بقلم جابر سليمان
في صباح خميس هادئ من جوان، وتحديدا يوم 19 جوان 2025، على شاطئ قصيبة المديوني الساحلية بولاية المنستير، غاب المشهد المعتاد. لم يشمّر البحارة سراويلهم ولم يتجهوا نحو مراكب الصيد الراسية فوق هدوء البحر ولم تتسلل نغمات أم كلثوم وصليحة من راديوهاتهم الصغيرة. حتى رائحة الشاي الأحمر والسجائر الكربستال التي كانت توقظ البحر نفسه اختفت. كان صباحا مشوبا بالدهشة، في لحظة غريبة بين العادة واللاعادة… بحارة قصيبة المديوني لم يتعرّفوا على بحرهم ذاك اليوم. البحر كان أمامهم، لكنه بدا كما لو أنه تغير فجأة لون مياهه، هدوءه المريب، شيء ما جعلهم يشعرون بأنهم لا يقفون أمام المتوسط الذي يعرفونه، بل كأنهم فجأة على ضفاف البحر الأحمر… دون أن يتحرّكوا خطوة، ودون أن تتغير إحداثيات المكان والجغرافيا.
على طول الشريط الساحلي لولاية المنستير وعلى شاطئ بلدة قصيبة المديوني، استفاق البحارة صباح يومها على مشهد لم يألفوه من قبل، فبدلا من زرقة البحر الداكنة وركوده المعتاد، تلوّنت مياهه بلون أحمر مريب، امتدّ على مدى البصر، في مشهد أربك البحارة وأربك معه إيقاع الحياة في قصيبة. ومع تقدّم ساعات الصباح، بدأت وفود الأهالي تتقاطر نحو الشاطئ، يلحقهم بحارة من المدن المجاورة، من ميناء صيادة ولمطة، بحثا عن تفسير لما يحدث. ولم يتأخر التفسير كثيرا، فقد اتضح أنّ ما حلّ بالشاطئ هو حالة غزو بيولوجي، امتدّ على طول خمسة كيلومترات من خليج المنستير، انطلاقا من شواطئ قصيبة المديوني وصولا إلى حدود ميناء صيادة والسبب غزو مفاجئ ومكثف لطحالب مجهرية تعرف باسم Blooms، وهي كائنات دقيقة تتكاثر عادة في المياه الملوثة، لكن هذه المرة، تكاثرها كان استثنائيا في حجمه وسرعته، ما أدّى إلى صبغ البحر بهذا اللون الأحمر الغريب.
من شاطئ نابض بالحياة إلى بركة سامّة… خليج المنستير يدفع ثمن الإهمال
في الحقيقة، إنّ ما حدث في جوان 2025 لم يكن مفاجئا تماما بل هو نتيجة حتمية لمسار طويل من التدهور البيئي الذي شهده خليج المنستير على امتداد اكثر من 20 سنة فهذه ليست المرة الأولى التي يتحوّل فيها البحر إلى مشهد كارثي، لكنها كانت من بين المرات الأشدّ حدة، إذ أنّ أكثر من نصف الخليج الممتدّ من شواطئ قصيبة المديوني إلى حدود ميناء صيادة تحول إلى مساحة موحلة، بلا حياة بحرية، بلا أمواج، بلا تيارات… مجرّد بركة راكدة وهذا الوضع لا يقتصر على فصل أو موسم، بل هو حالة دائمة يعانيها البحر طوال العام كظاهرة الجزر الدائم التي تسبّبت في انحسار مياهه وانكشاف طينه و التي أجبرت البحارة على الإبحار لمسافات طويلة أحيانا لعدة كيلومترات داخل البحر، فقط للوصول إلى مناطق ما تزال صالحة للصيد. المؤلم أكثر، أنّ هذا البحر كان يوما ما فخر المنطقة ومتنفسها الوحيد، بل حتى كان ملاذا للسياح في التسعينات وعنصر حركية اقتصادية في المنطقة، تحوّل منذ بداية الألفينات إلى ما يشبه المستنقع الكبير، فمن شواطئ قصيبة، إلى مياه لمطة، وصولا إلى صيادة لم يعد البحر ما كان عليه. لم يعد وجهة للسباحة ولا للصيد، بل بات عنوانا للتلوث والإهمال البيئي بسبب سياسات الإهمال الرسمي المتواصل وغياب الإرادة الحقيقية لحماية هذه السواحل، والدفع نحو تحويل هذه الشواطئ إلى مصبّات للنفايات والفضلات، دون خطط فعلية للمعالجة، ودون أدنى مراعاة لحياة الناس أو للبيئة البحرية.
