الرئيسية / أقلام / في ضرورة الثورة الفكريـة ( الجزء الثاني ) بقلم: حمه الهمامي
في ضرورة الثورة الفكريـة ( الجزء الثاني ) بقلم: حمه الهمامي

في ضرورة الثورة الفكريـة ( الجزء الثاني ) بقلم: حمه الهمامي

نواصل نشر الجزء الثاني من مقدمة الطبعة الثانية لكتاب حمّه الهمامي «المفرد والجمع في الحرية والمساواة».

وفي هذا السياق لا بد من الإشارة إلى الصورة المشوهة لـمحمد التي يروّجها سواء أشباه الحداثيين المُنْبَتّين أو أتباع الحركات الرجعية الظلامية. فأما الفريق الأول فهو يقدم محمدا، النبي بالمفهوم التاريخي الدقيق والمفكر والسياسي والديبلوماسي والعسكري، كما يقدمه بعض المستشرقين الاستعماريين العنصريين، على أنه شخص عدوانيّ عنيف يحب النساء، مستشهدين بهذه الحادثة أو تلك التي تمّت، خاصة، في الفترة المدنية، نافين أنه من أعظم الشخصيات التاريخية إذ كانت دعوته وراء التحولات العظمى التي شهدتها المنطقة والعالم في القرون الوسطى، عاجزين عن فهم هذه التحولات في بعدها التاريخي العام، مسقطين أحكام اليوم، في بعض القضايا، على الماضي البعيد حين لم يكن مثلا للمساواة بين الجنسين ما تستند إليه في ذلك الواقع التاريخي الذي كان ينظر فيه إلى المرأة نظرة غير نظرة اليوم ليس عند العرب فحسب بل عند كافة المجتمعات البشرية (مع العلم أن النساء مازلن إلى حد اليوم ضحايا تمييز رهيب في المجتمعات الرأسمالية). وحتى بالنسبة إلى مسألة العنف التي صاحبت انتشار الإسلام فلا يمكن فهمها دون إدراجها في سياقها التاريخي. إن التاريخ هو الذي يفسّر لماذا اتخذت الصراعات في هذه الحقبة أو تلك من الحقب التاريخية أشكالا عنيفة، كما أنه هو الذي يدلنا على طبيعة الجهة التي تستخدم العنف وأهدافها إن كانت رجعية للحفاظ على وضع قائم أو تقدمية تهدف إلى فرض الجديد، فالعنف، أحببنا أم كرهنا، هو «الأداة التي، بواسطتها، تشق الحركة الاجتماعية الطريق وتحطّم الأشكال السياسية الميتة المتحجرة». على حدّ تعبير أنجلس وهو يحلّل «دور العنف في التاريخ».

إن العنف الذي اتخذته الدعوة المحمدية في بعض ردهاتها أو الذي صاحب انتشار الإسلام بعد وفاة محمد كان، موضوعيا، «مولّدا للتاريخ»، فلولاه لما تحطمت الأشكال السياسية والاجتماعية القديمة، الميتة والمتحجرة، ولولاه لما دخل العرب التاريخ كأمّة ولما كانت الحضارة العربية الإسلامية للعصر الوسيط. وإن لم نقتنع بهذا فكيف يمكن إذن الاقتناع بما صاحب عملية التراكم الرأسمالي البدائي من عنف وفظاعات، وهي التي تحقق بفضلها، أي عملية التراكم الرأسمالي، تطور المجتمع الصناعي الحديث. إن السير إلى الأمام في العملية التاريخية لا يتم بصورة وردية بل عبر صراعات يغلب عليها العنف بشكل عام بين القديم الذي حان دخوله متحف التاريخ ولكنه متشبث بالبقاء وبين الجديد الذي يسعى إلى احتلال صدارة التاريخ. وهذا الكلام لا نسوقه للتبرير وإنما للتفسير.

إن التاريخ يتعلق بأحداث الماضي وبالتالي لا يمكن التعامل مع هذه الأحداث بمنطق «يا ليت الأمور صارت على هذا النحو« أو «كان عليها أن تسير على هذا النحو» كما لا يمكن التعامل معها بمنطق الشعارات الأخلاقية المجردة والمطلقة، لأن تلك الأحداث تمت كما تمت وفي ظروف ملموسة محددة وبطريقة معينة ومن ثمة علينا أن نتعامل معها بمنطق: «لماذا تمت على هذا النحو وليس على نحو آخر» و«ماهي الأسباب التي تفسر اتخاذها هذا الشكل أو ذاك من أشكال الصراع» و«ما هي النتائج التي أدّت إليها وما موقع هذه النتائج في مسار التاريخ العام؟» وهو ما يعني دراسة مختلف العناصر التي تظافرت لتجري الأمور على النحو الذي جرت عليه وليس على نحو آخر وتقويم النتائج الحاصلة.

