الرئيسية / صوت المرأة / نحو انتكاسة خطيرة لحقوق المرأة في تونس: تعديل مجلة الأحوال الشخصية بين قمع الحريات وتفكيك العدالة
نحو انتكاسة خطيرة لحقوق المرأة في تونس: تعديل مجلة الأحوال الشخصية بين قمع الحريات وتفكيك العدالة

نحو انتكاسة خطيرة لحقوق المرأة في تونس: تعديل مجلة الأحوال الشخصية بين قمع الحريات وتفكيك العدالة

بقلم دليلة محفوظ

توطئة

في خضمّ التحولات السياسية التي تشهدها تونس، يُعاد طرح مسألة حقوق المرأة في ظل نظام يسير بخطى حثيثة نحو إعادة إنتاج أبنية الاستبداد والهيمنة. فمنذ توليه السلطة، عمل قيس سعيّد على تجميد مكاسب النساء في مختلف مجالات الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، معيدًا الاعتبار لمنظومة قانونية وثقافية رجعية تُكرّس التمييز وتُعيد المرأة إلى موقع التبعية. وفي قلب هذا المشروع السلطوي، تبرز المنظومة الأبوية لا كهيكل اجتماعي فحسب، بل كأداة سياسية واقتصادية محورية تُستخدم لتثبيت الحكم الفردي المطلق، بما يخدم نموذجًا رأسماليًا استبداديًا يُنتج التفاوت والتهميش بشكل ممنهج.
في عالم تتقاطع فيه أنظمة القمع وتتساند، تتجلّى العلاقة بين الأبوية، السلطوية، والرأسمالية بوصفها تحالفًا بنيويًا يعيد إنتاج العنف الرمزي والمادي، خصوصًا ضد النساء. فالأبوية، في هذا السياق، لا تعمل بمعزل عن الاقتصاد أو السلطة، بل تتغذى منهما وتغذيهما، لتتحوّل إلى آلية للضبط والسيطرة على الأجساد والأدوار، تُعيد إنتاج التفاوتات وترسّخ دونية موقع المرأة في المجتمع. من هنا، يصبح تعديل مجلة الأحوال الشخصية – أو بالأحرى، التراجع عنها – مدخلًا لقراءة أشمل لمنطق الحكم الذي يستبطن قمعًا متعدد الأوجه، ويتغذّى من التقاء الاستبداد السياسي بالتسلط الأبوي والبنية الرأسمالية النيوليبرالية.
في لحظة دقيقة تمرّ بها تونس، وفي ظلّ تنامي النزعة الاستبدادية للنظام القائم، يلوح في الأفق خطر حقيقي يهدّد المكاسب التاريخية التي حققتها المرأة التونسية على امتداد عقود من النضال والوعي الحقوقي والاجتماعي. هذا الخطر لا يتمثل فقط في التراجع عن المساواة القانونية بين الجنسين، بل يتجسّد بشكل صارخ في مقترح تعديل جوهري وخطير يطال مجلة الأحوال الشخصية، أحد أعمدة المشروع التحديثي الذي طالما ميّز التجربة التونسية عن غيرها في المنطقة.
يقترح هذا التعديل منح عدول الإشهاد صلاحية مباشرة إجراءات الطلاق، بدلاً من أن تكون هذه المهمة حكرًا على القضاء، وهي خطوة ذات أبعاد خطيرة تهدّد البنية القانونية والاجتماعية للزواج والأسرة، وتمثل تراجعا صريحًا نحو أنماط تقليدية قديمة تتنافى مع أبسط معايير العدالة والمساواة.

القضاء الضامن الأول للعدالة الاجتماعية في الطلاق

إنّ منح المحاكم التونسية صلاحية النظر في قضايا الطلاق ليس أمرًا اعتباطيًا، بل نابع من فهم عميق لطبيعة الزواج كعقد مدني له تبعات قانونية واجتماعية معقدة. فالمحكمة تمثل جهة رقابية مستقلة تضمن:

  • حماية الحقوق المتبادلة للزوجين عند الانفصال.
  • توثيق الحدث قانونيًا للحفاظ على الوضع المدني للطرفين.
  • فرض الالتزامات مثل النفقة والمتعة.
  • تنظيم القضايا المحورية مثل الحضانة والرؤية والسكن.

