بقلم محمد الحباسي
طبيعة الاقتصاد التونسي: رأسمالي تابع متخلف
لم تنشأ الرأسمالية في تونس كنتاج لعملية ولادة / سيرورة طبيعية ينمو فيها الحدث الرأسمالي في أحشاء الاقطاعية نموا عاديا من التكوينات والتراكمات الكمية وصولا إلى تحقيق التحول النوعي وينبعث إلى الوجود كاملا مكتملا وقد توطدت له كل شروط التكوّن والنمو ومرفوقا بعملية مركبة من حيث هي متعددة ومتنوعة ومتكاملة المركبات لتشكل نسقا جديدا قائم الذات، بل كانت الرأسمالية في تونس مسخا منسوفا مبتورا عن سياق تطوره من حيث هي مسقطة في عملية يوجهها النسق الأشمل أي وفق مصالح نسق كولونيالي وظيفي أملاه تحول الرأسمالية العالمية من طورها التقدمي التنافسي إلى طورها الامبريالي/الاستعماري الرجعي الاحتكاري. فسُلّطت الرأسمالية علينا وفُرضت قسرا علينا واستنبتت استنباتا تلبية لحاجيات المركز وليس نتيجة لتطور ذاتي تلقائي عفوي وصحي فكانت رأسماليتنا مشوهة وليدة رأسمالية عالمية توسعية هيمنية لا همّ لها سوى مصالح الكارتيلات على حساب الإنسان/الدول والطبيعة.
انعكس كل ذلك على مكونات هذه البنية جميعها أي طبقاتها وفئاتها.
فكانت برجوازيتنا طفيلية غير منتجة متواكلة غاية في الجشع والنفعوية عاجزة عن إحداث القيمة المضافة ولعب الدور المنوط بها تاريخيا، كما فعلت سابقا مثيلتها في الغرب وهي المحكومة، طبقا لقوانين التطور غير المتكافئ للرأسمالية، بدور العميل الوكيل فلن تكونن إلا رجعية موالية في خدمة المركز الذي تستمد منه وجودها دورا وفكرا ومشروعية، في عملية مستمرة لتبادل الخدمات وتقاسم المنافع ولتكامل الأدوار. إنها لن تكون بحال من الأحوال ثورية كما كانت نظيرتها الغربية حيث نمت الرأسمالية وبزغ فجرها الأول، هناك في المركز، لن تكون مثل البرجوازية عصر العهد الأول للرأسمالية في معاقلها التقليدية. برجوازيتنا هي برجوازية طرفية تدور حول عصب المركز ولا تخرج عن مشيئته. برجوازية تبعية وظيفية تحمل في جيناتها كل خصائص التابع من حيث الروتينية والجمود والانتظارية وانعدام القدرة على الخلق والإبداع. كيف لها إلى الإبداع سبيلا وهي المحمولة في وجودها وفعلها على التقليد والاشتغال وفقا لبرمجة معدة سلفا، وهل يملك التابع القدرة على الإبداع إذا كان الإبداع شرط الاستقلالية والذاتية فهي الظل والنسخة في شكلها الباهت العاجز.
برجوازيتنا تابعة لا وطنية وجبانة معادية لكل تطور اقتصادي وفكري، وأخلاقيا هي تكثيف لكل قيم التواكل والتآمر والخسة. ليس غريبا والحال كذلك أن يتركز جهدها على اقتصاد الريع وليس الريع نموذجا مستقلا بل هو مال طبيعي لاقتصاديات التخلف والطرفية زمن الامبريالية والاحتكارية كونيا وقطريا.