أما الفريق الثاني أي أتباع الظلامية والرجعية فإنهم يسيئون إلى محمد تحت غطاء الدفاع عنه، فهم يُجرّدونه من عبقريته ومن ذكائه الذي جعله يقود مرحلة جديدة وحاسمة من مراحل تاريخ العرب ويقدمونه على أنه مجرد أداة تنفيذ لما يوحى به إليه دون تفكير ودون إعمال رأي. لم تكن الأحداث في عهد محمد تجري واقعيا في السماء بل كانت تجري في الأرض، وكانت تتحكم فيها موازين قوى بين حركة الإسلام الجديدة الصاعدة وبين القوى المجتمعية القديمة، ولم تكن هذه الموازين لصالح محمد والإسلام في البداية، بل لصالح أعدائهما، فلم تكن الانتصارات هي القاعدة بل كانت ثمة الانتكاسات وكان لا بد من التعاطي معها ومن تحديد سبل تجاوزها كما كان لا بد من تطوير ملامح العقيدة الجديدة وفقا للأحداث ومن الإجابة عن مشاغل الناس. وكان محمد في كل ذلك صاحب الذكاء الوقاد الذي يجمع بين الفكر والسياسة في بعديها الاستراتيجي والتكتيكي والتنظيم والحرب والقانون الخ…

لم يكن النص الديني في نهاية المطاف سوى النص المؤطر لكل ذلك بما فيه من عقيدة عامة ونظرة إلى الكون والوجود ومن تنظيم للمجتمع وموقع كل طرف منه ومن تشريعات وترتيب للعلاقات بين البشر الخ… لقد كانت الحركة تتم في الأرض وتخضع لحساباتها الملموسة ولو لم يحسن محمد وأصحابه إدارة الصراع ما كانوا ليحققوا انتصار الإسلام في أرض الواقع على المجتمع القرشي ـ العربي القديم وجمع شتات القبائل العربية في أمة تحت راية الدين الجديد. إن القدامى من إخباريين ومفسرين ولغويين وشعراء وكتاب كانوا أقرب إلى الواقع فيما كتبوا ولكن الذين جاؤوا بعدهم منذ عصور الانحطاط هم الذين ألبسوا الوقائع لبوسا قدسيا وكبّلوا العقول وجرّموا إعمالها. فبينما كان محمد يصرح أنه بشر ككل البشر يخطئ ويصيب، وبينما كان يراجع مواقفه ويعدّلها ويستشير ويأخذ بالرأي الآخر، حوّل الفقهاء ما نسب إليه من أقوال وأفعال إلى أحكام مقدسة صالحة لكل زمان ومكان نافين عنها كل نسبية. ومن البديهي أنه عندما ينزع أي فعل أو عمل أو قول عن سياقه التاريخي ويسقط على سياق آخر لا علاقة له به فإنه يُشوَّهُ ويفقد تاريخيته ويقود عمليا إلى فظاعات في التفكير أو في الممارسة.

إن الثوري الحقيقي هو ذاك الذي يفعل في مجتمعه وينطلق من واقعه الملموس أي من درجة تطوره في اللحظة المحددة ليرتقي به تدريجيا مراعيا خصائصه القومية والاجتماعية والثقافية والنفسية، مستلهما من كل ما راكم من مكاسب، مستوعبا ما حقّقته الإنسانية من مكاسب تندرج ضمن الإرث الإنساني المشترك. أما من يدير ظهره لهذا الواقع ويحاول أن يفرض عليه قوالب جاهزة مهما كانت فهو لن يفلح في تغييره وفي كسب ثقة شعبه. وفي كلمة فإن التغريبيّين في مجتمعاتنا ليسوا سوى الحليف الموضوعي الأكبر للقوى الظلامية أو بالأحرى الوجه الآخر للعملة نفسها فهما يغذيان بعضهما البعض. فالقوى الظلامية تخرج الإسلام من سياقه التاريخي الاجتماعي وتصبغه بصبغة إطلاقية متناقضة مع قانون التطور والتغريبيّون يسقطون على الإسلام ما تحقق اليوم من تطورات ويحكمون عليه بشكل مطلق انطلاقا من هذه التطورات التي هيأت إليها ظروف العصر الحديث التي لم تهيّئ لظهور الإسلام. وبعبارة أخرى فإن النظرة الأولى شأنها شأن النظرة الثانية، تتصفان باللاّتاريخيّة.

وما من شك في أن الشعوب العربية والإسلامية تمر اليوم بواقع مرير. فهي ترزح تحت اضطهاد مزدوج، داخلي وخارجي، استعماري غربي، صهيوني، ورجعي محلّي. كل الكواسر تنهش جسدها وهي لا تتوانى عن استعمال كل الأسلحة الفتاكة المادية والمعنوية، ومنها السلاح الطائفي لتأبيد السيطرة عليها وعلى ثرواتها الهائلة الكفيلة بتخليصها نهائيا من الفقر والجهل والمرض والتخلف والارتقاء بها إلى مصاف المجتمعات المتقدمة. ولكن ما يبعث على الأمل هو النضال المستمر للشعوب العربية. فبعد أن ظن البعض أن «الربيع العربي« قبر تحت ضربات القوى الاستعمارية والرجعية التي حولت معظم الثورات والانتفاضات وحركات الاحتجاج العربي التي انطلقت منذ بداية هذه العشرية الثانية من هذا القرن إلى حروب أهلية مدمّرة، قام الشعبان الجزائري والسوداني ليدشّنا حلقة جديدة من الثورات علاوة على عدم توقف مسار النضال الاجتماعي/الطبقي في تونس وكذلك في المغرب والعراق ولبنان وعلى تجدد أشكال المقاومة الوطنية ضد الكيان الصهيوني في فلسطين الخ… وبقطع النظر عن مآلات الانتفاضتين الشعبيتين في الجزائر والسودان ومسار النضال الاجتماعي/الطبقي في تونس وفي غيره من الأقطار العربية، فإننا على استعداد للمراهنة بنسبة 1000 في الـ100 بأن الوطن العربي لن يهدأ وبأنه سيكون منطقة الزوابع لهذا القرن إلى أن تتغير أحوال الشعوب العربية الجديرة بتحقيق وحدتها القومية على أساس الحرية والديمقراطية والمساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية.

