الرئيسية / ملفات / الذكرى العاشرة للثورة / الدّيمقراطيّة الشّعبيّة، البديل الممكن والضّروري لاستكمال المسار الثّوري التّونسي
الدّيمقراطيّة الشّعبيّة، البديل الممكن والضّروري لاستكمال المسار الثّوري التّونسي

الدّيمقراطيّة الشّعبيّة، البديل الممكن والضّروري لاستكمال المسار الثّوري التّونسي

حبيب الزموري

“تتجلّى الأزمة تحديدا في أنّ القديم آيل إلى الزوال،
بينما لا يستطيع الجديد أن يولد.
وفي هذا الفاصل، يبرز عدد من الأعراض المرضية”.
غرامشي – دفاتر السجن

انقضت عشر سنوات على اندلاع الأزمة الثورية في بلادنا. شهدت خلالها الحركة الثورية موجات مدّ وجزر، لحظات انتصار ولحظات انكسار، تبعا لموازين القوى على الأرض بين قوى حاولت وما تزال “إغلاق قوس الثورة” وقوى متمسكة باستكمال المسار الثوري ومقاومة كافة محاولات الارتداد بحركة التاريخ إلى الوراء.
في الأثناء يراكم الشعب التونسي في هذا المسار الشائك والقاسي الدروس والتجربة الذاتية كما لم يفعل طيلة تاريخه. ولكن رغم أهمية هذه التجربة فإنها لم تكن كافية لاستكمال مهام الثورة وتحقيق الحد الأدنى من المطالب التي رفعها الشعب التونسي وهو يواجه جهاز الحكم النوفمبري ومن ورائه المنظومة الاقتصادية والاجتماعية التي يحرسها. فما هي أبرز عوامل انتكاسة وتعثّر المسار الثوري في تونس؟ وما هي السبل الكفيلة باستكمال هذا المسار ومقاومة محاولات الارتداد به لتحقيق مطالب الشعب التونسي في العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة الوطنية؟

عشر سنوات من الالتفاف على المطالب الشعبية، عشر سنوات من المقاومة
انطلقت محاولات الالتفاف على المسار الثوري قبل سقوط رأس السلطة النوفمبرية بمحاولة شق صفوف الحركة الشعبية التي عمّت البلاد واستقطاب بعض القوى السياسية المعارضة وإطلاق بعض الوعود الفضفاضة. وقد كان النظام الحاكم في تلك اللحظة أكثر وعيا من القوى والشخصيات السياسية والحقوقية التي استقطبها بأنّ الحركة قد تجاوزت بعدها المطلبي والجهوي وتحوّلت إلى أزمة ثورية حقيقية بإطلاقها لشعار “الشعب يريد إسقاط النظام”، تبشّر بإحداث تغيير جذري لا في نمط النظام السياسي فحسب بل في العلاقات الاجتماعية المتعلقة بتنظيم الإنتاج التي يُعبّر عنها التحالف الطبقي الحاكم منذ 1956. وهو ما أجبر هذا الأخير على التضحية بتعبيرته السياسية وركوب الموجة الثورية ليس للوصول بها إلى برّ “الشغل والحرية والكرامة الوطنية” بل للانحراف بها في متاهات الانتقال الديموقراطي وإفراغها شيئا فشيئا من محتواها الاقتصادي والاجتماعي، مع سعي هذا التحالف الطبقي الكمبرادوري جاهدا إلى تشكيل تعبيرته السياسية التي ستدافع عن مصالحه في ظل النظام السياسي الجديد. ولئن تعدّد المترشحون للعب هذا الدور منذ 2011 وفي مقدمتهم حركة النهضة التي لم تغادر سدّة الحكم منذ ذلك التاريخ فإنّ تلك التعبيرة لم تكتمل بعد وعجزت الحركة الإسلامية عن كسب ثقة كافة شرائح الكمبرادور في تونس رغم كافة المناورات التي قامت بها. فاكتفت باستقطاب الشرائح الأكثر محافظة مع إغراء شرائح أخرى بتوفير الحماية لها مقابل تمكينها من مفاتيح “الدولة العميقة” ولكن شرائح أخرى من الكومبرادور التونسي وبتوجيهات من الرأسمالية العالمية قامت ببعث تعبيرات سياسية ليبيرالية مستقلة عن الحركة الإخوانية ولكنها لا ترى حرجا في تشكيل ائتلاف للحكم معها.

