الرئيسية / صوت الوطن / لقاء بثّ الوهم
لقاء بثّ الوهم

لقاء بثّ الوهم

علي البعزاوي

لعل تعدد التدخلات والضغوطات وخاصة الخارجية منها لتسوية الخلافات داخل منظومة الحكم إلى جانب استفحال الأزمة الوبائية والاقتصادية والاجتماعية التي تلامس الخطوط الحمر هي التي فرضت على رئيس الجمهورية التراجع عن موقفه الرافض للحوار مع حركة النهضة. علما وأنّ الرئيس غنم سياسيا من هذا الرفض وبدا لفئات من الشعب التونسي وكأنه محارب بارع للنهضة وبالتالي وجب التعويل عليه والاصطفاف خلفه رغم أنّ الخلاف كان حول الصلاحيات والسيطرة على السلطة ولم يتعلق لا من قريب ولا من بعيد بالبرنامج والخيارات. فكلا الطرفان منخرط في تكريس التبعية للقوى الاستعمارية ومؤسساتها النهابة وفي سياسة النهب والتهميش كنتيجة للخيارات المتبعة.

اللقاء لا يعني بالضرورة المصالحة
لم ترشح عن اللقاء بين قيس سعيد والغنوشي أخبار واضحة باستثناء التدوينات الصادرة عن بعض القيادات النهضاوية التي هللت للقاء واعتبرته إيجابيا. وهذا يؤكد أنه لا اتفاق إلى حد الآن وربما تعقد لقاءات أخرى من أجل طرح المسائل بأكثر وضوح ومحاولة حلحلتها.

الطرفان سيجدان صعوبات جدية في التوافق حول التمشي لمعالجة الأزمة لأنّ الخلافات عميقة. فالنهضة متمسكة بالنظام البرلماني المعدل وتعتبره أساس استمرارها في الحكم لأنها غير قادرة على تمرير مرشح لها في الرئاسية بالنظر إلى محدودية تأثيرها وافتقادها لعناصر قيادية قادرة على حصد النسبة الضرورية من الأصوات التي تؤهلها للفوز بهذا المنصب. وبالتالي من الصعب إن لم نقل من المستحيل أن تقبل بالتخلي عن النظام الحالي لصالح النظام الرئاسي.

أما قيس سعيد فهو يبحث عن التنفذ وتوسيع صلاحياته. ومن هذه الزاوية يصارع من أجل فرض النظام الرئاسي ومن أجل تكليف رئيس حكومة يعمل تحت امرته وهو ما حاول تكريسه مع الفخفاخ وبعده المشيشي. لكن الرياح جرت بما لم تشته سفن الرئيس الذي يمكن أن يكتفي في هذه المرحلة وفي ظل موازين القوى الحالية وكخطوة أولى بحل يضمن له مهمة تكليف رئيس حكومة جديد مع المراهنة على بعض الحقائب الوزارية ليكون له ضلع مهم في الحكومة الجديدة المنتظرة. لكن من الصعب جدا أن تقبل النهضة بهذا الخيار لأنه يضيّق عليها الخناق ويعيد المبادرة للرئيس على حساب أغلبيتها البرلمانية (الكتلة الأولى).

مسألة أخرى يصعب التفاهم بشأنها وتتمثل في المحكمة الدستورية التي تتمسك حركة النهضة بإرسائها بعد أن عملت في السابق على عرقلتها في حين يعتبرها الرئيس قيس سعيد خطرا على صلاحياته ونفوذه خاصة وهو المفسّر والمترجم الوحيد اليوم لنص الدستور.

الحوار بين الطرفين سيكون معقدا وصعبا والأرجح أنه لن يفضي إلى توافق. وحتى إن حصلت المعجزة واهتدى الطرفان إلى حل وسط تحت الضغط – ضغط الأزمة الوبائية والاقتصادية والاجتماعية خاصة-فإنّ الصراع سيتواصل بينهما وسيحتد ويتراجع وفق الظروف وبحسب تطور الأزمة التي بقدر ما تشتد فإنها ستلقي بظلالها على الصراعات صلب المنظومة وستغذيها بهذا القدر أو ذاك.

