بقلم مرتضى العبيدي
“سايغون درّة يا ثوار
عادت حرّة للأحرار”
هكذا تغنّى الثنائي نجم-إمام بتحرير مدينة “سايغون”، عاصمة ما كان يسمى بجمهورية فيتنام الجنوبية حتى تحريرها من طرف قوات “الفييت منه” (رابطة استقلال الفيتنام) يوم الأربعاء 30 أفريل 1975.
في ذلك اليوم، وفي مكان يبعد آلاف الكيلومترات على ميادين الحرب الجارية، تجمّع منذ الصباح المئات من الشباب المناهض للامبريالية للمتابعة المشتركة لمجريات تلك الحرب الدائرة رحاها على أبواب سايغون، ينتظرون ساعة الإعلان عن النصر النهائي للاحتفال به على طريقتهم. إنهم طلاب الجامعة التونسية المتوافدين زرافات ووحدانا على حديقة كلية الآداب والعلوم الإنسانية 9 أفريل بتونس، من سائر الكليات الأخرى تلبية لنداء “اللجنة الجامعية المؤقتة”. فأخبار البارحة تشير أن النصر قريب قريب، وقد بثت التلفزات صور آخر طائرات الهيليكوبتر العملاقة التي كانت تجلي آخر رعايا الولايات المتحدة في فيتنام وأكبر عدد ممكن من العملاء من فوق سطح السفارة الأمريكية. وكان المناخ العام مشحونا والحضور متشنج بين مواصلة متابعة الأخبار عبر أجهزة التنانزيستور التي يتحلّق حول كل جهاز منها خلق كثير أو الشروع في الاجتماع المرتقب. وفجأة دوّت الصرخة معلنة الانتصار بدخول طلائع جيش التحرير الى القصر الرئاسي لدولة العمالة. ولم يكن من السهل كبت المشاعر ومظاهر التعبير عن الفرحة والشروع في الاجتماع الذي كان يضمّ في تلك اللحظة بضعة آلاف.
فتداول بعض المناضلين على المنصة للتعبير عن إكبارهم لما أنجزه “شعب الملاحم” واستخلاص بعض الدروس الأولية، إلا أن الجمهور كان يطالب بتحويل هذا التجمّع الى مظاهرة حاشدة تجوب شوارع العاصمة، وهو ما تمّ بالفعل.
وكان هذا الانتصار تتويجا لـ 117 سنة من حروب تحريرية قارع فيها الشعب الفيتنامي وشعوب الهند الصينية عموما (فيتنام، لاوس، كمبوديا) ثلاث من أعتى الامبراطوريات الاستعمارية التي جثمت تباعا على صدور تلك الشعوب ومقدراتها: الإمبراطورية اليابانية، والامبراطورية الاستعمارية الفرنسية الوافدة على المنطقة منذ أواسط القرن التاسع عشر (1858)، والتي مرّغ الفيتناميون أنفها في الوحل في عديد المعارك وخاصة في واقعة “ديان بيان فو” (13 مارس – 7 ماي 1954) التاريخية التي ألحقت ضربة قاصمة للامبراطورية الاستعمارية الفرنسية، لا في المنطقة فحسب، بل في بقية القارات كذلك. وهو ما أجبر فرنسا على القبول بالتفاوض مع حركات التحرر حتى تتخلص بأخف الأضرار من عبء الاستعمار وتصوغ علاقاتها بمستعمراتها بمسوّغات الاستعمار الجديد. ومن بين صنّاع ذلك النصر الجنرال جياب صاحب نظرية “هجوم سريع … نصر سريع، هجوم ثابت… تقدّم ثابت” الذي أصبحت تكتيكاته مرجعا يُرّس في الكليات الحربية.
وما أن أجبرت فرنسا عن الانسحاب حتى عوّضتها القوة الامبريالية العدوانية الصاعدة أي الولايات المتحدة الأمريكية التي حلت محل فرنسا منذ 1955 باحتلالها الجزء الجنوبي من فيتنام وإعلان الحرب على جمهورية الفيتنام الديمقراطية، هذه الحرب القذرة التي استعملت فيها أمريكا جميع أنواع الأسلحة بما فيها المحظورة دوليا كالنابالم، وبلغ عدد جنودها في الفيتنام 400 ألف جندي، وتم خلالها إسقاط قنابل على جمهورية فيتنام الديمقراطية أكثر من تلك التي أسقطت على أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، ولم يزد ذلك شعب فيتنام إلا إصرارا على النصر. وهو ما تحقق في هذا اليوم التاريخي الذي يحتفل الشعب الفيتنامي وكافة شعوب المعمورة بذكراه الخمسين، إذ أنه حمل معه درسا لا يفنى ألا وهو أن هزم الامبريالية ممكن في كل الأحوال ومهما كان صلفها وجبروتها.