الرئيسية / صوت الوطن / الدولة الاجتماعية في تونس: بيع للوهم
الدولة الاجتماعية في تونس: بيع للوهم

الدولة الاجتماعية في تونس: بيع للوهم

بقلم حسين الرحيلي

السيادة الوطنية، الدولة الاجتماعية، الدور الاجتماعي للدولة، أولوية الدولة القطرية على الاتحاد مع دول أخرى، ” أمريكا أولا”، ” الشعب يريد، وهو يعرف ماذا يريد”، كل هذه الشعارات تم تصنيفها من طرف علم الاجتماع السياسي على أنها شعارات شعبوية فارغة من أيّ مضمون فعلي، وغير قادرة على تحقيق طموحات وأحلام ملايين من البشر، الذين لم تستطع المنظومة الرأسمالية ومنذ أكثر من 150 عاما أن تحقق لهم ما وعدتهم به من رفاه وازدهار ورخاء.

الشعبوية تملأ الفراغ

انتشرت هذه الشعارات الشعبوية في ظل تحولات هيكلية وجيواستراتيجية عالمية، متبوعة بصعود تيارات يمينية متطرفة وأفكار شعبوية وزعامات نكرة سياسيا ونضاليا، ركبت على موجة انهيار قيم العدل والإنصاف والرخاء الاجتماعي، وانتشار الفقر والتهميش والحروب، كنتيجة منطقية لفشل تام للمنظومات الاقتصادية والسياسية التي حكمت العالم منذ الحرب العالمية الثانية إلى اليوم.
فالشعب الذي حلم بواقع أفضل بعد انتفاضات ما سمّي بـ”الربيع العربي”، لم ير شيئا من أحلامه بسبب غياب البرامج والمشاريع الثورية القادرة على تحقيق هذه الأحلام والتطلعات من ناحية، وضعف الأحزاب التقدمية والثورية على مستوى الانغراس الجماهيري والتنظيمي من ناحية أخرى. إضافة إلى وجود بدائل جاهزة من طرف الدول الغنية المتصارعة أصلا على هذه الدول وثرواتها، لمواصلة استغلالها واستثمار إمكاناتها لصالح الرأسمال العالمي والمتمثلة في الإسلام السياسي بكل أشكاله ومظاهره.
فشلت الانتفاضات العربية في تحقيق الشعارات التي رفعتها جماهير الشباب خاصة في تونس ومصر والمغرب وليبيا وسوريا، والتي تمحورت حول شعار مركزي “شغل، حرية، كرامة وطنية” أو باللغة المصرية “عيش، حرية، كرامة وطنية”.
فتحوّلت التجربة الديمقراطية إلى مجرّد حلبة للصراعات السياسوية بين أحزاب هجينة وغريبة عن العمل السياسي. إذ تحوّلت تونس فيما سمّي مرحلة الانتقال الديمقراطي إلى أرض خصبة للسمسرة السياسية واعتبار الدولة غنيمة تتقاسمها هذه الدكاكين الحزبية لصالح أغراضها الذاتية في تغييب كامل لمصالح المواطنات والمواطنين الذين تحوّلوا في إطار هذه التجارب الفلكلورية للديمقراطية التمثيلية إلى مجرد أجسام انتخابية يقومون بدعوتها مرة كل خمس سنوات.
بمرور الزمن، تقلصت النتائج الفعلية المرتبطة بمصالح الشعب الذي تعمّق لديه الشعور بالإحباط واليأس من العملية السياسية برمتها؛ وبالتالي إعادة التفكير في كل الشعارات التي تمّ رفعها من قبل، والتي كانت محركا أساسيا لهذه الجماهير ومحفزا لها للخروج للشارع.
فتراجعت نسبة المشاركة الشعبية في الاستحقاقات الانتخابية منذ2011. وتقلص الاهتمام الشعبي تدريجيا بالسياسة وبالشأن العام بشكل أساسي. وانطوت الطبقات العاملة والشرائح الاجتماعية الأوسع بالمجتمع عن نفسها تحت ضربات انتشار الفقر والتهميش. إضافة إلى دخول الاقتصاد مرحلة الانكماش والتراجع على المستويين الكمي والكيفي. فانخفضت الأجور، وارتفعت مستويات التضخم. مما أثر بشكل كبير في الأسعار وبالتالي في المقدرة الشرائية لجل المواطنات والمواطنين. وتبخر حلم الشعب نهائيا في إصلاح الأحوال الاجتماعية والاقتصادية.
في ظل هذه الأوضاع الرازحة تحت شبح تشتت مكونات الدولة وأجهزتها، إضافة إلى تدنّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، مع استفحال المديونية التي وصلت إلى مستوى 85 % من ناتجها الوطني الخام. إضافة إلى غياب المؤسسات الدستورية الضامنة للاستقرار السياسي من ناحية، والقادرة على منع الانقلابات بكل أشكالها من ناحية أخرى. بدأ خطاب شعبوي في التغلغل في نسيج المجتمع المتهالك واليائس سياسيا، والمنهار اقتصاديا واجتماعيا في اكتساح الفراغات التي تركتها القبائل السياسية المتناحرة. فعبّأها هذا الخطاب الشعبوي بشعارات النظافة ومقاومة الفساد ومحاكمة من أجرم سياسيا واقتصاديا في حق الشعوب وتحقيق السيادة الوطنية والدولة الاجتماعية كحلم لأجيال من الشعب.
فما هو مفهوم الدولة الاجتماعية؟ وهل يمكن تحقيقها في تونس؟ خاصة بعدما تمّ التصريح العلني للسلطة القائمة بأن ميزانية 2025 هي ميزانية تحقيق الدولة الاجتماعية. وهل تتحقق الدولة الاجتماعية من خلال الميزانيات القيسية التي لا تعتمد إلّا على الجباية والضغط الجبائي للعمال والأجراء وأصحاب المؤسسات العاملين في إطار القانون؟