هكذا إذن فهي العاجزة على تقديم منوال تقنع به لأنها العاجزة على خلق الثروة والإنتاج فتتوسل إلى الإقناع بسبل أخرى مغشوشة وهكذا فإن جزءا من برجوازيتنا يلبس لباس الحداثة والعصرانية الشكلية والجزء الآخر يوظف الدين والمورث الديني ليسيطر على عقول عامة الناس خدمة لمشاريع خاصة وفئوية، مصالح الجماعة الإسلامية مهما كانت تلوينها اللاهوتي إخوانية أو وهابية. فتلتقي كل هذه الزمر الانتهازية في براديغمات ومحددات العقل النفعوي التجاري المهوس بتحقيق المصلحة الخاصة وإلباس ذلك لبوس المصلحة الوطنية أو القومية وذلك كل معنى الفساد؛ التنكر في جلباب المصلحة العامة لخدمة المصالح الخاصة برجوازية تابعة متاجرة بقيم الحداثة والتنوير والتعامل مع موروث التنوير وفق مقاربة انتقائية ووظيفية وبرجوازية محافظة متاجرة بالدين. تتعمق أزمة برجوازيتنا بكل مظاهر وعوامل أزمة برجوازية المركز اليوم من عود على أعقابها والتنكر إلى مآثرها العقلانية وهي التي أصبحت متنكرة للعقل وللمعنى في زمن التشتيت والتشيّئ الأقصى وثقافة الاستهلاك والعبثية l’absurde وضياع أيّ أفق للتغيير وإعادة سيطرة الإنسان على نفسه وعلى الطبيعة.
أمّا على المستوى الاقتصادي، فتسيطر كل تشوهات الاقتصاد التبعي ومن المعلوم أنه في عصر الإمبريالية المتقدمة تقضي عملية التطور غير المتكافئ في الاقتصاديات بين المركز والأطراف إلى مزيد تعميق تخلف الاقتصاديات الطرفية فتتحول إلى اقتصاديات ريعية تكون فيها الدولة والأجهزة مجرد أدوات لخدمة مصالح عدد ضيق من العائلات والأرستقراطية المالية والاقتصادية الحاكمة وبطانتها الاقتصادية وهو عدد ما ينفكّ يتقلص باستمرار في إطار الاتجاه المتنامي للمركزة وتتحول الدولة إلى سلطة تمنع تطور الاقتصاد البرجوازي على الطريقة التقليدية بفرضها للاحتكارات والكارتيلات خدمة للبرجوازية الكبيرة الحاكمة، يتم احتكار الدولة لفائدة أقلية وتوظف القوانين والأجهزة لفرض نظام غير عادل وظالم لا يوفر الأدنى من تكافؤ الفرص فيحتد أكثر فأكثر التناقض بين أقلية تملك كل شيء وتعيش حياة الرغد والرفاه وأغلبية معدومة تعيش حياة الغبن والقهر. إنه نظام لا أخلاقي بامتياز وحاضنة ملائمة لانتشار كل الأمراض والعلل الاجتماعية من سرقة وجرائم كما يؤدي اعتماد الأسلوب البيروقراطي، القسري والقهري الذي يستبعد الكفاءة والاستحقاق المبني على الجدارة ويفرض منطق الاستحقاق الطبيعي القائم على الولاء للبرجوازية الحاكمة إلى تراجع مكانة العلم والمعرفة وانحسار قيم الكفاءة والجدارة وسيادة ثقافة الولاءات والفساد والأساليب الملتوية ومنطق الفردانية والخلاص الفردي. تجري باستمرار عملية هدم لكل المعاني وثقافة المشاريع والأفكار الكبرى لصالح ثقافة الفردانية والاستهلاك و”تدبير الرأس”. إننا أمام نظام لا أخلاقي يخلق كل شروط الانحلال والفساد الاجتماعي.
