الرئيسية / عربي / مَعْركَة الوَعْي الآنَ وَهُنَا
مَعْركَة الوَعْي الآنَ وَهُنَا

مَعْركَة الوَعْي الآنَ وَهُنَا

بقلم حَمَّه الهَمََامي

سنُعيد بناءَ غزة أجمل من قَبْل… وسيُنجب نساؤُنا أجيالا أخرى تَخْلف من ارتقى شهيداوسنستمرّ في النّضال، لا نَبْكِي على شَيْء ولا نحْزَنُ على شيْء، حتّى النّصر الكامل على عدوّنا وتحرير وطننا من النّهر إلى البحر

تصريحات غزّاويّة لوسائل الإعلام

كتبنا في صوت الشّعب، اللّسان المركزيّ لحزب العمّال (التونسي) عن معركة طوفان الأقصى وحلّلنا أبعادها السّياسيّة والعسكريّة علاوة على أبعادها الإقليمية والدّوليّة أكثر من مرّة. ولكن توجد مسألة ذات أهمّيّة تفرض نفسها اليوم فرضا. وهذه المسألة تكتسي بعدا ذهنيّا، أيديولوجيّا، إنّها معركة الوعي في مواجهة قوى الهزيمة والردّة التي لا تتدخّل إلّا للتّشكيك ونشر اليأس والإحباط للحفاظ على الواقع كما هو حتّى تبّرر سلوكها الانهزاميّ من جهة وتحافظ على وجودها ومصالحها من جهة ثانية. ولا نعني في هذا المجال العدوّ الصهيونيّ وداعميه الامبرياليّين، فموقف هذا المعسكر واضح لا لبس فيه، فهو يريد للشّعب الفلسطينيّ وشعوبنا عامّة العبوديّة الأبديّة أو الموت والفناء. ولكن نعني أنظمة العمالة والخيانة وزمرة أشباه المثقّفين والإعلاميّين والمحلّلين المرتبطين بها. كما نعني صنفا من الناس الذين يتجلببون إمّا بجلباب الدين أو الوطنية والتقدمية أو حتّى اليسارية المزيّفة. كلّ هؤلاء يلتقون حول فكرة واحدة بقطع النّظر عن أسلوب التعبير عنها وهي أنّه ما كان للمقاومة الفلسطينيّة أن تقوم بمغامرة 7 أكتوبر وتستفزّ الكيان الصهيونيّفي ظلّ موازين قوى لغير صالحها وفي توقيت غير ملائم لتجرّ الشعب الفلسطيني، حسب زعمهم، إلى نكبة جديدة. وقد ظلّ هؤلاء طوال الــ 16شهرا التي استغرقها العدوان ينشرون اليأس والإحباط والأخبار الزّائفة موجّهين أصابع الاتهام إلى حركة حماس والمقاومة مبرّرين ضمنيّا، إن لم يكن علنيّا، حرب الإبادة التي يشنّها الكيان النّازيّ على غزّة. واليوم وبعد أن اضطرّ العدوّ الصّهيونيّ إلى وقف إطلاق النّار دون تحقيق أيّ من أهدافه الرئيسيّة التي أعلنها بل في الوقت الذي تكتب فيه صحيفة هآرتس الصهيونيّةبأنّ الفلسطينيّين هم أفضل شعوب العالم في الدّفاع عن أرضهم” (16 جانفي 2025) وبأنّ الهزيمة الأكبر في تاريخ « إسرائيل » هي حرب غزّة” (19 جانفي 2025) ويصرّح فيه المحلّل السّياسيّ الصّهيونيّ آلون مزراحي حركة حماس لم تهزم « إسرائيل » فقط بل الغرب برمّتهولا يتردّد فيه رئيس حكومة الكيان الأسبق إيهود باراك أيضا في اعتبار أنّ الشّهيد الرّمز يحيى السّنوار مات موت الأبطال، يحاول أولئك السّاقطون والسّواقط والسقّاط، والعبارة للشّاعر والأكاديمي والمناضل التّونسي الرّاحل الطّاهر الهمّامي، تقديم انتصار المقاومة على أنّه هزيمةونعْت الأبطال بـالمغامرينوالمجرمينوحتّى الكفّار“.

