو ما تمّ رفضه وتجاوزه)، وإمّا أن تنضوي هذه المراكز تحت إشراف مؤسسة المسرح الوطني (رفض هذا المقترح في ظاهره من الوزارة) وأخيرا ها قد تحركت السلطات الثقافية وقرّرت أن تجعل هذه المراكز تنضوي تحت المندوبيات الجهوية الثقافية وهو آخر مسمار يدقّ في نعش المسرح بشكل خاص، بسبب عدم مراعاة خصوصية هذه المؤسسات وحاجتها لأن تكون مؤسسات مستقلّة بذاتها ماليا وإداريا (الإشكالات المالية عالقة منذ أكثر من 6 سنوات رغم تعاقب أكثر من أربعة وزراء على رأس الوزارة)، وهو ما يمكن تفسيرها أوّلا بغياب الإرادة السياسية في التنمية الثقافية وعدم وعي بدور هذه المؤسسات خاصة في الجهات ثانيا، وهو ما أفرز جملة من الخيارات عصفت بالواقع الثقافي المتردّي والذي تتفاقم أزماته يوما بعد يوم، الشيء الذي بات يُنبئ بالانهيار التام.
وإلى جانب ذلك كانت وزارة الشؤون الثقافية سببا رئيسيّا في هذا الوضع الثقافي المتردّي، حيث تعمّدت أجهزتها الداخلية في ممارساتها التأثير سلبا على المثقفين والفنانين معمِّقة الهوّة أكثر بينها وبينهم، في غياب تام لاستراتيجية واضحة ومشروع وطني وبرامج، بل كرّست دوما، وبشكل أُحادي، سياسة الحلول الترقيعية التي أثبتت بمرور الزمن محدوديتها وعدم جدواها.

في الحاجة إلى الفضاءات الثقافية والأنشطة الفنية في الجهات

بالعودة إلى جملة التأثيرات التي تتباين بين طبيعة البُنى التحتية وأثرها في البنى الفوقية، فإن الأمرين لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض، فلا يمكن تحقيق تغيير ثقافي شامل يهدف إلى مُحاربة الرّداءة والتفاهة التي تسيطر على الوضع الثقافي العام إلاّ ببرامج حقيقية تُحدِث ثورة في البنى التحتيّة الثقافية بالبلاد خاصة في الجهات، التي لطالما حُرِمت من الأنشطة الثقافية والترفيهية وحتى إن وجدت فهي نادرة، ولطالما عانت المهرجات الثقافية والتظاهرات في الجهات من شحّ مواردها في مقابل مٍنَح لا تغطي ربع نفقاتها، وبالتالي لا محتوى فني ثقافي مرجوّ منها، إضافة إلى معاناة الفضاءات الثقافية والفنية المخصّصة لتلك المهرجانات والتظاهرات والتي تكاد تكون عاجزة عن استيعاب الجمهور أمام تجاهل أصحاب القرار والنفوذ لهذه الأزمات والتي تعود سلبا في إطار كونها مرتبطة بسلسلة تؤثّر في بعضها البعض؛ فبإحياء المشهد الثقافي في الجهات سيكون لذلك دور بارز في الدورة الاقتصادية للمنطقة، إضافة لتقاطعها مع العملية التربوية والتعليميّة وحقّ المواطن التونسي في الثقافة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×