الرئيسية / صوت الثقافة / “البوقرعون”
“البوقرعون”

“البوقرعون”

“البوقرعون” سلسلة من المقالات نفتتحها، باسم الشعب، وعلى بركة الثّورة الدّائمة، على أعمدة “صوت الشعب”. سوف يكتشفها Untitled-5القارئ أسبوعيا وتباعا هنا على هذه الصفحات.

هذه المقالات هي عبارة عن نصوص، عن حكايا، عن خواطر، عن ذكريات منها ما كُتِبَ قبل الثورة ومنها ما كُتِبَ بعدها.

وأوّل نصّ نفتتح به السلسلة هو نصّ اليوم هذا: “حكاية كتاب الحدّاد”.

وهذه الحكاية حكاية واقعية. الأحداث واقعية. والأزمنة والتواريخ واقعية. والأماكن واقعية. والشخصيّات أيضا واقعية إلاّ أسماؤها فقد غيّرتُها لأنّ النصّ وُزِّعَ بصفة محدودة وسريّة في تاريخه، أيْ سنة 2007.

واليوم، نعلن، هنا، عن هويّة شعبان الحدّاد الذي بدأت به ومعه هذه المغامرة الأدبية الفكرية السياسية. إنّه صديقي ورفيقي في النضال الرابطي (رابطة حقوق الإنسان) : عبدالله قرّام.

في الحقيقة عبد الله قرّام غنيّ عن التعريف. فهو، بالنسبة للذين يعرفونه في ساحات النضال، وهم ليسوا بقلّة، يعرفون أنّه.. عامل قلبا وقالبا. وفي ذلك ألف معنى وألف مدلول.

أمّا بخصوص كُنْيته في النصّ: “شعبان الحدّاد”، فلقد وقع تركيبها من ذكرى وحادثة:

الذكرى هي صورة رجل عرفته ترك في نفسي انطباعات جمّة وهو العمّ شعبان الفرشيشي عنوانه التاريخي بقعفور “الفيرمة الصفراء” وهو والد الصديق أحمد الفرشيشي المعروف بِـ: “بَـدُو” وهو من مناضلي قعفور وسليانة.

أمّا الحادثة فهي حادثة طريفة ومُلخّصها أنّ الصديق نورالدين السرغيني كان يتحاور مع المناضل النقابي والسياسي النفطي حُولة في مقبرة الشهيد بضاحية قعفور وقد وصلا للتوّ وكان البوليس يُحاصر المقبرة، وإذا بهدير يصعد من وراء التلّة كهدير الموج العارم فشنّف النفطي آذانه وسأل: ما هذا؟ فأجابه السرغيني: هؤلاء الحدّادون قد وصلوا.

فعجب النفطي من الجواب. وإذا بالرؤوس بدأت تظهر صاعدة مع الثنيّة الدّاخلة إلى المقبرة ويسبقها نشيد الثورة وأهازيج النّضال.

رفع بعض الشباب ممّن كان واقفا، هناك حول قبر الشهيد، القبضة عالية واستقبلوهم منخرطين معهم في النشيد.

قال أحدهم: “هؤلاء الحدّادون الذين ينفخون على النّار في الكور فيُحَمُّون المناجل ويُسَوُّونها بالمطرقة.”

حكاية كـتــــاب الحـــدّاد.

 

كـان

الصّيف يجمع بقاياه، وكانت حرارة ذاك الأحد لطيفة بل تشقّها نسمة باردة تُنشِّط القليلَ منّا، نحن أبناء البلد، وتُثْنِي الكثيرَ عن دخول الماء بل عن ارتِيَاد الشاطئ المُزدحِم بأبناء وبنات الإفرنجة.

أمّا أنا فقد كان بردٌ آخرُ يسكُنني، كنت أقاوِم سُحبَ اليأس التّي تداهمني ولا أرى حولي إلا الطرق المسدودة والثنايا الوعرة التي لا تؤدي إلا إلى فجّ سحيق أو إلى هاوية بلا قرار… رحيق الزهرة البرية التي أبحثُ عنها لا يعني شيئا بالنسبة لللّاهثين وراء المُتع الزائفة، المتهافتين على عناقيد الفرح الخاوي في سهرات الصيف المُبتذلة. وهؤلاء المتفرشكون على الشاطئ خِفافا يغْطِسُون في اللّجة الزرقاء لا يحملون همّا. وأنا غريبٌ بينهم  أتخبَّط في أمواج الكآبة…

لذلك فضَّلت المشي على طول الشاطئ الذهبيِّ ورافقني في رياضتي المفضّلة هذه إبني الصغير.