عرّابو ثقافة الهزيمة

إنّ هذا الرّهط من الناس ليس جديدا وإنّما هو امتداد أو بالأحرى استنساخ لنفس الأرهاط البائسة، الحقيرة التي سبقته والتي ظلّ دورها واحدا في كل الأوقات وفي كلّ الظّروف وهو نشر ثقافة الهزيمة. وتكتسي هذه الثّقافة خطورة أكبر على الشعوب من الهزائم الماديّة، العسكريّة لأنّها تطال العقول والنّفوس بل الرّوح وتحكم عليها بالجمود والذلّ والهوان والعبوديّة وهو أمر يتطلّب تغييره وقتا أطول من تصحيح خطة عسكرية أو موقف سياسيّ. وتستعمل القوى الرجعيّة كلّ الوسائل المتاحة لنشر هذه الثّقافة مستندة إلى ترسانتها الأيديولوجيّة من وسائل إعلام ودعاية ومراكز دراسات ومدارس وجامعات ومؤسّسات فنّيّة ودور عبادة، أي كلّ الأدوات الأيديولوجيّة المؤثّرة التي تهندس الأرواح“. فرجل الدّين يروّج، لإدانة المقاومة، أنّ المؤمن لا يلقي بنفسه وبشعبه إلى التهلكةوالإعلامي يهوّل ضربات العدوّ ويقزّم أعمال المقاومة والسّياسي يروّج أنّ حركة حماس وحزب الله والحوثيّ” “أذرع إيرانسعيا منه إلى بثّ التّفرقة بين الطوائف والأثنيات، واضعا السنّي ضدّ الشيعي والكردي والأمازيغي ضدّ العربي لضرب وحدة نضال الشعوب في مواجهة العدوّ الرئيسي، والمثقّف يروّج أنّ الشّعب الفلسطينيّ والشّعوب العربيّة عامّة مغلوبة على أمرهالأنّها ضعيفةوبالتّالي مطالبة بقبول الأمر الواقع طالما أنّها تواجه عدوّا قويا تسنده كبريات القوى الدوليةوهو ما يجعل من مواجهته مغامرة غير محمودة العواقبولا يتردّد هذا المثقّف الانتهازي في نصحالشعب الفلسطيني بالرّضا بحلّ الدولتينالوهمي والتّفريط فيما التفّ عليه الصهيونيّ الغاصب من أرض ليست له، وشعوبنا بالتطبيعوالعيش معه بسلام“.

كلّ هذا يطرح على القوى الوطنيّة والثوريّة الحقيقيّة مواجهة ثقافة الهزيمة التي تكاد تنغرس في وعي فئات واسعة من شعوبنا نتيجة عمل هدّام مستمرّ منذ عقود طويلة. إنّ كسب هذه المعركة مسألة أساسيّة ومفصليّة لتثبيت المكاسب المنجزة اليوم في معركة طوفان الأقصى وغرسها في وعي شعوبنا وتحويلها إلى جزء من ثقافتها على طريق تحريرها من ثقافة الهزيمة وجعلها تستعيد معنوياتها وعزّتها وتقبل مواجهة مصيرها دون خوف أو تردّد. ولا يمكن إنجاز هذه المهمّة إلّا عبر عمليّات شرح وتفسير عميقة ومتأنّية ومستدامة ومركّزة على المفاصل التي ينبغي استهدافها في دعاية الأعداء وأعوانهم. ولا يجب الاعتقاد أنّ هذه المسألة تعني الفلسطينيين فقط، بل هي تعني شعوب المنطقة الرّازحة تحت القهر والعدوان وشعوب العالم التي تواجه نفس الأعداء وعلى رأسهم الامبريالي الأمريكي، وهو ما يجعل من أيّ انتصار يحقّقه شعب من الشّعوب، وفي قضيّة الحال الشّعب الفلسطينيّ، نصرا لها لأنّه يُضعف العدوّ المشترك. وبطبيعة الحال فإنّ معركة الوعي تهمّ شعبنا في تونس أيضا لا في علاقة بالقضية الفلسطينية فحسب وإنما في علاقة بقضيتنا الخاصّة. إنّ عدم وقوف الشعب التونسيّ وقفة قويّة إلى جانب الشّعب الفلسطينيّ ليس معزولا عن حالته الذهنيّة العامّة وطريقة تعاطيه حتّى مع قضاياه الخاصّة. وبعبارة أخرى فهو مرتبط بحالة الإحباط واليأس والخوف التي تسكنه في ظل نظام الاستبداد الشّعبويّ الذي تمكّن فوق ذلك من إقصائه عن الشّأن العامّ وجعل همّه الأساسي اللّهث وراء توفير الاحتياجات الأساسيّة، الأوّليّة (خبز، قهوة، سكّر، زيت نباتي، غاز…) المفقودة من السّوق أو التي اشتعلت أسعارها. ومن البديهيّ أنّ الشّعب الذي لا يقدر على الدّفاع عن نفسه لا يقدر على الوقوف إلى جانب شعب شقيق يتعرّض لحرب إبادة. وبالتّالي فنحن في بلادنا في حاجة ماسّة إلى دروس معركة طوفان الأقصى لنستلهم منها القوّة التي تجعل شعبنا لا يسقط في الإحباط واليأس ولا يقبل الهزيمة ويؤمن بجدوى النضال مهما كانت صعوبات السّاعة وقوّة هجوم الرّجعية الحاكمة واختلال موازين القوى لصالحها.

