بقلم علي البعزاوي
خلال إشرافه على اجتماع مجلس الوزراء بتاريخ 20 جوان 2025 وقبل المرور إلى جدول الأعمال، أكّد رئيس الدولة في كلمته الافتتاحية على أنّ “بعض المرافق العمومية لا تعمل وفق السياسة التي تضبطها الدولة التونسية” وأنّ “البعض لا يقوم بدوره على الوجه الأكمل” ممّا ساهم في “تعطيل سير تنفيذ عدد من المشاريع بصفة قصدية” والهدف هو “تأجيج الأوضاع بأيّ طريقة كانت”. وأكّد أنّ “هؤلاء لم يعد لهم مكان في الدولة”. وأشار إلى أنّ “قطع الماء في العديد من مناطق الجمهورية ليلة عيد الأضحى وقطع الكهرباء ليس بالأمر الطبيعي ولا بدّ من تحميل المسؤولية كاملة لمن يحاولون تأجيج الأوضاع”. وأضاف أيضا “أنّ الذين ارتموا في أحضان الخارج ويتمسّحون على أعتاب السفارات ويتبجحون بذلك نسوا أنّ تونس دولة مستقلة والسيادة فيها للشعب وخياراتنا هي خيارات الشعب ونحن مؤتمنون على تنفيذها” وأن “تونس في الطريق الصحيح التي رسمها الشعب” وأننا “حققنا الكثير وسنواصل في هذا الاتجاه”.
في نفس الكلمة أكد رئيس الدولة على أنّ “الدولة الاجتماعية والثورة التشريعية يجب أن تكون متبوعة ومشفوعة بثورة إدارية وبثورة ثقافية حتى نعبر – والشعب التونسي قرر العبور – وسنعبر بالقانون ونحارب الفساد والمفسدين ونفتح الآفاق واسعة لمن بقوا عشرات السنين ضحايا لسياسات الإقصاء والتهميش”، مؤكدا أنّ “هناك تونسيون وتونسيات طالت بطالتهم ربما تنقصهم الخبرة لكنهم وطنيون أحرار وقادرون على أن يحملوا المشعل مكانهم أفضل بكثير ممّن يتحدثون كل يوم بأرقام ومعادلات مغلوطة”.
خطاب نموذجي
إنّ عناصر هذا الخطاب ترد في كل مداخلات الرئيس ولا تغيب عنها وتعتبر أساسية ولها دلالات وتحمل رسائل لعموم المتابعين.
العنصر الأول والهام والذي يؤشر على شكل السلطة المتبعة هو أنّ الرئيس يكتفي بإلقاء كلمته ولا يناقش ولا يجادل ولا يستمع إلى مواقف وزرائه. وحتى في صورة تدخل هؤلاء تفسيرا أو توضيحا فإن الإعلام لا يغطي هذه المداخلات ولا يبلغها لجمهور المتابعين.إنّ الرجل يحكم بمفرده ويفكر ويخطط بمفرده ويعطي التعليمات وما على الوظائف الأخرى إلّا التطبيق، وقد أنذر من أعذر. أي أنّ كل من لا ينفذ الإملاءات عرضة للمحاسبة التي قد تصل إلى العزل وهو ما حصل لعديد الوزراء ورؤساء الحكومات.
العنصر الثاني والذي يعتبر أساسيا أيضا ولا تخلو منه خطابات الرئيس يتمثل في وجود متآمرين على العهد الجديد خاصة من داخل مؤسسات الدولة وتربطهم علاقات بالخارج وبسفارات الدول الأجنبية وهدفهم تعطيل “المسيرة التنموية” والعرقلة ومحاولة تأزيم الأوضاع وتأليب الرأي العام الداخلي ضدّ الحكم القائم.