وليست الكارثة البيئية التي يعيشها خليج المنستير اليوم سوى تتويج لسلسلة طويلة من الإهمال المتعمّد، إن لم نقل التواطؤ الصريح. فمنذ سنة 1992، تاريخ إنشاء محطة التطهير التابعة للديوان الوطني للتطهير بوادي السوق في خليج قصيبة المديوني، بدأت ملامح التلوث تتشكل ببطئ فالمحطة التي صمّمت لاستيعاب 1680 مترا مكعبا من المياه المستعملة، وجّهت لاستقبال كميات تناسب عددا محدودا من السكان غير أنّ الواقع كان مختلفا تماما، إذ تشير التقديرات إلى أنّ المحطة تتلقى يوميا ما يزيد عن 9000 متر مكعب، أي أكثر بخمسة أضعاف من طاقتها القصوى، ما أدّى إلى تسرّب مستمر وكارثي لمياه الصرف الصحي نحو البحر. ورغم أصوات المواطنين وتحذيرات المتساكنين المحاذين للشاطئ، الذين اشتكوا لسنوات من الروائح الكريهة والمياه الراكدة والطين الذي بدأ يغمر الخليج، فإن الجهات الرسمية بقيت صامتة، بل غير مكترثة، وتدريجيا، فتح هذا الصمت شهية بعض الشركات الخاصة، خصوصا شركات النسيج وصباغة الأقمشة، التي وجدت في هذا التراخي فرصة مثالية للتخلص من نفاياتها الكيميائية دون مساءلة فشركات متمركزة في المناطق الداخلية من الولاية، مثل قصر هلال وجمّال وخنيس، بدأت بمدّ قنوات صرف سرية عبر الأودية لتصبّ في البحر مباشرة، ناقلة معها كميات ضخمة من المياه الملوثة بمواد صباغة سامة.
والأخطر من ذلك، ما يرويه البحارة من مشاهداتهم المتكررة لشاحنات تفريغ تفرّغ حمولتها من المياه الملوثة ليلا، في غفلة من الجميع، إمّا في الشاطئ أو حتى داخل الميناء. ولم يكن ذلك السلوك حكرا على شركات النسيج، بل انضمت شركات المقاولات والبناء إلى حفلة الإهمال هذه، بعد أن تحوّلت الشواطئ إلى مكبّ لنفايات الهدم والحجارة والإسمنت. كل هذه التجاوزات، وفق شهادات متعددة، تتمّ تحت أنظار سلطات الإشراف، التي لم تتحرك لفتح تحقيقات جدية، بل وجّهت لها أصابع الاتهام بالتستّر على هذه الانتهاكات، حماية لمصالح بعض الشركات النافذة، تارة بالتسويف، وطورا بالتهرب من المسؤولية.
