الرئيسية / عربي / قطر تدفع ثمن رهاناتها الخاسرة والسّعودية تصدّر أزماتها لجيرانها
قطر تدفع ثمن رهاناتها الخاسرة  والسّعودية تصدّر أزماتها لجيرانها

قطر تدفع ثمن رهاناتها الخاسرة والسّعودية تصدّر أزماتها لجيرانها

اهتزّت منطقة الخليج مؤخّرا على وقع إجراءات عقابيّة اتّخذتها السّعودية وبعض حلفائها ضدّ قطر، إجراءات هي بمثابة إعلان حرب لإجبار هذه الدولة على تغيير مواقفها والخضوع للوصاية السّعودية التي تسعى إلى توسيع دائرة نفوذها بعد غرقها في المستنقع اليمني وتزايد مشاكلها في الدّاخل والخارج.

ورغم شدّة العقوبات وقسوتها فإنّ المصالح السّياسية لدول المنطقة وللقوى العظمى تتّجه نحو وضع حدّ لهذه الأزمة.

 قطر تجني ما صنعت يداها

اتّبعت قطر منذ عام 1995 سياسة خارجية مختلفة نسبيّا عن سياسات دول الخليج والدول العربية عموما وخاصة في مجال الإعلام والعلاقة مع قوى المعارضة في المنطقة.  وكان بعث قناة الجزيرة إحدى علامات “التفوّق الإعSans titre-4249-18لامي” في ذلك الوقت بالنظر إلى واقع الإعلام العربي المعروف بتخلّفه وخضوعه بالكامل للسّلطة السياسية.

خضعت قطر بشكل كلّي تقريبا إلى وصاية واشنطن وفتحت أراضيها ومياهها وأجوائها لاحتضان القواعد العسكريّة الأمريكيّة. وكانت هذه القواعد منطلقا للسّيطرة العسكرية على المنطقة (احتلال العراق…)

السّياسة القطريّة هذه أزعجت معظم الدول العربيّة ورأت فيها خروجا عن المألوف وخرقا للخطوط الحمر وخاصّة في المجال الإعلاميّ وهو ما خلق شبه إجماع لديها بضرورة التصدّي لقطر. لكن استفادة هذه الأخيرة من الخلافات بين دول الخليج واحتمائها بالمظلّة الأمريكية إلى جانب موقعها الاستراتيجي وما تتوفّر عليه من ثروات طبيعية هائلة مقارنة بعدد سكّانها، أجّل اتّخاذ موقف صارم منها.

مع موجات “الربيع العربي” راهنت قطر بقوّة على دعم التّحركات الشّعبيّة لتغيير الأنظمة العربيّة التي عرفت انتفاضات شعبية. لكنّه كان دعما لفريق إيديولوجي لا يخدم فعلا قضية التغيير والانتقال الدّيمقراطيّين، دعم مالي وإعلامي وسياسي وحتّى بالتّسليح لقوى الإسلام السياسي (الإخوان المسلمون أوّلا، ثمّ الجماعات التكفيريّة الإرهابيّة في مرحلة ثانية).

لقد أصبح هذا الدعم مفضوحا ومكشوفا بعد الإطاحة بنظام بن علي في تونس ومبارك في مصر والقذافي وصعود حركات الإسلام السياسي ووصولها إلى السلطة. ومع بداية سنة 2013 ظهر هذه الحركات الإسلاميّة (في تونس ومصر أساسا) قاصرة عن “التطبيع” مع شعبها، وسرعان ما بدأت المواجهة بينها وبين جماهير الشعب، فتمّت الإطاحة بحكم الإخوان في مصر وبحكومة الترويكا التي تقودها حركة النهضة في تونس وأعلن خليفة حفتر في ليبيا الحرب على تشكيلات الإسلام السياسي وتمكّن بشار الأسد في سوريا من الصمود رغم الدعم الكبير الذي يلقاه معارضوه من قطر وتركيا وواشنطن، ومن إسرائيل.

ورغم أفول نجم الإسلام السّياسي في أوّل تجربة حكم له في هذين البلدين، فإنّ قطر لم تتلقّف بعد “الرّسالة” ولم تراجع سياستها الخارجيّة وبقيت مصرّة على التدخّل في شؤون الدّاخلية للبلدان العربيّة، التي تعاني بطبيعتها من صعوبات اقتصادية.

 قطر “ضحيّة” السياسة الأمريكية الجديدة في المنطقة

من البديهي أن السّعودية وحلفائها ما كانوا ليتّخذوا مثل هذا القرار التّصعيدي الخطير إزاء قطر لو لم تزكِّ واشنطن ذلك. فالمعروف أن السياسة الخارجية السعودية مرتهنة بشكل كامل لواشنطن ولا يمكن “وضع خيط في إبرة” إذا لم تكن هذه الأخيرة على علم بذلك.

ومع وصول اليمين المتطرّف إلى البيت الأبيض باشرت الإدارة الأمريكية سياسة الابتزاز تجاه دول الخليج واستغلّت تبعيّتها وضعفها وعزلتها عن شعبها. وقد كان ترامب واضحا في ذلك عندما قال إنّ أمريكا ليست مستعدّة لحماية دول الخليج دون مقابل وأنّ على هذه الدّول دفع ثمن الحماية التي تحظى بها. وبطبيعة الحال يبدو أنّ الغنائم التي ظفر بها بمناسبة زيارته الأخيرة إلى السعوديّة كانت سخيّة ومغرية.

