الرئيسية / صوت العالم / هل الصّين دولة امبريالية؟
هل الصّين دولة امبريالية؟

هل الصّين دولة امبريالية؟

بقلم حمّه الهمّامي

مقدّمة

هل الصّين دولة امبرياليّة؟ هذا السّؤال ما انفكّ يتردّد منذ مدة في صلب الأوساط التقدمية والمعادية للإمبريالية في بلادنا وفي المنطقة بل في العالم. وما من شكّ في أنّ أحد أسباب الإلحاح في إثارة هذا السّؤال خاصّة في بلادنا وفي منطقتنا، ما طبع موقف الصّين من انتهازية صارخة ومن صلف (cynisme) لا يوصف في علاقة بحرب الإبادة التي يتعرّض لها الشّعب الفلسطيني في غزّة وفي الضفّة. فالموقف الصّيني لم يتجاوز التنديد الباهت والدعوات إلى وقف أعمال العنف وتقديم بعض شحنات المساعدة مثلها مثل عديد البلدان بما فيها الأوروبية. فالموقف الصّيني، مثله مثل الموقف الرّوسي، لم يرتق إلى موقف جنوب إفريقيا التي رفعت قضيّة ضدّ الكيان لدى محكمة العدل الدوليّة قبل أن تلتحق بها مجموعة دول أخرى ولا إلى موقف بعض البلدان التي قطعت علاقتها به مثل بوليفيا ونيكاراغوا وكولمبيا وهندوراس تشيلي وإيرلندا وفنزويلا وغيرها من الدّول. وعلى العكس من ذلك فقد حافظت الصّين على علاقاتها بالكيان النّازي واستمرّت في مدّه بالسّلع وفي التعاون معه في كافّة المجالات وبالخصوص في مجالات التكنولوجيا المتقدمة علما وأنّ رقم المعاملات بينهما يصل إلى 19 مليار دولار. وما من شكّ في أنّ هذا السلوك لا علاقة له بسلوك بلد اشتراكي ولا حتّى بسلوك بلد تقدّمي يناصر حركات التحرّر ولا حتّى بسلوك بلد بورجوازي رأسمالي لا يقبل بحروب الإبادة على غرار إسبانيا والبرازيل وايرلندا وبعض الدول الأخرى.
ولكن الإجابة عن السّؤال المتعلّق بطبيعة الصّين ظلّ إلى حدّ كبير معلّقا. ففيما عدا الأحزاب والمنظّمات الماركسية اللينينيّة المعروفة تاريخيّا بموقفها المتباين مع التطوّرات التي عرفتها الصّين منذ عقود، وهذه الأحزاب والمنظمات لا تمثّل سوى كتلة صغيرة في العالم اليوم، فإنّ طيفا كبيرا من الأحزاب والمنظّمات والمثقفين الذين ينتسبون أو ينسبون أنفسهم إلى الفكر الاشتراكي والثوري والتقدّمي، ما تزال مواقفهم يطبعها الغموض والتّردّد والارتباك. فمن قائل إنّ الصّين ما تزال “دولة اشتراكيّة”، إلى قائل إنّ الصّين “جمهورية شعبيّة ستدشّن دخولها في الطّور الاشتراكي بمناسبة مائويّة الثّورة 2049″، إلى قائل إنّ الصين “دولة رأسمالية قوميّة ولكنّها ليست دولة امبرياليّة” ولا ينبغي “الخلط بينها وبين الامبرياليّة الأمريكيّة”. وبطبيعة الحال فكل هذه التّصنيفات تنجرّ عنها مواقف تكتيكيّة متقاربة يجمع بينها القول إنّ الصّين، مهما كانت التحوّلات التي شهدها نظامها الاجتماعي فهي تبقى “صديقة للشّعوب” وفي الوضع الحالي الذي تشتدّ فيه الغطرسة الامبريالية الأمريكيّة-الغربيّة يمكن “الاعتماد عليها” أو في أقصى الحالات استغلال التناقض بينها وبين هذه الكتلة الامبرياليّة لصالح الشّعوب.
وما من شكّ في أنّ مثل هذا الجدل شهدته السّاحة العالميّة بعد الانحراف الخطير الذي سقط فيه الاتحاد السّوفياتي في منتصف القرن العشرين، سنوات قليلة بعد وفاة ستالين. لقد تمكّنت البيروقراطيّة من الاستحواذ على الحزب وعلى الدولة وإخضاعهما لمصالحها. وفي هذا السّياق قامت بإجراءات كثيرة جعلت منها بورجوازيّة دولة احتكاريّة تتحكّم في الاقتصاد وتستغلّ العمّال والكادحين وتوزّع الأرباح الحاصلة بين عناصرها كطبقة في شكل أجور ومنح وعمولات سواء كانت ماليّة أو عينيّة، حتّى وإن ظلّت ملكية وسائل الإنتاج ذات طابع “اجتماعي” (ملكية الدّولة) على