الدولة الاجتماعية: المفهوم والمقومات

أجمعت كل الدراسات والبحوث المرتبطة بمجال الدولة الاجتماعية، أن هذه الدولة ومنذ أولى تجارب نشأتها وتأسيسها، كان ملقى عليها واجب تقديم المساعدات والعون والدعم للفئات الضعيفة والهشة في المجتمع. كل ذلك في إطار أشمل مرتبط بحماية المواطنات والمواطنين من سطوة وجشع اقتصاد السوق الرأسمالي.
كما تطورت الدولة الاجتماعية عبر مسارها التاريخي والاجتماعي، لتصل إلى مرحلة ضمان التوزيع العادل للثروة من خلال التشريعات الضامنة للخدمات الاجتماعية في مجال التغطية الاجتماعية (التقاعد) والصحية (التأمين الصحي)، والتأمين ضد حوادث الشغل والبطالة والعجز، وغيرها من المخاطر التي تهدد الإنسان. إضافة إلى إفراد الأسرة بحماية قانونية خاصة، وبالتحديد تجاه الأطفال القصر والنساء. كما تضمن هذه التشريعات الأسرية منح سخية للأطفال في أجور أوليائهم بشكل يضمن لهم التربية الجيدة وإطار العيش المناسب وظروف الدراسة المتكافئة مع أغلب أطفال البلاد.
وأطلق على كل هذه التشريعات الاجتماعية المتعددة والمتنوعة تسمية “شبكة التأمينات الاجتماعية”.
تطورت الدولة الاجتماعية لتتحول إلى دولة الرفاه الاجتماعي من خلال تطوير الخدمات الاجتماعية المسداة إلى السكان، فشملت الحق في الصحة والتعليم والسكن والنقل. كما تبنت سياسات لحماية العمال في العلاقات الشغلية التعاقدية، وآليات متعددة لتقليص الفجوات الاجتماعية في علاقة بالأجور وتوزيع الدخل والثروة المنتجة. إضافة إلى مخططات لحماية البيئة والمحيط تطبيقا للتنمية المستدامة.
كل هذه التطورات ما كان لها أن تحقق نتائج ملموسة، إلّا في إطار دولة ديمقراطية مبنية على أساس العدالة والمساواة التامة بين الجنسين وتركيز مقومات العمل السياسي والمدني على قواعد حرية التعبير والرأي واقتسام الفضاء العمومي بين كل الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين والمدنيين.