وهو أمر طبيعي بحكم المصالح الطبقية الموحدة التي تدافع عنها. هذا هو التحالف الطبقي الحاكم في تونس منذ 2011 والذي سخّر كافة إمكانياته المالية والدعائية وتحالفاته الإقليمية والدولية لقطع الطريق أمام استكمال المسار الثوري وتسييج النظام السياسي الذي أفرزته الانتخابات منذ سنة 2011 بسياج دغمائي مقدّس تحت عناوين مختلفة “كالشرعية” و”الثورية” و”المصلحة الوطنية” رغم محافظة هذا النظام على نفس الجوهر الطبقي للنظام القائم في تونس قبل 2011 بل إنه فاقم من حدّة التفاوت الطبقي والجهوي وتبعية البلاد وفقدانها لسيادتها الوطنية.

وقد كان يمكن لمسار الثورة المضادة أن يذهب بعيدا بالشعب التونسي إلى غياهب الإرهاب والظلامية وإلى لحظات أشدّ رجعية حتى من منظومة ما بعد 1956 لولا تصدّي القوى التقدمية والثورية لهذا المسار الرجعي. وقد كانت الجبهة الشعبية بين سنتي 2012 و2019 في خط المواجهة الأول لمقاومة تلك التوجهات الرجعية. ولئن لم تتمكن من تغيير موازين القوى تغييرا جذريا لاستكمال مهام الثورة، كما طرحت على نفسها منذ تأسيسها، فإنها حالت دون استتباب الأمر لفائدة المشروع الظلامي الذي كان يتربص بالشعب التونسي رغم تردّد القوى الليبيرالية وتواطئها مع التعبيرة الأكثر تنظّما للمشروع الإخواني في تونس. لقد نجحت الجبهة الشعبية في إبقاء المسار الثوري مفتوحا وحماية المكاسب السياسية التي ولئن لم تتحول إلى سلاح فعّال بيد الجماهير الشعبية فإنها تعتبر ضمانة أساسية من ضمانات التصدي للسياسات المعادية للشعب والثورة.

فالطبقات الكادحة والشعبية المتضررة من سياسات الائتلاف الطبقي الحاكم ورغم قسوة وثراء التجربة التي مرّت بها وما تزال منذ 17 ديسمبر 2010 فإنها ما تزال بصدد مراكمة تجربتها الذاتية التي لن تكتمل إلاّ بالوعي بمصالحها الطبقية والتنظّم. وهنا يتبيّن لنا البون الشاسع بين تجربة الكمبرادور الواعي تماما بمصالحه الطبقية الذي استدعى مباشرة إثر سقوط تعبيرته السياسية هيئة أركانه لإعادة التنظم والانقضاض على السلطة من جديد بعَقْد شتى أنواع التحالفات لقطع الطريق أمام نقيضه الطبقي والحيلولة دون وعيه بمصالحه الطبقية وتنظّمه مستنفرا أجهزته الإيديولوجية المختلفة لقصف العقول قصفا مكثفا، استعملت فيه كافة الأسلحة الإيديولوجية لخلق حالة من الفوضى تحول دون التحام الطبقات الكادحة والشعبية بتعبيراتها السياسية. وقد فشلت القوى الثورية وتحديدا القوى اليسارية الثورية عن كسر هذا الحصار. بل كانت هي نفسها ضحية هذه الآلة الدعائية الجبارة.

ويُعتبر تكتيك “خلق الفوضى” من أدبيّات اليمين الليبيرالي المتطرف منذ ثمانينات القرن العشرين وتبنّته الولايات المتحدة الأمريكية منذ ذلك الوقت في سياستها الامبريالية في العالم. لقد بلغت الرأسمالية العالمية ووكلاؤها المحليين في البلدان التابعة أعلى درجات التنظّم. وهي تعي جيّدا أنّ الأفكار والمشاريع الوطنية والأممية تتحوّل إلى قوّة هادرة متى امتلكت سلاح التنظّم. لذلك فهي تعمل جاهدة على منع ارتقاء الحركات الجماهيرية إلى درجة التنظّم السياسي. بل إنها تموّل كافة أشكال التنظّم اللاّسياسي وتعمل على زرع الفوضى في البلدان التي لم يتمكن فيها وكلاؤها المحليون من حسم الصراع لفائدتهم.