إذا، يتجلّى بكل وضوح أنّ إزالة هذه الوظائف من يد القضاء ونقلها إلى العدول، وهم ليسوا هيئات قضائية بل منفذون إداريون، يعيدنا عمليًا إلى نظام الطلاق العرفي التقليدي، الذي يفتح الأبواب أمام الاستغلال والضغط الاجتماعي والانتهاك الصريح لحقوق النساء.

فشل منظومة الطلاق في تونس: حين تغيب الإرادة السياسية رغم تقدم النصوص القانونية

رغم ما تتميز به المنظومة القانونية التونسية من قوانين تقدمية في مجال الأحوال الشخصية، ورغم ما تنصّ عليه من آليات حماية اجتماعية مثل صندوق ضمان النفقة وجراية الطلاق، (للتكفل بدفع مبالغ النفقة، أو جراية الطلاق التي صدرت بها أحكام تعذّر تنفيذها والتزام الدولة تجاه الفئات الهشة)، فإن واقع الطلاق في تونس يشهد أزمة عميقة ومركبة، لا تعود إلى نصوص القانون نفسها بقدر ما تعود إلى غياب الإرادة السياسية الحقيقية لتفعيل هذه القوانين، وتخصيص الموارد اللازمة لدعم آلياتها التنفيذية.

عدالة أسرية بلا وسائل: مظاهر أزمة متفاقمة

يشهد قطاع العدالة الأسرية في تونس تدهورًا غير مسبوق في الأداء والخدمات. فعلى امتداد الأشهر والسنوات الأخيرة، أصبحت المدة الزمنية للحصول على جلسة طلاق، أو تثبيت حق الإقامة أو النفقة أو رؤية الأطفال، غير مقبولة بأيّ مقياس. وقد أصبحت هذه التأخيرات الطويلة، التي تمسّ مباشرة حياة الأفراد وكرامتهم، جزءًا من اختلال بنيوي مزمن في عمل المحاكم.

قضاء بلا دعم: السبب الجوهري للفشل

هذا الواقع المرير ليس سوى نتيجة مباشرة لانعدام الوسائل البشرية والمالية الضرورية لتسيير مرفق العدالة. فقد نبّهت مختلف الأطراف الفاعلة – من محامين وقضاة وكتبة محاكم وموظفي قطاع العدالة – إلى حالة الانهاك التي باتت تعيشها المنظومة القضائية، خاصة في قضايا الأسرة. بل وصل الأمر إلى أن صرّح العديد من القضاة بأنهم لم يعودوا قادرين على إحقاق العدالة في ظل هذا العجز الهيكلي المزمن، وهو ما دفعهم إلى المطالبة مرارًا وتكرارًا بتوفير قضاة إضافيين وتجهيزات لوجستية ودعم إداري ملائم يسمح بعمل المحاكم في ظروف محترمة وإنسانية.

الضحايا الحقيقيون: المواطنون والضعفاء أولاً

في ظل هذا الشلل القضائي، يبقى الضحايا الحقيقيون هم المتقاضون أنفسهم، وخاصة النساء والأطفال، وهم من يفترض أن تحميهم القوانين التونسية المتقدمة. فعندما تطول الإجراءات، وتتجمّد القرارات، ويُترك المواطن فريسة البيروقراطية، تتراجع العدالة إلى مجرّد حبر على ورق، وتصبح مكتسبات مجلة الأحوال الشخصية مجرد نصوص بلا فعالية واقعية.

