الرئيسية / عربي / من أخضعها أخضع سواها ومن ملكها هان عليه تملّك غيرها (1)
من أخضعها أخضع سواها ومن ملكها هان عليه تملّك غيرها (1)

من أخضعها أخضع سواها ومن ملكها هان عليه تملّك غيرها (1)

بقلم جيلاني الهمامي

“المقاومة” في غزة ثقافة ومكوّن من مكوّنات الشخصية، جبلّة. والخنادق والأنفاق تقليد وسلاح قديم متجذّر عميقا في تاريخ غزة وأهلها. هكذا تقول معطيات التاريخ القديم والقريب للشعب الفلسطيني وشعب غزة تحديدا.
وهكذا يقول مؤرخ مدينة غزة الشيخ عثمان الطباع في كتابه “إتحاف الأعزّة في تاريخ غزة” الذي يقع في أربعة مجلدات وأكثر من ألفي صفحة.
وممّا جاء في معطيات التاريخ أنّ غزة كانت من الأماكن التي استعصت على إسكندر الأكبر Alexandre le Grand ووجد صعوبة في دخولها والسيطرة عليها، إذ لم يتمكن من ذلك إلاّ بعد حصار دام عدّة أشهر وبعد أن حفرت جيوشه أنفاقا من تحت أسوار المدينة وتمكنت من دخول الأنفاق التي كان أهل المدينة حفروها وبواسطتها حاربوا جيش الغزاة. كان ذلك في سنوات 330 قبل الميلاد.
وتجدّدت الحالة مع الجيوش الرومانية التي حاصرت مدينة غزة لأكثر من سنة وحينما دخلوها وقاموا بتدميرها جابههم أهل المدينة بالاعتماد على أنفاق تحصّنوا بها وذلك سنة 96 قبل الميلاد.
وما من عهد مرّ إلاّ وعاشت فيه غزة معارك وحروبا لصدّ محاولات غزوها وإخضاعها. تجدّد ذلك تباعا في عهد الدولة الأموية والخليفة معاوية بن أبي سفيان وفي وجه الحملة الصليبية سنة 1100 م وفي وجه حملة بونابارت على مصر والشام سنة 1798 حيث دخل غزة وأقام ثم ما لبث أن فرّ منها جرّاء ما تكبّد من خسائر وهزائم. وكان الأمر كذلك في العهد العثماني منذ بداياته سنة 1500 م حتى أواخره سنة 1830 م (تاريخ المواجهة الشرسة بين سكان المدينة بقيادة مصطفى الكاشف والحاكم العثماني عبد الله باشا).
وعندما قرّر الاستعمار البريطاني، بعد احتلال مصر، التمدّد في فلسطين لضمّها، جوبه بمقاومة شرسة جدّا تكبّد فيها على امتداد حروب متتالية خسائر بشرية عالية كانت آخرها معركة شهر أفريل 1917 التي خسر فيها حوالي 6500 قتيل (مقابل 2000 في صفوف أهل غزة) وكما يقول أباهر السقا الأستاذ بجامعة بيرزيت في دراسة بعنوان “قراءة سوسيو-تاريخية للمقاومة في غزة”، “كان أحد مبررات ذلك بسالة المقاتلين المحلّيّين والخنادق التي حفروها لحماية بلدهم” (2).
ولم تهدأ روح الثورة في غزة، وعموم فلسطين، طوال سنوات الانتداب البريطاني فسجّل التاريخ سلسلة طويلة من ملاحم متلاحقة في نضال شعب غزة ضدّ العدو المحتل وضدّ قطعان الصهاينة الذين بدأوا بالتسلّل إلى تراب فلسطين إثر إعلان وعد بلفور المشؤوم في نوفمبر1917. ولا يكاد يخلو عام أو فصل أو شهر من تاريخ غزة المعاصر من ملحمة نضال ضدّ الاحتلال الصهيوني.
ويكفي أن نُذكّر بالحروب التي عاشتها غزة في العشرين سنة الأخيرة لندرك درجة تجذّر الطبيعة الثورية لدى أهل غزة وعمقها. يقول الجامعي أباهر السقا في الدراسة المشار إليها “ففي العقد ونصف العقد الأخيرين شنّت آلة الحرب الاستعمارية “الإسرائيلية” على قطاع غزة حرب 2008/2009 التي راح ضحيتها أكثر من 1400 شهيد وتدمير أكثر من ألف منزل، حرب 2012 التي راح ضحيتها أكثر من 180 شهيد، حرب 2014 التي راح ضحيتها أكثر من 2300 شهيد وتدمير لمئات البيوت والمنشآت الاقتصادية والبنى التحتية، حرب 2019 التي راح ضحيتها أكثر من 34 شهيد وعشرات البيوت المهدّمة، حرب 2021 التي راح ضحيتها أكثر من 230 شهيد وتدمير بنى تحتيّة مهمّة، حرب 2022 التي راح ضحيتها 45 شهيدا. وخلال هذه الحروب استحدثت المقاومة أدوات جديدة لها علاقة بتطوير الأسلحة والصواريخ والمضادّات الأرضيّة والعبوات…”(3) ويستنتج من ذلك “يمكننا القول إنّ حجم العنف الشامل على الفلسطينيّين في قطاع غزة أدّى دورا في تصاعد العنف الثوري الفلسطيني على نحو مميّز”.(4)
لقد رسّخت سلسلة هذه الحروب والحروب التي سبقتها لدى الشعب الفلسطيني في غزة وعي القمع والاحتلال ووعي النضال ضد القمع والاحتلال وعكس ما كان ينتظره المحتل الصهيوني لم تنل هذه الحروب من إيمان غزة العميق بالتحرير بالطريقة الثورية بالاعتماد على البندقية. وما عملية “طوفان الأقصى” إلاّ نتاج طبيعي ومنطقي في سياق تطوّر داخل حركة النضال التحريري في فلسطين عموما وفي غزة على وجه أخص.
وبالاطّلاع على تاريخ المقاومة في غزة يجدر التأكيد على أنّ بروز حركة “حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”الجبهة الشعبية” هذه المرة ليس غير تجلية من تجلّيات التعبير الثوري في نضال الشعب الفلسطيني من أجل القضاء على الاحتلال الصهيوني. فالتعبيرات الرّاهنة هي في معناها التاريخي امتداد لتعبيرات كثيرة سجّلها التاريخ مثل “جيش التحرير الفلسطيني” و”فتح” و”قوات عين جالوت” و”النجادة” و”الفتوة” و”جيش القوات الشعبية” و”قوات التحرير الشعبي” و”خلايا زياد الحسيني” و”خلايا جيفارا غزة” والقائمة تطول. والرموز الرائجة الآن مثل السنوار والضيف وأبو عبيدة وغيرهم ليسوا غير نسخة حديثة من رموز نشطت في حقب ماضية من تاريخ النضال في غزة مثل محمد دلول وعزّ الدين القسام وياسر عرفات وخليل الوزير وصلاح خلف وحسين الخطيب وزياد الحسيني ومحمد الأسود الملقب بجيفارة غزة.
هكذا هي المقاومة متوارثة من فصيل إلى فصيل ومن رمز إلى رمز وذاك ما يجعل من غزة ساحة تكاد تختصّ بظاهرة المقاومة المتأصّلة في تلك الرّبوع.

هوامش:

(1) قولة للشيخ المؤرخ عثمان الطباع ذكرها أباهر السقا في دراسته بعنوان “قراءة سوسيو-تاريخية للمقاومة في غزة”. مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 250 – شتاء 2024.
(2) و(3) و(4) المصدر السابق.

إلى الأعلى
×