بقلم منور السعيدي
يقول شاعر تونس العظيم أبو القاسم الشابي:
ولتشهد الدنيا التي غنّيتُها *** حلم الشباب وروعة الإعجــاب
إن السلام حقيقة، مكذوبة *** والعدل فلسفة اللهيب الخابي
لا عدل إلا إن تعادلت القوى *** وتصادم الإرهاب بالإرهــــاب
كان الصراع بين الأنظمة الدكتاتورية التي تعاقبت على البلاد والقوى الديمقراطية صراعا متواصلا غير منقطع حول عموم قضايا الحرية والديمقراطية ومنها استقلال القضاء وتطبيق القانون واحترام حقوق الإنسان. غير أن نظام الاستعمار الجديد أسس منذ 1956 منظومة حكمه على التعسف والقهر ودوس الحريات وحقوق المواطنين مستعملا في ذلك أدوات الحكم والسيطرة ومنها مؤسسة القضاء. لقد طوّع بورقيبة ومن بعده بن علي وحكومات ما بعد الثورة مؤسسة القضاء، كلّ لتعزيز سلطته وقمع معارضيه والتنكيل بهم. وعلى نفس وبأشكال أكثر فظاعة.
عيّنات من الماضي
ولو عدنا قليلا إلى الوراء لعثرنا على سلسلة طويلة من الانتهاكات التي طالت كل فعاليات القضاء في تونس. فقد طالت الانتهاكات جمعية القضاة الشبان التي تأسست في 12/4/1971 ووقع حلها بقرار تعسفي من قبل وزير الداخلية بتاريخ 15 أفريل 1985 وشملت الانتهاكات مسؤوليها وجل القضاة الذين ساندوا وتبنوا مواقفها على خلفية إضراب قطاعي دعت له الجمعية أيام 10 و11 أفريل 1985 وكان المطلب الأساسي تحسين وضع القضاء واستقلاليته عن السلطة التنفيذية.
بنفس العقلية السلطوية تعرضت جمعية القضاة التونسيين إلى الهرسلة والقمع وكل أشكال الانتهاكات التي طالت مسؤوليها سواء أعضاء المكتب التنفيذي أو أعضاء الهيئة الإدارية ولم يسلم حتى الأعضاء القاعديون المتمسكون باستقلالية جمعيتهم ورفضهم لسياسة السلطة التنفيذية الداعمة والراعية للانقلاب على الهياكل الشرعية المنتخبة والممثلة الفعلية للقضاة المنادية والمطالبة باستقلال المرفق القضاء كركيزة أساسية من ركائز دولة القانون والعدل وكان ذلك سنة 2005.
لقد شهدت البلاد في تلك الفترة جملة من الانقلابات شملت المنظمات التي تتمتع بهامش من الاستقلالية عن السلطة التنفيذية على غرار جمعية الصحفيين والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، لكن الانقلاب على جمعية القضاة كان أكثرهم خطورة حيث خرّب هياكلها ووصل بهم الأمر إلى عدم الاعتراف بالهيكل المنتخب ورفض وزير العدل التعامل مع المكتب الجديد المنتخب في المؤتمر العاشر بتاريخ 12 ديسمبر 2004 نظرا لاستقلاليته وعدم موالاته والرافض للتعليمات رافعا وحاملا لمشروع استقلال القضاء.
تّوج الانقلاب يوم 4 ديسمبر 2005 بعقد مؤتمر استثنائي بعد الاستيلاء على مقرّ الجمعية بعد خلع أبوابها وتبديل أقفالها في سلوك غاية في الانحطاط لم يعرفها مرفق العدالة من قبل.
كانت المهمة الأساسية للمكتب الموالي تحوير القانون الأساسي والتقليص من عدد أعضاء المكتب التنفيذي. ونقل كل أعضاء المكتب الشرعي بشكل تعسفي إلى محاكم داخل البلاد بعيدة عن مركز القرار لتفكيك الهياكل الشرعية عن طريق التشريد الممنهج.
دام هذا العبث إلى حدود ثورة الكرامة والحرية. كان حلم القوي الديمقراطية والتقدمية إرساء قضاء مستقل علاقته بالسلطتين التنفيذية والتشريعية مبنية على التكامل غير قابلة للهيمنة والولاء. إلا أن من تربع على كرسي الحكم بعد الثورة سلك مسلك أسلافه وأخضع جزء من القضاة لتمرير مشروعه ليتمكن من مفاصل الدولة. حيث أقدم أول وزير للعدل بعد انتخابات 2011 على جعل القضاء أداة من أدوات هيمنتهم وتمرير مشروعهم المعادي للحرية والعدالة والديمقراطية من خلال جعل القضاء تابع وموالي لحزبهم. فأصبحت عبارة قضاء البحيري العنوان الأبرز خاصة بعد عزل ما يقارب 80 قاضيا من دون حتى التحقيق والتثبت بشكل انتقامي أغلبهم ربحوا مراحل التقاضي في المحاكم.