الدعوة إلى الاستفاقة: لا عدالة بلا إرادة ولا إصلاح بلا تمويل

الحل لا يكمن في إفراغ القضاء من صلاحياته وتحويل الطلاق إلى إجراء إداري جاف، بل في إعادة الاعتبار للعدالة الأسرية كأولوية وطنية، عبر:

  • تخصيص ميزانية حقيقية وكافية لدعم المحاكم المتخصصة.
  • تسريع إجراءات النفقة وتفعيل صندوق ضمان حقوق الأسرة بشكل آلي وشفاف.
  • توفير التكوين والدعم اللازمين للقضاة والموظفين العاملين في قضايا الأسرة.
  • اعتماد أساليب حديثة لحل النزاعات، مثل الوساطة والتسوية الودية، ضمن إطار قضائي يحفظ الحقوق ولا يختزلها.

إنّ فشل منظومة الطلاق في تونس لا يجب أن يُحمَّل للمرأة أو للمكتسبات التقدمية، بل هو فشل سياسي ومؤسساتي بالأساس، يمكن تجاوزه إن وُجدت الإرادة، وتمّ الإصغاء لمطالب المشتغلين في القطاع والمواطنين المتضررين على حدّ سواء.

إعادة إنتاج التمييز داخل الأسرة

إنّ المقترح ليس بريئًا ولا يهدف إلى تيسير إجراءات الطلاق بقدر ما يسعى إلى إفراغ الطلاق من مضمونه القانوني والحقوقي، وتحويله إلى إجراء بيروقراطي لا يأخذ في الاعتبار السياق الاجتماعي والإنساني للانفصال. وبهذا الشكل، تتحوّل الأسرة إلى مجال مفتوح للتفاوت واللامساواة، وتُقوَّض أسس العدالة التي تضمنها الدولة المدنية.
إنه مشروع يكرّس الهيمنة الذكورية تحت غطاء التبسيط الإداري، ويتنكّر لواقع أنّ المرأة لا تزال الطرف الأضعف اجتماعيًا واقتصاديًا، ما يجعلها الأكثر تضرّرًا في حال تقليص دور القضاء في حماية حقوقها.

تكتيك دعائي مخزٍ لتمرير التعديل

من المؤسف أنّ النظام الحالي في تونس، وفي سعيه إلى تمرير هذا التعديل، يلجأ إلى تجييش الرأي العام بأساليب دعائية مخزية، تعتمد على خطاب مزيف حول “تسهيل الطلاق” أو “رفع الضغط عن القضاء”، بينما الهدف الحقيقي يتمثل في ضرب مؤسسة القضاء وإعادة هيكلة العلاقة الأسرية بما يخدم مشروعًا سلطويًّا يعيدنا عقودًا إلى الوراء.
إنّ هذا التوجّه لا يُفهم إلّا ضمن مسار عام من التراجع عن الحقوق والحريات، يستهدف النقابات والإعلام والمجتمع المدني والسياسي، واليوم تصل يد القمع إلى مؤسسة الأسرة ذاتها.

خاتمة: معركة النساء من أجل العدالة مستمرة

من هنا، فإن التراجع عن روح مجلة الأحوال الشخصية لا يمثّل مجرّد خطوة قانونية، بل يعكس تحوّلًا بنيويًا في منطق السلطة، حيث تُوظّف البنية الأبوية لضمان السيطرة وإسكات أصوات النساء وتقويض أيّ أفق لتحرر شامل وعدالة اجتماعية حقيقية.
في مواجهة هذا المشروع الخطير، تبقى اليقظة المجتمعية والنضال النسوي أمرًا حيويًّا لا غنى عنه. فالمعركة اليوم لا تدور فقط حول بند قانوني، بل حول مستقبل المساواة في تونس، ومكانة المرأة في المجتمع، ودور الدولة في ضمان العدل والإنصاف لا في التحايل عليهما.
إنّ مقاومة هذا التعديل ليست فقط واجبًا قانونيًا، بل ضرورة وجودية لحماية ما تبقى من مكتسبات دولة القانون وحقوق الإنسان، وضمان عدم تحوّل الأسرة إلى ساحة أخرى من ساحات القمع والتفاوت.

إلى الأعلى
×