الورق. وحكمت الشعوب السّوفياتية عن طريق القمع والاستبداد الفاشي وحوّلت علاقة الاتحاد السّوفياتي ببلدان الكتلة الشرقيّة إلى علاقات هيمنة استعمارية مستغلّة حلف وارسو العسكري لتحقيق هذه الهيمنة وتغطية تدخّلاتها العدوانية داخل بلدان الكتلة أو خارجها. ولكن هذه البيروقراطية التحريفية حافظت على قشرة اشتراكيّة للمغالطة والتّمويه والتّظاهر بمناصرة الشّعوب وقضايا التحرّر وكانت تقدّم صراعها مع الامبريالية الأمريكية على الهيمنة على العالم واقتسام مناطق النّفوذ على أنّه صراع بين الاشتراكية والرّأسمالية. وهو ما أدخل بلبلة كبيرة وسط الحركة الشيوعية واليسارية وحركات التّحرّر الوطني العالمية. فكانت الانقسامات والاصطفافات الّتي استغلّتها القوى الاستعماريّة والرجعيّة في العالم بمن فيها البيروقراطية الاحتكارية السّوفياتية ضدّ العمّال والشعوب والأمم المضطهدة. واستمرّ الوضع على هذه الحال إلى أن تعفّن نظام البيروقراطية الاحتكارية السوفياتي وتفسّخ بالكامل ثمّ انهار في مطلع تسعينات القرن الماضي ليَحُلَّ محلّه نظام الاحتكارات الخاصة والمافيات الذي انطلق مع يلتسين ليستمر مع بوتين في أجواء دكتاتوريّة استبداديّة، قومية، شوفينيّة، امبريالية توسّعية، مع العلم أنّه ما يزال ثمّة إلى حدّ اليوم من يرى في روسيا بوتين المنخرطة في صراع الإمبرياليات من أجل إعادة اقتسام مناطق النفوذ في العالم “صديقا للشعوب” لا لشيء إلا لأنها في صراع (وأيّ صراع؟) مع الولايات المتحدة، رأس حربة الامبرياليات الغربيّة التي تحارب من أجل الحفاظ على مركزها الهيمني المهدّد من القوى الامبريالية الصّاعدة وعلى رأسها الصّين.
ويمكن القول إنّ ما وقع سابقا مع الاتحاد السوفياتي، الامبريالي الاشتراكي، في عهد ما بعد ستالين، هو نفس ما يحصل اليوم مع الصّين. فالرّاسخ في الأذهان هو الثّورة الصّينية، الوطنيّة، التحرّرية بقيادة ماوتسي تونغ والحزب الشيوعي الصّيني وصراعها، لمدّة غير قصيرة، مع القوى الامبريالية الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية من أجل صون استقلالها ومواجهة مخاطر العدوان التي تهدّدها. والرّاسخ في الأذهان أيضا الإصلاحات التي قامت بها هذه الثورة لصالح الشعب الصيني في المجالات الاقتصادية (تطوير الصناعة، الإصلاح الزراعي…) والاجتماعية والثقافية (الصحّة، التعليم…)، علاوة على المواقف المناصرة لحركات التحرر الوطني في أكثر من مكان وفي مقدّمتها حركة التحرّر الوطني في فيتنام. ولكن ما يغيب عن الأذهان أنّ تقييم أيّ ثورة لا ينبغي أن يتوقّف عند نقطة محدّدة بل لا بدّ من مواكبة تطوّراتها اللاّحقة للوقوف عند مستجدّاتها ومآلاتها. فالثّورات لا تتطوّر بشكل خطّي ولكنها محكومة بالصراعات الطبقيّة التي تشقها وموازين القوى التي تحكمها. وفي هذا السّياق فإن الثورة الصّينيّة عرفت تقلّبات كثيرة وصراعات كبرى اتّخذت أحيانا طابعا داميا بين اتّجاهات مختلفة صُلب النظام كما هو الحال فيما سمّي بالثورة الثقافيّة. وإذا كان ثمّة من استنتاج يمكن الخروج به من تلك الصّراعات هو أنّ الاشتراكيّة لم تُبْنَ في الصّين رغم بعض الإصلاحات الاجتماعية التي استفاد منها الشعب الصّيني. كما أن الانحراف عن مساندة قوى التحرّر الوطني في العالم بدأ منذ عهد ماوتسي تونغ مع نظرية العوالم الثلاثة التي بلورها لتبرير تقارب الصّين مع الولايات المتحدة والقوى الامبريالية الغربية الأخرى والرجعيات المحلية العميلة لها في مختلف أنحاء العالم. ومع ذلك يُمكن القول إنّ الانعطاف الكبير الذي سيتم في