إنّ مجرد معارضة السلطة والحديث عن أزمة اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية هي شكل من أشكال التآمر. وهذا مرتبط بالثقافة الشعبوية اليمينية السائدة التي ترفض التعدّد واختلاف وجهات النظر ولا تقبل بالمعارضة بل تشيطنها وتشهر بها وتقوم أحيانا بمعاقبتها ويقوم الأتباع والأنصار بسحل المعارضين إلكترونيا دون أن يتعرضوا للمتابعة والمحاسبة القانونية ولا ينطبق عليهم شعار الرئيس الذي يؤكد أنّ “لا أحد فوق المحاسبة” و”القانون فوق الجميع”.
العنصر الثالث يتعلق بثقة الرئيس في مشروعه وسياساته ويعتبرها استجابة آلية لما يريده الشعب. مشروع الرئيس وسياساته وكل ما يبدعه من حلول نابع من إرادة الشعب ويعبّر عن طموحاته ويستجيب لانتظاراته. وتونس الشعبوية تسير في الطريق الصحيح الذي “رسمه الشعب”. والدولة الاجتماعية والثورة التشريعية قادمتان والمنوال التنموي لا بدّ أن يُرسم وفق ما يخدم “مصالح الشعب”.
أمّا العنصر الرابع فيتعلق بـ”الآفاق” ونعني الوعود الموجّهة للشعب التونسي وللفئات المتضررة من البطالة وغلاء المعيشة والتي تعاني من الخدمات التربوية والصحية المتدهورة. فالتشغيل قادم والوضع التربوي والصحي يجري إصلاحه بهدف تجويد الخدمات والارتقاء بها إلى مستوى الخدمات الراقية. والقوانين الظالمة بصدد التعديل منها قانون إلغاء المناولة الذي يعتبره الرئيس “إنجازا” فاق “توقعات المناوئين”.
إنّ هذه الوعود بقطع النظر عن إمكانية تحقيقها وتوفر شروط إنجازها تعتبر هامة في نظر الشعبوية لأنها ترسل رسائل طمأنة إلى عموم المتابعين وتشدّ اهتمام أصحاب المصالح وتكسِب السلطة القائمة هامشا من الوقت إضافة إلى أنها تسدّ الباب، ولو إلى حين، أمام الاحتجاجات رغم أنّ هذه الأخيرة لم تتوقف. لكن اللافت في هذه الاحتجاجات ولو جزئيا هو أنّ أصحابها يتوجهون برسائلهم للرئيس ويطلبون تدخله لإنصافهم وكأن المسألة تتحمل مسؤوليتها أطراف أخرى ودور الرئيس هو إرجاع الحقوق لأصحابها.
هذه هي البنية التي يقوم عليها خطاب/خطابات الرئيس عموما، لذا اعتبرنا هذه الكلمة/الخطاب التي ألقاها خلال ترؤسه لمجلس الوزراء نموذجية من زاوية الشكل والمضمون وهي تعكس الحالة الشعبوية المتأزمة في هذه المرحلة من مسار الالتفاف على الثورة.
الأقوال لا علاقة لها بالأفعال
إنّ أغلب المتابعين للوضع المحلي من جهة والوقائع على الأرض من جهة أخرى تؤكد أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بصدد الاستفحال وأنّ الحكومات المختلفة التي شهدت عدّة تحويرات غير قادرة على معالجتها. فلا نسب النموّ التي تراوحت بين الصفر فاصل والواحد فاصل مطمئنة وتشهد تحسّنا وتطوّرا ملموسا. ولا المشاريع الاستثمارية القادرة على خلق الثروة وتشغيل العاطلين بصدد الانتصاب في الجهات والقطاعات سواء بسبب خوف وتردد المستثمرين الخواص أو بسبب الاعتمادات الضعيفة المرصودة في الميزانية. الاقتصاد المحلي منهك ويشهد تعطلا غير مسبوق ونسبة البطالة في ارتفاع فاقت اليوم الـ 16 % والمقدرة الشرائية في تدهور مستمرّ والدولة لا تتحرك بالسرعة المطلوبة ولا تبادر وتبدو غير قادرة على إيجاد الحلول لقضايا شحّ التمويل وارتفاع المديونية وتدهور الأوضاع الاجتماعية. والبلاد تعيش على وقع نقص في المواد الحياتية وتردّي الخدمات الأساسية من تعليم وصحة ونقل وبيئة وثقافة. هذه الصورة الحقيقية لما يعيشه الشعب التونسي اليوم بقطع النظر عن التمنيات والوعود.