الواقع التونسي… ومقومات الدولة الاجتماعية

يمكن تلخيص واقع الحقوق الاجتماعية في تونس من خلال المعطيات التالية:

  • ثلثي المتقاعدين لا تتجاوز جراية تقاعدهم 2/3 الأجر الأدنى المضمون
  • عدد السكان الذين لا يتمتعون بالتغطية الصحية يفوق 4 مليون ساكن وفق إحصائيات 2019 (أي 1/3 سكان البلاد لا يتمتعون بالتغطية الصحية)
  •  عجز الصناديق الاجتماعية يتجاوز 2.7 مليار دينار لسنة 2024 أكثر منة 800 ألف عامل غير منخرطين في التغطية الاجتماعية وخاصة العاملين في الاقتصاد غير المنظم
  • أكثر من 120 ألف تلميذة وتلميذ يغادرون قاعات الدراسة مبكرا ممّا جعل نسبة الأمية تتجاوز 17 % وفق الأرقام الصادرة عن المعهد الوطني للإحصاء يوم 17 ماي 2025.
  • تفكك أسري غير مسبوق وارتفاع نسب الطلاق (الثالثة عربيا)، إضافة إلى انتشار العنف المسلّط على النساء خلال الخمس سنوات الأخيرة
  • غياب أي إجراءات حمائية للأسر الفقيرة والمهمشة
  • ارتفاع الأسعار لكل المواد وارتفاع نسب التضخم. مما أثر بشكل سلبي على المقدرة الشرائية لكل الشرائح الاجتماعية
  • غياب المواد الأساسية وتذبذب وجودها من منطقة إلى أخرى
  • شح مائي رهيب زاده الجفاف المتواصل تأزما، مما دفع بالسلطات إلى اتباع سياسة القطع الدوري لمياه الشرب منذ مارس 2023 مما أثر على إطار عيش كل التونسيات والتونسيين.
  • اقتصاد معطل من خلال تعطل محركات الإنتاج الأساسية وتراجع الاستثمارات المحلية والأجنبية، مما جعل نسب النمو السنوية لا تتجاوز 1.2 بالمائة، وهو ما جعل البطالة ترتفع والأوضاع الاجتماعية تزداد تدهورا وتوترا.

من خلال كل ما تم التعرض إليه، وفي إطار هذا الوضع البائس على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية، مع انسداد الأفق سياسيا وتعدد المحاكمات السياسية بشكل جائر، وضرب لكل مكونات المجتمع السياسي والمدني والجمعياتي، ومحاصرة الأجسام الوسيطة بالمجتمع بشكل كلي، في إطار الهيمنة على الفضاء العمومي من طرف السلطة وتحويل الإعلام العمومي إلى بوق دعاية، هل يمكن في إطار كل هذه الأبعاد البائسة والمأساوية وغياب أي نفس ديمقراطي للدولة أن نحقق الدولة الاجتماعية؟
الدولة الاجتماعية لا يمكن أن تقوم إلا في إطار ديمقراطي وحوار مجتمعي شامل، وقوانين تشاركية تصدر بالحوار مع كل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين دون استثناء ولا إقصاء. هل يمكن لدولة تتسول من الداخل والخارج أن تؤسس لدولة اجتماعية مبنية على حرمة كرامة الإنسان، بما تعنيه الحرمة من حماية لحقوقه السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية؟
فهل تونس الحالية، قادرة أن تكون دولة اجتماعية وفق مفهومها التاريخي ومقوماتها التي تمّ الإشارة إليها سابقا؟ السؤال سيجيب عنه التاريخ القريب، عندما تسقط الأقنعة وتذوب الأوهام التي تباع على الرصيف.

إلى الأعلى
×