وإن راجت بعض الأخبار، التي نشكّ في سلامتها، كون قطر رفضت الخضوع لهذا الابتزاز فوجدت نفسها محرومة من الغطاء الأمريكي، فإنّ الأقرب أنّ أسبابا أخرى كانت قادحة لكي تميل كفّة “الرّضاء” إلى جانب السعوديّة ضدّ قطر.

لقد فهمت السّعودية، بعد زيارة ترامب، أن واشنطن لا تعارض اتّخاذ “إجراءات عقابية” ضد قطر، خاصّة وأنّ هذه الأخيرة لم تبدِ حماسا كالذي تبديه السّعوديّة في تشكيل “حلف سنّي – صهيوني” للتصدّي للنفوذ “الشيعي” (الإيراني) في المنطقة، وهذا هو الأقرب في نظرنا. فباشرت السعوديّة بترتيب الأمور عبر الحشد الخليجي والعربي والدعاية الإعلامية وصولا إلى إعلان فرض حصار ديبلوماسي واقتصادي على قطر.

 السعودية تصدّر أزماتها

الطريقة والشكل اللذين اتبعتهما السعودية في محاصرة قطر يكشفان عمق الأزمة التي تنخر هذا البلد الذي غرق في المستنقع اليمني وتورّط في خلاف مع إيران وها هو اليوم يوسّع خلافاته لتشمل قطر.

كان يمكن تجاوز هذا الخلاف بالحوار وفضّ الخلافات وفق ما تقتضيه الأعراف الديبلوماسيّة، لكن السعودية اختارت التصعيد بدعوى أنّ قطر “داعمة للإرهاب”، وهي نفس المزاعم التي “تعلّلت” بها عندما تدخّلت عسكريا في اليمن بدعوى “الدفاع عن الديمقراطية” و”إعادة الشرعية”.

لا يحتاج المرء نباهة كبيرة حتى يدرك زيف الدعاوي التي تقدّمها السعودية لتبرير قرارها الأخير ضدّ قطر، فلو كانت فعلا حريصة على مقاومة الإرهاب وتجفيف منابعه كما تدّعي لبدأت بنفسها ووضعت حدّا لخطاب الكراهية والتطرف والتحريض ضد الأقليات الدينية والعرقية الذي يغزو مساجدها ومنابرها الإعلامية… لو كانت السعودية جادّة في مقاومة الإرهاب لتخلّت عن دعم المجموعات الإرهابية التي تعمل على تحطيم سوريا، وأخيرا وليس آخرا، وهذا هو الأهم، لو كانت السعودية جادّة في مقاومة في الإرهاب لوضعت حدّا لتدخّلها عسكريا في اليمن وأنهت معاناة الشعب اليمني وساعدته على إعادة بناء دولته المدمرة.

 لا مصلحة لحكومتنا أو لشعبنا في الانخراط إلى جانب أحد الرّجعيات

من البديهي أن قطر ستتكبّد الخسائر وستواجه صعوبات اقتصادية وسياسية وأمنية نتيجة الإجراءات العقابيّة الأخيرة خاصة وأنها دولة صغيرة ومحاصرة برّا وبحرا وجوّا من “جيرانها” الذين أعلنوا مقاطعتها وحذت حذوها عدّة دول من خارج الخليج بأشكال مقاطعة مختلفة (موريتانيا، المغرب…). لكن التجربة والواقع أثبتا أنّ الحكم الذي يرتكز على شرعيّة داخليّة، شرعيّة الالتفاف الشعبي، لن يعمّر إلى ما لا نهاية، فالأنظمة التي تستقوي على شعبها بالخارج، ستدور عليه “نوائب الدّهر” وسيتجرّع بدوره سمّ المؤامرات والدّسائس. فالسّعودية وحلفائها لن يكونوا بمنأى عن الأزمات والهزّات السّياسية والأمنيّة نتيجة إقدامهم على اتّخاذ هذا القرار خاصة وأن الأزمات الداخلية والخارجية التي تعصف بهذه الدول في محيط إقليمي ودولي غير ثابت وغير مستقر ستزيد من تعميق هذه الأزمات.

إن المصالح المشتركة لدول الجوار تقتضي أن يهبّ الجميع لاحتواء هذا الخلاف ومحاصرته وإنهائه. وقد تعود المياه إلى مجاريها متى ما استشعر العرب أنّ مصيرهم مشترك وبناء نهضتهم يقتضي إنهاء الخضوع الذّليل للخارج المستعمِر.

وفي تونس، لا مصلحة للحكومة، ناهيك للشّعب، في الارتماء في أحد أحضان الرجعيات الخليجيّة، سواء منها السعوديّة أو الإماراتية أو القطريّة، وأوْلى وأَحْرى أن يفهم الائتلاف الحاكم، والذين استقووا بمال الخليج وإعلامه، وربّما حتى بأسلحته، أنّ مخطّطات التّجزئة والتقسيم والفتنة إلى زوال، ولا شيء أقوى وأصلب من إرادة الشعب وتوقه للحريّة والانعتاق.

عبد الجبّار المدّوري

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×