لم يتوقف عند ذلك فقام بالعديد من التعينات في المراكز الحساسة فانقسم القضاة مرة أخرى بين الموالي للسلطة الحاكمة والمستقل عنها وكان جزاء الطرف الثاني الإبعاد والنقل التعسفية لتسهيل هيمنة حركة النهضة على الهيئة الوقتية لمراقبة القضاء المؤسسة الانتقالية ثم السيطرة على المجلس الأعلى للقضاء والتحكم في كل مفاصله من الابتدائي إلى التعقيب خاصة أن مجموعة لا يستهان بها من القضاة الموالين سابقا لبن علي انتقلوا بقدرة قادر إلى موالاة النهضة نتيجة لذلك أصبح هذا الجسم يعيش حالة من الشلل والمرض وأصبح الحلقة الأضعف من بين السلط الثلاث.
الشعبوية وقضاء “الوظيفة”
ولم يشذ الوضع بعد انقلاب 25 جويلية 2021 عن القاعدة إذ شهدت السلطة القضائية تدهورا غير مسبوق نتيجة جملة من التدابير الاستثنائية التي اتخذها صانع الانقلاب والتي بلغت ذروتها في تكريس هيمنة السلطة التنفيذية على القضاء وتحويله إلى مجرد وظيفة بموجب دستور 2022 وتكرس ذلك بشكل ملموس في استصدار جملة من المراسيم وحل المجلس الأعلى للقضاء في فيفري 2022 وتعويضه بمجلس مؤقت يفتقر إلى أبسط شروط الاستقلالية وتعيين أعضائه على أساس الولاء لقيس سعيد وإعفاء جماعي لـ 57 قاضيا وقاضية دون موجب قانوني في جوان 2022 دون احترام حق الدفاع أو الضمانة التأديبية المنصوص عليها قانونا متجاهلا الأحكام الصادرة لصالحهم عن المحكمة الإدارية القاضية بإلغاء الإعفاءات في انتهاك صارخ لمبدأ فصل السلطات.
ويمكن إجمالا رصد أبرز مظاهر تدجين السلطة القضائية في جملة من المظاهر التالية:
- تحويل القضاء من سلطة إلى وظيفة بموجب دستور 2022
بموجب دستور 25 جويلية 2022، تم تحويل القضاء من “سلطة” إلى “وظيفة”، كما ورد في فصله الخامس: “القضاء وظيفة مستقلة يمارسها القضاة الذين لا سلطان عليهم في قضائهم إلا القانون”.
وهذا التحوّل ألغى الصفة الدستورية للسلطة القضائية كسلطة مستقلة قائمة بذاتها، ما يُعد ضربًا مباشرًا لمبدأ الفصل بين السلط، ويجعل القضاة فعليًا خاضعين للسلطة التنفيذية، خاصة في ظل غياب التوازن المؤسساتي والرقابة البرلمانية.
- ملاحقات قضائية واستعمال القضاء العسكري
استُخدم القضاء العسكري لملاحقة معارضين ونشطاء ومحامين مدنيين، بما يتعارض مع مبادئ العدالة المدنية والمحاكمة العادلة. وتمّ استعمال القضاء كأداة لتصفية الخصوم السياسيين وتكميم الأفواه.
- هرسلة القضاة والنقل التعسفية
شهد عدد كبير من القضاة عمليات نقل تعسفية خارج الضوابط القانونية وتعرض البعض منهم الى هرسلة إدارية ومهنية وفتحت في حق البعض منهم تتبعات تأديبيه أو جزائية مفبركة بسبب مواقفهم المنتقدة للسلطة أو بسبب استقلاليتهم في العمل القضائي.
- التضييق على جمعية القضاة
تعرّضت جمعية القضاة التونسيين إلى مضايقات ممنهجة شملت التضييق على نشاطها ومقرها والتشهير بأعضائها وعرقلة تنظيم اجتماعاتها وذلك بسبب مواقفها الداعية إلى احترام استقلال القضاء ورفضها للإعفاءات التعسفية.
وقد أدانت منظمات وطنية ودولية هذا المسار، واعتبرته انحرافًا خطيرًا عن المعايير الديمقراطية، داعية إلى احترام الفصل بين السلط وإلغاء الإعفاءات وتنفيذ أحكام القضاء الإداري وإعادة الاعتبار لمكانة القضاء كسلطة مستقلة.
خلاصة الأمر
الوضع القضائي في تونس منذ 25 جويلية 2021 يتّسم بـ:
إلغاء استقلالية القضاء دستوريًا وعمليًا.
خضوع القضاة للسلطة التنفيذية.
استعمال القضاء كأداة سياسية.
ضرب مؤسسات وهياكل القضاة المستقلة.
هذا المسار يُهدد أُسس دولة القانون ويُقوّض الحقوق والحريات، ويستوجب مقاومة حقيقية من الفاعلين في المجتمع المدني ومن داخل الجسم القضائي ذاته.