الصين نحو اليمين والذي سيرافقه تصفية ما أنجزت الثورة الوطنيّة الصينية المعادية للإمبريالية من مكاسب سيكون بلا أدنى شكّ مع افتكاك دينغ سياو بينغ وزمرته البيروقراطية الحكم عام 1978 وإدخال الصّين عهدا من “الإصلاحات الرّأسماليّة” سواء بعنوان “اقتصاد السوق الاشتراكي” أو “صَيْنَنَنة الاشتراكيّة” والتي ستضعها نهائيّا على سكّة التطوّر الرأسمالي السّريع وإعدادها لتتحوّل إلى قوّة رأسماليّة احتكاريّة عُظمَى تُنافسُ الولايات المتّحدة الأمريكيّة على المركز الأوّل في العالم.
إنّ هذه المسألة تقتضي منّا أن نتناولها بأسلوبٍ علمي بعيد كلّ البعد عن العاطفة والتّخمينات والرّغبات الذّاتيّة. إنّ السلاح الوحيد الذي يُمَكّننا من ذلك هو سلاح التحليل المادّي التاريخي، الواقعي. لقد كان هذا السّلاح هو الذي ساعد ثوريّي الأمس على فهم التحوّلات التي جدّت في الاتحاد السوفياتي الذي تجسّدت فيه أوّل محاولة في تاريخ البشريّة لبناء نظام اشتراكي يقطع مع الاستغلال الرّأسمالي إثر ثورة عظيمة هزّت العالم بقيادة لينين والبلاشفة. ونفس هذا السّلاح هو الذي ينبغي استعماله اليوم لفهم ما جرى ويجري في الصّين من تحوّلات كبرى اقتصادية واجتماعية وسياسيّة حتى نفهم حقيقة صراعها مع الولايات المتحدة الأمريكية كما نفهم طبيعة سياساتها الدوليّة ومواقفها من مختلف القضايا بما فيها القضيّة الفلسطينيّة، بل حتى نفهم طبيعة علاقة الصّين ببلادنا ومواقفها العديدة من أحداث عرفتها تونس منذ عهد بورقيبة مثل الإضراب العام (جانفي 1978) وبعض الأحداث الأخرى بل لنفهم أيضا علاقتها بمنظومة الحكم فيما بعد الثورة وخاصة علاقتها بحركة النهضة ونداء تونس. وهي أمور في غاية من الأهمية بالنسبة إلى شعبنا. فأن تكون الامبريالية الأمريكية رأس حربة القوى الامبريالية المتوحّشة اليوم وعدوّ شعوبنا المباشر لا يعني بأي شكل من الأشكال أن نخطئ في تحليل القوى الأخرى المتصارعة مع هذه الامبريالية فمن الضروري أن نفهم طبيعة هذا الصّراع وإلى أي مدى هو صراع لصالح شعوبنا وهذا أمر مهمّ حتى لا نخطئ في تكتيكاتنا ونفقد استقلاليّتنا ونظلّ نستبدل هيمنة بأخرى دون أن يعني ذلك بالطبع وضع كل الأعداء في سلّة واحدة. إن التطور اللامتكافئ الذي يمثل قانونا من قوانين الرأسمالية في مرحلتها العليا، الامبرياليّة، يجعل من الصراع حول مناطق النفوذ وإعادة اقتسامها بين القوى المهيمنة والقوى الجديدة الصاعدة خاصية من خصائص هذه المرحلة. وهو ما ينبغي الانتباه إليه لأنّه كان سببا في حربين عالميتين مدمّرتين وهو يهدّد اليوم بقيام أخرى ثالثة لا أحد يشكّ في كونها ستكون أكثر دمارا من سابقتيها باعتبار نوع الأسلحة التي يعدّها كلّ طرف من الأطراف المتصارعة لمواجهة خصمه أو خصومه.
إن الهدف من هذا النص الذي ننشر في هذا العدد مقدّمته، تحليل التطورات الحاصلة في الصين منذ عهد دنغ سياو بينغ إلى اليوم وتتبّع الطريق الخاص الذي سلكته الصّين لتصبح اليوم قوة رأسماليّة احتكاريّة كبرى تنافس الولايات المتحدة على الهيمنة على العالم. وعلى هذا الأساس فإنّ عملنا سينقسم إلى عناصر كبرى: أوّلا: “الإصلاحات” الاقتصاديّة في الصّين (الجيل الأوّل والجيل الثّاني). ثانيا: الصّين تدخل مرحلة الاحتكار الرّأسمالي: الخصائص/المميّزات. ثالثا: النّظام السّياسي في الصّين. رابعا: الصّين وموقعها الحالي في الصّراعات الدوليّة. خامسا: الصّين وسياستها الخارجيّة: أمميّة أم قوميّة امبرياليّة؟ سادسا: خلاصات واستنتاجات: الامبريالية والثورة في الوقت الرّاهن.

إلى الأعلى
×