أمّا الطبقة العاملة فهي بدورها لم تنمو نموا طبيعيا بل انتزعت انتزعا عنيفا وقسريا وسريعا من محاضنها الزراعية فحملت إلى المدن الساحلية حيث تتركز الصناعة التبعية والخدمات فظلت تحمل عقلية محافظة ومزارعة وساهمت التقاليد النقابية وخصوصية التجربة التونسية وأبويّة الاتحاد العام التونسي للشغل في رهن الطبقة العاملة وتعطيل عملية اكتسابها للثقافة والوعي والتجربة الكافية لاستبطان واستكناه معنى استقلاليتها السياسية وأهمية ذلك، فظلت سجينة المطالب التريدنيونية الإصلاحية المحدودة بالأفق المطلبي النقابي. طبقة عاملة محافظة وسلبية ومطلبية تلك أهم الخواص النفسية للطبقة العاملة التونسية. لم تعش الطبقة العاملة الحداثة والثورة البرجوازية بكل قيمها التحررية وما تعنيه من استقلالية الشخص في فكره ورأيه وجوهرية قيمة الحرية بل وجدت نفسها في مواجهة منجزات ومكتسبات الحداثة المادية ولكن ثقافتها ونفسيتها ظلت تقليدية ومحافظة وهو ما شكل دائما عاملا مساعدا لكسب ولائها وتبعيتها للأشخاص والبيروقراطية النقابية فهي طريقة تحمل العناصر الجمعية التي تفسخ الذاتية وتنفيها وليس الجماعية التي تكون نتاجا وتتويجا لاستقلالية الشخصية. كما أنّ طابع المحافظة يبرز في عدم استكناهها لسبل النضال القانوني والجماعي (النقابات)، الثقافة، الصراع، وتواصل خضوعها لتأثير ثقافة المهادنة وعقلية الوفاق وهي كلها عوامل ساهمت في تواصل تبعيتها وذيليّتها للأحزاب والتعبيرات البرجوازية وللفكر السائد الرجعي والمحافظ.
وبين هذا وذاك تتوسط البرجوازية الصغيرة البنية الاجتماعية التونسية فتطبع بكل ما يطبع الأوساط والمنتصف، التردد والمزاجية والانزلاق إلى أقصى اليسار زمن الركود وتبنّي الخطاب الثورجي والانعزالي كشأن المثقف الثوري البورجوازي الذي يريد إسقاط نظرته على الأشياء بشكل إرادوي متجاهلا العناصر الموضوعية في لوحة المعطيات التاريخية والاجتماعية والثقافية والنفسية الموضوعية لكل مكونات البنية الطبقية، أو النكوص إلى اليمين والمحافظة بخطاب مغلف بالعقلانية والتبريرية خوفا من الانقلاب الراديكالي وتوقيا من المجهول الذي قد يعصف بما راكمه من مكاسب ويقلب وضعيته رأسا على عقب زمن الزخم الثوري الذي تنخرط فيه الفئات الكادحة بنشاط واندفاع يرعب البرجوازي الصغير ويربك نسقيته التحليلية. التردد، الفردانية والانزلاق يمينا أو يسارا وفقدان نقطة التوازن في أغلب الأحيان تلك أهم سمات البرجوازي الصغير المثقف وهي في الغالب طبقة متعلمة/متمدرسة وليست مشبّعة بثقافة العصر وروحه تشبعا شاملا ديالكتيكيا وترابطيا، طبقة تستخدم التطبيقات والمنجزات العلمية وتفتقد الروح/التفكير العلميين مرتهنة تكوينيا ووظيفيا للنمط التعلمي التبعي الذي لا ينتج عقليات راديكالية وثورية متماسكة وجذرية بل متعلمين متنورين يشتغلون بأدوات المنظومة ومن داخلها أو خبرات تقنية توظف المنتج المادي للحداثة وتعيش حالة غربة عن الزمان باحتمائها بثقافة ونسقية الماضي القروسطي.
أخلاق المثقف الليبرالي زمن الإفلاس الفكري للأيديولوجيا الرأسمالية وفكر “ما بعد الحداثة” العبثي المكثف لنهاية الرأسمالية أخلاقيا وابستمولوجيا.
تحتاج الطبقة الرأسمالية إلى نظام سياسي يتماشى وطبيعة النظام الاقتصادي وكلاهما يعملان على نشر ثقافة/أخلاق مناسبة ومتماشية مع الطبيعة السياسية للنظام، فالعامل يخضع لابتزاز وعنف الرأسمالي والنظام السياسي البرجوازي في شكله الدكتاتوري أو البرجوازي الليبرالي يفرض هرمية سياسية وإدارية ويتشكل نظام تصعيد وتحويل العنف فمن يمارَس عليه العنف يحوّله إلى غيره ويبحث عمّن يحوّل له العنف (الرأسمالي على العامل، والعامل على زوجته والزوجة ربّما على الأبناء، والدولة هي سيطرة وهيمنة دورها الحفاظ على هذه الهرمية والتراتبية السلطوية وتبريرها في إطار غلاف شرعوي).