معركة طوفان الأقصى: الجرأة على النضال في الوقت المناسب

لقد انطلقت معركة طوفان الأقصى في ظل موازين قوى مختلّة بشكل رهيب لصالح معسكر الأعداء. ولكنّ قوّة المقاومة أنّها جرؤت على النّضال رغم ذلك الاختلال لوعيها العميق بأنّ موازين القوى لا تتغيّر وحدها، بقدرة قادر، بل يغيّرها البشر الرّاغبون في التّغيير، بل لأنّ من يستسلم إليها ويقبلها كمعطى ثابت، غير متحرّك لأنّها اليوم لصالح الأعداء، لن يقدر أبدا على تطويرها وتحسينها لصالحه ويحكم على نفسه بالعبودية إلى أبد الآبدين. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإنّ من خصال المقاومة الغزّاويّة أنّها لم تتحرّك يوم 7 أكتوبر في موازين القوى المختلة هذه دون تخطيط وإعداد مسبقين وقراءة لمختلف الاحتمالات بما فيها ردة فعل العدوّ الهمجيّة وإمكانيّة استمرار المواجهة لمدّة طويلة، بل أعدّت العدّة لتحرّكها في كافّة المستويات. وهو ما يؤكّده صمود المقاومة الأسطوريّ قرابة 16 شهرا. أمّا التوقيت الذي اختارته لشنّ هجومها فهو الصّواب بعينه. لقد كان الأعداء، كيانا صهيونيّا وامبرياليّا أمريكيّاغربيا ورجعيّا عربيا/إسلاميّا، على وشك قطع خطوات حاسمة في اتّجاه قبر القضيّة الفلسطينيّة وفرض التّطبيع العام بقيادة سعوديّة خليجيّة مصريّة مغربيّة ليتمتّع الكيان الصهيونيّ بالطمأنينة ويهيمن على المنطقة إلى الأبد. لقد جاء طوفان الأقصى ليفشل هذا المخطّط (صفقة القرن، اتفاق أبراهام…) ويضربه في مقتل وهو ما يفسّر كلّ ما ارتكبه الرجعيّ العربيّ/الإسلاميّ المتصهين من جرائم على حساب الشّعب الفلسطينيّ. لقد حرمت المقاومة هذا الرجعيّ من نعيم الاستقرار، على حساب الشعب الفلسطيني، إلى جانب حليفه الصهيونيّ برعاية كبير المجرمين الامبرياليّ الأمريكيّ. كلّ هذه العناصر، من شنّ هجوم مباغت واختيار توقيت قاتل، تُحْسَبُ للمقاومة ولسلامة قراءتها للظّرف وذكائها العسكري والاستخباري الذي فاجأ العدوّ.