وفجأة رأيتُه على الرّمل منهمكا يغرس عمودا حديديا.

ماذا يفعل؟ أيغرس سارية لراية؟

على رأسه قلنسوة دائرية شبه عسكرية ويرتدي قميص أبطال كرة السلة، ذاك القميص الذي يظهر منه لوح الكتف عاريا وجانب عريض من الظهر والصدر العريض.

كان يركز الخيمة.

وتوجّهتُ نحوه.

قال ابني وهو يمسك بيدي: “هيّا هذا ليس صديقك.”

قلت: “انظر إليه جيدا. أليس هو.؟”

ابني معه حقّ. لم يكن يتصوّر أنّه سيرى العمّ شعبان هنا وفي ذلك الموقف بالتحديد، وهو الذي عرف شعبان الحدّاد عاملا نقابيا… له موقِفٌ ووقْفَة في مجالات أخرى. ميدانُه: ساحة محمد علي وليس “السّن داي قلدن بيتش”.

تعانقنا.

رفع ابني وقبّله. مسكه عاليا في الهواء، نظر إليه بابتسامته المتفائلة دوما وقال: يجب أن تأكل جيّدا وأن تمارس الرياضة أيضا حتى تكبُرَ وتصيرَ هكذا وأكبر ورماه في الفضاء.

نادى أبناءه وطلب منه أن يلحقَ بهم وأن يتدرّبَ على ركوبِ الموْجة العَتِيَّة.

وانطلق الأطفال.

وفي نفس اللّحظة نطقنا بالسّؤال المحموم: ماذا عندك من جديد؟

وبعد أخبار الحريات المعطّلة والأسعار التي التهبت والنّاس في عطلة فتح قفّته وقال:

“أنا الآن بصدد مطالعة هذا الكتاب.”

وطلع الكتاب من القفّة: أحمر بلون قبعة العبيد* وعنوانه: أكتوبر العظيم. وصورة لينين حيّ، جامح، يقود الجماهير.

بعد أسبوعين كنت قد تقدّمت أشواطا في ترجمته.

واقفا تحت زيتونة مسكية مكتنزة بثمرة تلمع تحت الشمس. هذا الزيتون الأكتوبري ما أبهاه! وخمّنت: “لو لم يكن في المقبرة لتمّ جمعه.”

“هكذا غلّة أكتوبر. غلّة ممنوعة!”

انتشر الناس بين القبور يبحثون عن مساحة ظل تَقِيهم حامية الرمان. أجيال واقفة هنا تودّع أحد روّاد الحركة السّياسية والاجتماعيّة الذين عاشوا بدايات نشأة الطّبقة العاملة ومرحلة تشكّل الوعي الاجتماعي والوطني. أواخرُ جيل قد ذهب وترك لنا إرثا…

تركنا كالأيتام في مأدبة…

وفي زحمة العزاء، وجدتني بجانب صديق قديم، عبد الحميد الكاتب، صحفي بدون قلم، هو نزيل ثلاجة بأحد مكاتب الإعلام… وصحت به: “كيف أنت؟ وأين أنت؟ سِنُون لم أرَك ولم أقرأ حتى اسمَك…وأمطرْتُه بوابل من الأسئلة”

قال: “أنا في المكتب ولا أكتب ولكنّي أقرأ وهذا ما يزيد في إحباطي… تصوّر ماذا حدث لي اليوم. فكرت في أن أقتني مجلة أجنبية تتحدث عن الماضي حتى أتجنب همّ الآن وإسفاف هنا. وعزمت على اقتناء مجلة “Histoire”. ووجدت العدد الجديد: أكتوبر 2007. وملف العدد: “جرائم الشيوعية”. وصورة الغلاف: أعلام الفكر الاشتراكي: ماركس ولينين وستالين!”