المصالحة لا تكفي لمعالجة الأزمة
إنّ منطلقات ممثلي أطراف المنظومة خاطئة بل تعسفية ومغشوشة عندما يعتبر هؤلاء أنّ النظام السياسي هو أصل الداء وسبب الأزمة لأنه، من وجهة نظرهم، لم يفرز أغلبية قادرة على الحكم ويمكن محاسبتها. لذا هم يطالبون بتغيير النظام السياسي وإجراء تعديلات على النظام الانتخابي بالترفيع خاصة في العتبة الانتخابية لسد الباب أمام التعدد داخل البرلمان وفرز الانتخابات لأغلبية وأقلية، الأولى تحكم وتحاسب على أدائها وعلى النتائج الحاصلة خلال مدتها النيابية والثانية تعارض وتقدم مشاريع الحلول والمقاربات المختلفة وتهيّء نفسها للحكم إذا فشلت الأغلبية. هم باختصار يريدون اختزال الديمقراطية في ثنائية مبسطة حكم/معارضة على شاكلة الأنظمة البورجوازية التقليدية (أمريكا-فرنسا-المانيا…) حتى يستقر الأمر لمنظومة العمالة والنهب والفساد ويقع الالتفاف نهائيا على المسار الثوري.

إنّ التشخيص العلمي الملموس يذهب إلى أنّ السبب الجوهري والعميق للأزمة هو الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية. فنمط الإنتاج الرأسمالي التابع المهيمن في بلادنا وما يترتب عنه من ضعف في الإنتاج واختلال في توزيع الثروة وتدهور للخدمات الأساسية هو الذي ينتج الفقر والتهميش على نطاق واسع مقابل الثراء الفاحش للأقلية الكمبرادورية التي تسيطر على الجزء الأكبر من مقدرات البلاد. وهو بالتالي السبب الحقيقي للأزمة التي هي أزمة خيارات طبقية. إنها أزمة دولة الكمبرادور الخادمة لمصالح البورجوازية الكبيرة المحلية وكبرى الشركات والمؤسسات المالية العالمية النهابة على حساب الشعب وعلى حساب السيادة الوطنية وعلى حساب العدالة الاجتماعية. أزمة لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالنظام السياسي.

إنّ المصالحة بين المتصارعين لن تحل إذا الأزمة الاقتصادية والاجتماعية ولن تعالج الفقر والتهميش ولن تنهي الفساد ولن تحرر تونس من التبعية ولن تفتح آفاقا أمام النمو المستقل والازدهار الاقتصادي والرخاء الاجتماعي لأنّ هذه القضايا مرتبطة أساسا بالخيارات والسياسات لا بالنظام السياسي.
إنّ استقرار الحكم والانسجام الحاصل صلب السلطة التنفيذية والتشريعية زمن الترويكا وخلال الفترة الأولى من حكم النداء والنهضة بعد انتخابات 2014 لم يفرز التنمية ولا الرخاء الاقتصادي والاجتماعي ولم يضع حدا للفقر والتهميش وتفاقم المديونية الخارجية. بل كانت الأمور تتجه نحو مزيد الاستفحال.

المصالحة قادرة في أحسن الأحوال على توفير بعض أسباب الاستقرار ومعالجة بعض الإشكاليات الجزئية في إطار الحفاظ على منظومة الحكم التي لن يتغير طابعها الجوهري. المصالحة ستعطي مزيد الإمكانيات للسلطة التنفيذية برأسيها بتخطيط وتوجيه من الأغلبية البرلمانية لتهيمن على المشهد وتفرض خياراتها اللاوطنية واللاشعبية التي عجزت إلى حد الآن عن تمريرها بسهولة.

في المحصلة الشعب التونسي ليس بحاجة إلى مصالحة بين أطراف المنظومة ولا إلى حوار وطني يمهد لهذه المصالحة. وهو ليس في حاجة إلى نظام رئاسي بديل عن البرلماني ولا يتمثل الحل في الإبقاء على النظام الحالي. فقد جرّب النظامين بين 2012 و2016 (في ظل حكم الترويكا وبعده حكم النداء النهضة) ولم تتغير أوضاعه البائسة نحو الافضل. بل في حاجة إلى خيارات جديدة وطنية وديمقراطية وشعبية مختلفة جوهريا عن الخيارات المتبعة حاليا.

الصراع بين أطراف المنظومة وبقطع النظر عن مآلاته سواء بالمصالحة أو بمزيد الاحتداد لا علاقة له بمصالح الشعب والبلاد. إنها معركة خارج دائرة مصالحه. وعليه القطع مع الوهم بإمكانية الحل من داخل منظومة الحكم أو عبر المصالحة بين أطرافها المتصارعة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×