وبالطّبع تضاف إلى هذه العناصر نتائج المعركة. وهنا أيضا لا بدّ من تحكيم المعايير السّليمة إذ يجب النّظر إلى هذه النّتائج صلب إطار الموازين القوى الذي تحدّثنا عنه أعلاه لا بصفة إطلاقيّة. وفي هذا السياق ينبغي أن ينسّب الانتصار المنجز من قبل المقاومة، أي أن يقوّم ضمن الظّروف التي حكمته، أي من زاوية ما قدرت عليه المقاومة من زحزحة موازين قوى مختلة في مرحلة معيّنة من مراحل الصّراع ومنع عدوّ وحشي متعدّد الأذرع من تحقيق أهدافه. ومن هذه الزاوية فقد خرجت المقاومة منتصرة إذ أنّ العدوّ لم يحقق أيّا من أهدافه العسكريّة الكبرى في القضاء على المقاومة وتحرير رهائنه وتهجير سكاّن غزة وإعادة السّيطرة عليها إن العدوّ لم يفلح إلا في القتل والدّمار وهذا ليس نصرا، رغم وطأته الكبيرة على الشّعب الفلسطينيّ ومقاومته، بل إنّه كلّف الصهيونيّ هزيمة معنويّة وأخلاقيّة وسياسيّة غير مسبوقة إذ افتضحت سرديّته وانكشف طابعه النازيّ أمام العالم وأصبح قادته مطلوبين من محكمة العدل الدوليّة. يضاف إلى ذلك الأزمة الداخلية، السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية، الحادّة التي أضحى يتخبّط فيها. أمّا الشّعب الفلسطينيّ الذي دفع بلا شكّ ضريبة الكرامة في غزة فإنّه أخرج قضيته من دائرة النّسيان وأعاد طرحها كما لم تطرح من قبل وكسب تعاطف القوى المحبّة للسّلام في العالم وخاصّة في البلدان الامبرياليّة الغربيّة التي افتضحت طبيعتها ونفاقها، وعرّى الأنظمة العربيّة أيّما تعرية وهو ما جعل معركة غزّة تحدّد بوضوح صارخ من هم أعداء الشعب الفلسطيني ومن هم أصدقاؤه. وفوق ذلك كلّه فإنّ شعب الجبّارين قادر على لملمة جراحه وإعادة بناء غزّة أجملكما قال الأهالي أنفسهم وتنظيم الصّفوف من جديد والمضيّ قدما نحو الإعداد لمرحلة جديدة من النّضال والصّمود في كامل فلسطين لا في غزّة فحسب في وجه كل المؤامرات السياسية والدبلوماسية التي ستتكاثر مع مجيء المتعجرف دونالد ترامب وفريقه الموغل في التّصهين ضدّ القضية الفلسطينيّة وفي وجه اعتداءات الكيان الغاصب التي لا ينبغي الاعتقاد أنّها ستتوقّف في غزّة مع علم أنّها تشتدّ في مدن الضّفّة بنفس ذريعة مقاومة الإرهابالتي استعملت في حرب الإبادة على غزّة.

إنّ الشّعوب لا تتحرر من الاستعمار دون تضحيات لأنها لا تواجه حُمْلانًا وديعة وإنّما تواجه وحوشًا مستعدّة لارتكاب أبشع الجرائم للحفاظ على هيمنتها ومصالحها بلْ إنّ تاريخ الإنسانية جمعاء يؤكّد أنّ ما من خطوة خَطَتْهَا ماضيا وحاضرا في طريق تحرّرها من الجهل والقهر والاستغلال والاستعباد بمختلف أشكاله إلّا وكان لها ثمن. ودون الدخول في التفاصيل وسرد الأمثلة يكفي، ونحن نتحدث عن تضحيات الشعب الفلسطيني في غزة، التّذكير بأنّ الشّعب الجزائريّ دفع مليونا ونصف مليون شهيد ثمن حريته. كما دفع الشعب الفيتنامي أربعة ملايين شهيد ثمن التحرّر من ثلاث امبراطوريات استعمارية من أشنع ما عرفت البشرية، وهي الامبراطوريّات الفرنسيّة واليابانيّة والأمريكيّة. وليس خافيا على كلّ من يتذكّر التّاريخ أنّ المستعمر الفرنسيّ ارتكب مجازر رهيبة في مناطق سطيف/قالمة/خرّاطة الجزائرية ذهب ضحيها قرابة 45 ألف من المدنيين الأبرياء. وكان ذلك يوم 8 ماي 1945، يوم الانتصار على النازية، انتقاما من الجزائريين الذين تظاهروا بالمناسبة للمطالبة باستقلال وطنهم. لكن هذه المجازر لم تثن الشعب الجزائري عن مواصلة المسيرة ودفع المزيد من الشهداء. ومن جهة أخرى وفيما يخص جانبا آخر من المسألة يجب التذكير بأن المقاومة الفيتنامية انطلقت سنة 1934 بـجيشقوامه 34 رجلا وامرأة واحدة ومسدّسان ورشّاش خفيف و17 بندقية وتعرض هذا الجيش الذي ازداد عددا وعدّة لهزائم وانتكاسات قبل أن يتحول إلى جيش شعبي جرار وينتصر على أعداء شرسين. فهل كان لهذا النصر أن يتحقق دون تلك الخطوة الأولى؟ بالطبع لا. وهل كان للمستعمر أن يرحل دون مقاومة تتخللها انتصارات كما تتخللها هزائم قبل تحقيق النصر الحاسم؟ بالطبع لا. “فالمستعمر، كما قال فرانز فانون، لا يرفع يده إلا إذا جعلتَ السكّينَ في عنقه“.