أن الحديث عن الدولة الاجتماعية والثورة الإدارية والتشريعية مجرد هراء لا علاقة له بالواقع. فالوقائع مثلما يقول المثل الشعبي عنيدة. وما نلمسه في الواقع هو محاكمات الرأي التي طالت السياسيين والنقابيين والمحامين والصحافيين والنشطاء والتي عادت بالمجتمع التونسي إلى حقبة بن علي. وما نفهمه هو أنها (المحاكمات) جواب عن عجز النظام القائم على معالجة القضايا المجتمعية المختلفة.
كما أنّ الحديث عن الاستقلال والسيادة الوطنية هي مجرد شعارات لا علاقة لها بالواقع. فتونس عضو غير رسمي في حلف الناتو وهو حلف استعماري معادي للشعوب ولحقّها في تقرير مصيرها. والبنتاغون ما زال يغدق علينا المساعدات ويؤطر التدريبات المشتركة للجيش التونسي. واتفاقية الشراكة التي أمضاها نظام بن علي مع الاتحاد الأوروبي ما زالت قائمة ولم تقع مراجعتها رغم ما تسبّبت فيه من ضرب للمؤسسات الاقتصادية التونسية وتسريح لما لا يقلّ عن 400 ألف عامل وفق إحصائية قدّمها الاتحاد العام التونسي للشغل كنتيجة لهذه الاتفاقية الظالمة. هذا دون أن ننسى اللجنة العسكرية التونسية الأمريكية المشتركة واتفاقية الهجرة مع إيطاليا والاتحاد الأوروبي والتي تمسّ من سيادتنا الوطنية.
من أجل دولة قانون ومؤسسات ديمقراطية
إنّ الحكم الفردي المطلق الذي يحتكر إدارة شؤون الدولة ويغيب الشعب عن المشاركة السياسية الواسعة ويضيق الخناق على الأحزاب والمنظمات والجمعيات وينظم الانتخابات الصورية معلومة النتائج مسبقا ويعتبر المؤسسات التمثيلية مجرد وظائف لا سلطة تقريرية لها ويضيّق الخناق على القضاء بهدف تطويعه ويضع دستورا على القياس يضمن عدم المحاسبة للرئيس وغيرها لا يمكن أن تصنع ربيع تونس ولا يمكن أن تفتح أبواب النهوض الاقتصادي والتقدّم والازدهار.
تونس بحاجة إلى ديمقراطية تمكّن أوسع الشعب من أن يكون سلطة القرار الأساسية ومالكا حقيقيا لثروات بلاده. وهي بحاجة إلى استقلال حقيقي وفعلي يضع حدا نهائيا للهيمنة الاستعمارية الجديدة على بلادنا. عندها فقط يمكن للسلطة الجديدة أن تراجع الاتفاقيات والمعاهدات ومختلف الالتزامات وتلغي كل ما يمسّ من سيادتنا الوطنية واستقلالنا وتفتح تدقيقا في المديونية يسمح لها برفض خلاص الديون الكريهة وتوجه تلك الأموال للتنمية الجهوية والمحلية.
تونس بحاجة أيضا إلى عدالة اجتماعية حقيقية، عدالة بين الفئات الاجتماعية وبين الجهات أيضا. عدالة تقلص الفوارق الطبقية والجهوية وتؤسس للمساواة بين التونسيين والتونسيات ذكورا وإناثا شمالا وجنوبا شرقا وغربا.
في مثل هذه المنظومة الوطنية والديمقراطية والشعبية الجديدة تطلق الحريات الفردية والعامة وتغيب محاكمات الرأي وتلغى القوانين والمراسيم الجائرة ويحرَّر القضاء من سطوة السلطة التنفيذية ويزدهر الإبداع الفكري والثقافي وينخرط المواطن في الشأن العام. الكل يساهم من موقعه في بناء تونس الجديدة الوطنية والديمقراطية والشعبية.