ولكن علينا أن نفهم أن أحد عوامل نجاح التحول القادم في الوطن العربي هو تبلور فكر ثوري عربي جديد لقيادة هذه التحولات يستثمر ما تراكم من مكاسب ويطورها ويحوصلها. فعلى ما بينّا في ما سبق فإنّ ما من ثورة ناجحة في التاريخ إلا وأطرتها نظرية ثورية. لقد عرف العرب والمسلمون، حين كانوا يقودون العالم، في العصر الوسيط حركة فكرية، ثقافية، حضارية عظيمة سيعتمدها الأوروبيون لاحقا رافدا من روافد نهضتهم الحديثة التي مكنتهم من الهيمنة على العالم وطبعه بطابعهم الرأسمالي، البورجوازي. ولكن حركة التاريخ تعطلت عند العرب الذين بقوا يجترون ماضيهم بشكل مشوه ولا يقدرون على الربط بينه وبين مكاسب الإنسانية الحديثة للنهوض من جديد. وقد باءت كل محاولات النهوض في العصر الحديث بالفشل، لا بسبب التدخل الاستعماري الخارجي فحسب، بل كذلك بسبب عجز القوى التقدمية الداخلية، الاجتماعية والسياسية عن مواجهة التحدي بما في ذلك في المستوى الفكري.

لقد مثّل المنشور القادري الصادر عن الخليفة العباسي القادر بالله (408 هـ/1017 ـ 1018م) الذي منع الاجتهاد وحدّد المعتقدات التي يجب على المسلمين اعتقادها والمعتقدات التي يجب على المسلمين عدم اتباعها، وفي مقدمتها الفكر الاعتزالي، العقلاني، تحت طائلة القتل والتنكيل من جهة ومنشور أبو يوسف يعقوب «المنصور« المُوَحّدي في بلاد المغرب الذي جرّم الفلسفة في القرن الثاني عشر ميلاديا وأمر بحرق كتب ابن رشد، أبي العقلانيين العرب والمسلمين، من جهة ثانية الضربة الفكرية التي لم ينهض بعدها المسلمون نهضة مستدامة رغم كل محاولات القرنين التاسع عشر والعشرين التي ذاق فيها دعاة الإصلاح من أمثال جمال الدين الافغاني ومحمّد عبده وقاسم أمين وعبد الرحمان الكواكبي وعلي عبد الرازق والطاهر الحداد وغيرهم الأمرّين. وأكبر ظنّنا أنّ الوقت قد حان اليوم والظروف قد اجتمعت لكي نثب الوثبة النوعية التي نصفي بها الحساب مع الجانب الرجعي المتخلف من إرثنا الثقافي والفكري الذي يمثل اليوم الفكر الوهابي بمختلف تفرعاته الإخوانية والسلفية وغيرهما امتداده الرهيب ورأس حربته الذي يوظفه الاستعماريون بكل قوة لمنع تقدمنا. ولكنهم ما كانوا ليقدروا على ما هم فاعلوه لولا ضعف شعوبنا ونخبها التقدمية التي لم تقدر على خوض صراعها الحضاري مع الرجعية والاستعمار في كافة مستوياته الفكرية والسياسية والاجتماعية.

إن نقطة البداية تبقى بلا أدنى شك هي الفكر، فلا خلاص لنا إن لم نبدأ بالكنس أمام ديارنا. إن نقد الفكر الديني المتحجّر والمثالي والخرافي هو أولى الخطوات التي ينبغي البدء بها بكل جرأة وعمق وشمول. وهذا العمل لن يجري بالطبع في المكاتب المغلقة أو في الأبراج العاجية بل في خضم النضال الاجتماعي/الطبقي والسياسي الذي تخوضه القوى الحية في مجتمعاتنا، ونعني بالتحديد الطبقات الكادحة والمفقرة، ضد أعدائها في الداخل والخارج.
إن الهدف يبقى التغيير الثوري الذي يحقق النقلة النوعية في واقع شعوبنا. وهو تغيير آت لا ريب فيه أحبّ الطغاة وكل الرجعيين أم كرهوا.

انتهى

نشر بجريدة المغرب 23 ماي 2019

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×