الطحالب تكشف المستور… وبيان رسمي يضلل
رغم محاولات الإخفاء والتمويه، لم تمرّ الكارثة بهدوء فالطحالب المجهرية من نوع Blooms، التي عادة ما تشير إلى وجود تلوث في المياه، ظهرت بكثافة غير مسبوقة على امتداد خليج المنستير، لتكشف حجم الخلل البيئي الذي ظل يتراكم على مدى سنوات، إذ أنّ غزوا بيولوجيا بهذه الضخامة لم يكن سوى نتيجة طبيعية لتلوث مزمن، تغذيه قنوات صرف سرية مدّتها شركات على مقربة من البحر، تحت أنظار الجميع ولكن اللون الأحمر الكثيف الذي غطّى المياه لم يكن سوى البداية فسرعان ما بدأ البحر يلفظ ما في داخله، أسماك نافقة، طيور مهاجرة ميتة من بينها “الغرنوق” و”الفلامينغو الوردي” في واقع يشي بتسمّم بيئي واضح، وانخفاض حادّ في نسبة الأوكسجين في المياه. كل هذا، وثّقه الأهالي والبحارة بالصوت والصورة، في محاولة يائسة لجعل السلطات ترى ما يحدث على أرض الواقع. ورغم هذا الكمّ من الأدلة، جاء ردّ وزارة الفلاحة يوم 22 جوان محبطا ومثيرا للجدل. في بيان رسمي، حاولت الوزارة دفع المسؤولية باتجاه الطبيعة معتبرة أنّ ما حدث يعود إلى مجموعة من العوامل البيئية مثل أمطار ربيعية غزيرة، تفكك الطحالب الخضراء، درجات حرارة مرتفعة، ضعف التيارات… دون أن تحمّل أيّ جهة صناعية مسؤولية هذا الانهيار البيئي. الأخطر من ذلك، ذهب بعض المسؤولين الجهويين إلى تحميل المواطنين أنفسهم مسؤولية التلوث، متجاهلين الوقائع الميدانية والمصادر المثبتة للتلوث.
دولة تحمي رأس المال وتدير ظهرها للبحارة
أمام كل ما كشف من تفاصيل حول التلوث المتفاقم في خليج المنستير، لم تعد الصورة ضبابية المنظومات الحاكمة، الواحدة تلو الأخرى، فشلت بل وتواطأت في حماية البحر والناس الذين يعيشون منه. المنظومة الحالية، كمن سبقها، لم تكتف بالتسويف، بل استمرت في التستّر والتبرير، خاضعة لسطوة رأس المال ولو على حساب الإنسان والطبيعة. وفي ظلّ كل هذا، يقف البحارة وهم من أكثر الفئات ارتباطا بهذا البحر وحيدين في وجه الانهيار فلا تستمع إليهم الدولة، ولا تحميهم القوانين، ولا تلتفت إليهم الجهات الرسمية في حين موارد رزقهم تنضب، وبيئتهم تموت، ويقابلهم الصدّ والقمع كلما حاولوا الدفاع عن حقهم في بحر نظيف يطعم أبناءهم. و لا يخفى أنّ حلف السلطة لا يضمّ فقط الشركات الكبرى، بل يمتدّ إلى بعض من يسمّون أنفسهم ممثلين محليين، ففي 25 جوان، أصدر مجلس محلي بمدينة قصر هلال بيانا غريبا يستنكر فيه تحميل شركات النسيج مسؤولية التلوث، ويدعو إلى حمايتها في موقف يكشف اصطفافا واضحا مع رأس المال ضدّ البيئة والناس. ولم يقف الأمر عند البيانات، بل شهد الاجتماع الشعبي الأخير بميناء الصيد البحري بصيادة، محاولة مباشرة للتشويش والتضليل من قبل أنصار المنظومة الحاكمة، في محاولة لإفراغ النقاش من مضمونه وحماية المتسببين الحقيقيين في الأزمة وحتى حين تبرمج مشاريع تنموية، لا تجد طريقها إلى التنفيذ فمنذ سنة 2008، لا يزال مشروع توسعة ميناء الصيد البحري بقصيبة المديوني حبرا على ورق، بينما ترصد الميزانيات بسخاء لتوسعة موانئ طبلبة، ورادس، وحلق الوادي.
هو تلوث بيئي وتلوث إداري في خليج المنستير… بيئة تتدهور، مشاريع تعطّل، والبحر كما البحارة يدفعان ثمن التواطؤ والتقاعس معا.