مسألة جوهريّة: لا نضال دون قناعة/عقيدة

وبطبيعة الحال ثمّة سؤال جوهري يطرح نفسه ونحن نتطرّق إلى المقاومة في غزة وهذا السّؤال هو التالي: ما سرّ الصمود الأسطوري وغير المسبوق لبضعة آلاف من المقاومين في غزّة التي لا تتجاوز مساحتها 360 كلم مربّع في وجه جيش الكيان النازي وداعميه من الامبرياليين الغربيين وعلى رأسهم الامبريالي الأمريكي لمدة تقارب الـ16 شهرا دون استسلام رغم حرب الإبادة التي شنّت وفداحة الدمار الذي حدث واستشهاد عدد هام من القادة الكبار والكوادر؟ ما من شكّ في أن للتدريب والتخطيط والتنظيم والقيادة دورا هامّا في ذلك. ولكن العنصر الحاسم، المحدّد، القطعي يبقى بلا شك عنصر القناعة/العقيدة. فمن دون هذا العنصر لا تتوفّر إرادة ولا شجاعة ولا رباطة جأش ولا قيادة ولا ينجح تنفيذ تخطيط ولا ينفع سلاح ولا مال. وهذا هو الدرس العظيم الذي ينبغي لنا ولشعبنا وكل شعوب المنطقة والعالم ولكافة الأحرار والحرائر أن يتعلّموه ويستوعبوه. فلولا القناعة/العقيدة، الوطنيّة في هذه الحال وإن اتخذت صبغة دينيّة ما كان للمقاومة في غزة أن تواجه كيانا صهيونيا مدجّجا بالأسلحة والتقنيات الحديثة ومدعوما، ماليّا وعسكريّا وتقنيّا واستخباريّا، من عالم امبريالي غربي بأسره ومن أنظمة رجعية عربية وإسلامية (وهّابية مثل السعودية وإخوانية مثل تركيا وسنّية تقليدية مثل مصر والمغرب والأردن والإمارات وكلّها رغم أيديولوجيتها الدينية مُطبِّعة في العلن أو في السرّ مع الكيان الصّهيونيّ وهو ما يؤكّد أنّ المسألة سياسيّة طبقيّة في الأساس وليست دينية)، أنظمة رجعية وعربية/إسلامية أكثر حماسة للقضاء على المقاومة وقبر القضية الفلسطينية من بعض الامبرياليات. وهذه القناعة/العقيدة يمكن أن تكون كما أثبت التاريخ ذات خلفية دينية/وطنية (الجزائر…) أو اشتراكية (الفيتنام) وهي التي تمثّل في كلّ الحالات الدافع الرئيسي للجرأة على النضال والمقاومة في أصعب الظروف وأعقدها والإيمان بالنّصر بل هي العنصر الذي يَلْحَمُ كافة العناصر السياسية والتنظيمية والعسكرية وغيرها في كتلة صمّاء واحدة.