الأوغاد لم يكفُّوا عن حملة الادّعاءات الباطلة والافتراءات السّخيفة. إنّهم يعرفون مكمن الخطر الحقيقي عليهم.

قلت: “أكتب وسيبرأ قلمك وتتجاوز نكد القراءة وستعود إلى نفسك فتصالحها وتحقّقها”.

قال صديقي القديم مواربا: “اكتب أنت”.

تأبّطتُ مخطوطي وسرت على الرصيف باتّجاه البناية. وما أن دخلت الشارع الفرعي حتّى وجدته مكسوّا بالأعلام ولافتات الزينة والشعاراتُ تصرخ وقد غطى البنفسجيُّ الحزين على الأحمر الباهت… هنا إدارات عمومية تستعدّ للاحتفال…

ومن حسن حظّي وجدت إبراهيم، صديق أيّام الدراسة. وأنا أحبّه كثيرا لأنّه يُدخل عليك البهجة وهو قادر على تبديد سحب الحزن وأنت تجده إلى جانبك وقت الضيق داعما بماله ونصائحه وخاصة بروحه المرحة دوما وظُرْفِه وميْله إلى الدُّعابة.

صديقي إبراهيم هذا شخصيّة عظيمة فهو في تعريفنا له، نحن رفقته في سنوات الجمر، التونسي الأصيل: يصوم ولا يصلّي، يحبّ محمد بن عبد الله الهاشمي صاحب الرّسالة المحمديّة، ويعتبر لينين أعظم رجل في التاريخ، يعجبه زُخرف جامع الزيتونة ويذكر دوما أنّه كان معبدا وبه زيتونة، يحبّ شارع 9 أفريل لأنّه يذكره بزعيم الشباب علالة بلهوان وبه كلية الآداب وفي ما عدا ذلك يمقته مقتا وهو قادر على أن يقضي ليلة كاملة لا يتحدّث ألا عنه، بل عن تونس وانطلاقا منه بدْءا بالسُّور الذي هُدِم وصولا إلى نزل الأبطال* الذي مُسِح…

استقبلني بالأحضان. اصطدمت بكِرْشِه المُنفلتَةِ. وفرقعتْ قبلاتُه على وجهي كزغاريد الفرح. وانهَلْتُ عليه بالشتائم: أنت خائن ومهمل عيال وأناني…

وبعد الذمّ كان المدح.

“جئتك بهديّة. ولا أعرف أحدا حقيقا بها غيرك. هذا كُتيِّبٌ مترجَم ومعه نسْخةُ الأصل بالفرنسية وأرجو أن تُراجِعه في أسرع وقت لأنّ له موعدا للتقديم.

قال: ومتى موعده؟

قلت: 25 أكتوبر ذكرى تاريخ ثورة 17 وإن تباطأت يصبح الموعد 7 نوفمبر حسب التّقويم الغريغوري.

قال: ما لنا ولنوفمبر شهر التقلّبات؟ قلّب الكتيّب بين يديه وقال: نحن لها ولكن على شرط.

قلت: اُطلب.

قال: أتمّه في الموعد ونجدّد العهد بلقاء يجتمع فيه شمل أهل الشمائل.

 قلت : لَكَهَا.

وضحكنا.

لمّا استلمْتُ الكتاب سألته: كيف؟ وماذا؟

نظر إليّ وقال: هو عظيم بعظمته وقد أعاد فيّ الروح وبعث الأمل من جديد ولكنّه خلّف في الحلق مرارة لا أعرف لها دواء.

خِفت وسألته: ماذا؟ أفْصِحْ؟

قال: هذه طريق الإنسانية وكلّ الأمم هنا إلّا أمّتي، أمّتي أنا إبراهيم.

قلت: لا عليك سنصوغها مفهوما وروحا من جديد وسيصهرها شعبان من فولاذ وحديد وسنخرجها عروسا بين الأمم في يوم عيد.

باسمي وباسم شعبان الحدّاد وإبراهيم عبد الحميد الكاتب وكلّ رفاق سنوات الجمر أهدي هذه الترجمة إلى بلاشفتنا.

عسى أن تزهر الجمرة في كور الحدّاد.

عسى أن يتواصل خيط الأمل ويصبح حزمة نور.

وعلى الدرب نلتـقي.     

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×