ولكن من أين تنبع القناعة/العقيدة لتتحوّل في الواقع إلى قوة مادية لا تقهر؟ إنها تنبع من الإيمان بعدالة القضية وبحتميّة الانتصار، الإيمان بأنّك صاحب حق غير قابل للتصرّف، الحق في الحرية وتقرير المصير والعيش بسلام على أرضك وفي وطنك المغتصب من قوى خارجية أو من قوى طبقية داخلية أو منهما معا. وهذا الإيمان هو الذي يترجم عمليا إلى أهداف مباشرة وبعيدة (التكتيك والاستراتيجية) وإلى أشكال تنظّم وأساليب نضال تسمح بالمراكمة على طريق تحويل النجاحات الجزئيّة والكمية إلى نجاحات عامة ونوعيّة. إنّ الثوّار عبر التاريخ ما كان لهم أن يجرؤوا على النضال ويقبلوا التضحية دون أن تسكنهم قناعة أو عقيدة نضالية، مكافحة ومن ثمة إيمان بعدالة القضية التي يتبنّونها والتي تعطي لوجودهم معنى وتجعلهم يتجاوزون ذواتهم لينذروا حياتهم لخدمة تلك القضيّة، قضيّة المضطهدين والمستغَلّين. وإذا كان ثمّة درس علينا استخلاصه من معركة طوفان الأقصى وصمود غزة، مقاومةً وأهاليَ، صمودا أسطوريّا، فهو ضرورة التسلّح بقناعة/عقيدة نضالية نختارها نحن كما اختار الغزّاويون قناعتهم/عقيدتهم في ظروفهم التاريخيّة الخاصّة، وبالإرادة والجرأة على النّضال والثّقة بالانتصار مهما كانت التّضحيات مع حسن التّخطيط وضبط الأهداف والقدرة على التّكيّف مع الأوضاع المتغيّرة دون إضاعة البوصلة. فلا نقبل في بلادنا ومجتمعنا ظلما ولا قهرا ولا استبدادا ولا استغلالا ولا فقرا ولا جوعا ولا هدر كرامة وطنيّة ونتسلّح بأهداف وبرامج ثوريّة تحقّق الشغل والحرية والكرامة الوطنيةوتفتح الباب نحو مستقبل أفضل لا عودة فيه للاستغلال والقهر ونَعِيَ أنّ النّضال كرّ وفرّ وأن الثورة تحتمل الانتصارات كما تحتمل الانتكاسات وأن المهمّ في كل ذلك ألا نطأطأ الرأس وألا نضيع البوصلة ونفقد الثقة في النضال بمجرّد ارتداد الأوضاع وحصول انتكاسة وألا نقبل الذلّ والهوان وألا يسري في نفوسنا الخوف من اعتقال أو تعذيب أو استشهاد وألا نستعدي بعضنا البعض وألا تدبّ التفرقة في صفوفنا عمّالا وأجراء وفلاحين وفقراء ونساء وشبابا ومثقفين ومبدعين في حين أنّ مضطهدنا أكثر منّا تنظيما ووعيا بمصالحه وتصميما على الدفاع عنها وهو يستمدّ قوته من ضعفنا نحن.

هذا هو الدّرس. لا انتصار دون مقاومة ولا مقاومة دون تنظيم وتخطيط وأهداف مضبوطة وتضحيات ولا هذا كلّه دون قناعة/عقيدة نضالية تصهر كلّ تلك العناصر في كتلة صمّاء وواحدة. فارفعوا رؤوسكم/نّ وتسلّحوا بإرادة الغزّاويّين والغزّاويات وعزيمتهم وثقوا بالانتصار وتذكّروا قول شاعركم، صاحب إرادة الحياة“:

إذا ما طَمَحْتُ إلى غاية

ركبتُ المُنَى ونسيتُ الحَذَرْ

ولم أتجنّبْ وُعُورَ الشّعابِ

ولا كُبَّةَ اللّهب المُسْتَعَرْ

ومنْ لا يريدُ صعودَ الجبال

يَعِشْ أبدَ الدّهرِ بين الحُفرْ

تونس في 23 جانفي/كانون الثاني 2025

إلى الأعلى
×