مسار ثوري يتعثّر لينهض من جديد
تحاول قوى الالتفاف على الثورة جاهدة “وضع الثورة بين قوسين” وإغلاق المسار الثوري نهائيا لوضع ترتيبات الوضع الاقتصادي والاجتماعي النهائي بعد نجاحها النسبي في وضع ترتيبات نظام الحكم بنجاحها في المحافظة على الجوهر الطبقي للسلطة رغم اضطرارها إلى تغيير شكلها رغم ما يطرحه شكل السلطة الجديد من عراقيل أمام مساعي الهيمنة والسيطرة التي عكستها ممارسة تلك القوى للحكم وتعرّضها المستمر للموجات الاحتجاجية. فما إن تخمد موجة حتى تبرز موجة جديدة لا سيما أنّ الائتلاف الطبقي الحاكم قد استنفد جميع حيله ومسكناته لإخماد الأصوات المطالبة بالشغل والكرامة والعدالة الاجتماعية. ولئن كانت أغلب الحركات الاحتجاجية متحصّنة بانتمائها الجهوي والمحلي أو القطاعي إلى حدّ الآن فإنّ التجربة علّمتنا أنّ الموجة الكبرى لا تأتي إلاّ بعد سلسلة من الموجات الصغيرة.

لقد استغرق التونسيون والتونسيات 23 سنة في مناوشة ديكتاتورية بن علي هنا وهناك قبل الإطاحة به يوم 14 جانفي 2011، إنّ الزمن الثوري لا يقاس بالتوقيت الرسمي ولا بروزنامة إدارية. فالأزمة الثورية يمكن أن تستغرق عقودا عديدة تحقق فيها قضايا الثورة الانتصارات، كما تعرف فيها الانكسارات والارتدادات. ونحن لا نتكهّن عندما نعتبر الأزمة الثورية في تونس لم تصل إلى ذروتها بعد وأنّ أحداث 17 ديسمبر 210 – 14 جانفي 2011 ليست سوى فاتحة لمسار ثوري طويل وعسير وشاق. فالطبقات المهيمنة ستستميت في الدفاع عن مصالحها بكافة الطرق والوسائل وعندما تعي أنّ الطبقات المضطهدة قد وعت بذاتها ولذاتها والتحمت بتنظيمها السياسي الطبقي فإنها ستلجأ إلى أشدّ الوسائل رجعية وفاشية وشعبوية دفاعا عن مواقعها الاجتماعية المتعلقة بتنظيم الإنتاج ومواقعها صلب أجهزة الدولة.

إنّ سيرورة الثورة هي نفسها سيرورة الوعي الطبقي. فكلّما وعت الطبقات المضطهدة حجم اضطهادها واستغلالها واغترابها ارتفعت موجة ثورية. وكلّما خمد الوعي الطبقي إلاّ وانحسرت الموجات الثورية. هذه هي السيرورة التي تحكم على المسار الثوري بالمدّ والجزر في ظلّ غياب أو ضعف التنظيم الثوري واختلال موازين القوى لفائدة القوى الرجعية المناهضة للتغيير الجذري بما فيها القوى الدّاعية إلى ترميم النظام القائم وإصلاحه دون المساس بجوهره الطبقي الاستغلالي. إنّ دروس “البيان الشيوعي” ما تزال تخيّم على المسارات الثورية في القرن الـ21، “فالرأسمالية التي تحفر قبرها بيديها” هي أكبر محرّض ثوري للشعوب بسياساتها العدوانية وبما تفرزه من تفاوت بين الطبقات والشعوب وبما تزرعه من دمار بالعالم وبتوازناته البيئية.

ولا تشذّ الرأسماليات التابعة عن هذه القاعدة بما تُلحقه بالطبقات الكادحة والشعبية، بل وبشرائح واسعة من البورجوازية نفسها من تفقير وتدمير ممنهج للنسيج الاقتصادي الوطني لفائدة نسيج اقتصادي قائم على الريع والتوكيلات الأجنبية. هذه السياسات بالتحديد هي التي تخلق الظروف الموضوعية للاحتجاج. وهي التي تزوّد شعلة الغضب والرفض بالأوكسيجين لتبقى متّقدة. ولكن ما حكم على المسار الثوري في بلادنا بالتعثر والانتكاس هو بكلّ تأكيد العامل الذاتي المتعلق بالتنظيم الثوري ومدى تحمّله لمسؤوليته التاريخية في تنظيم الطبقات المضطهدة وتسليحها ببرنامج الثورة وقيادتها في صراعها ضدّ أعداها ووضع الخطط المناسبة للانتصار في هذا الصراع.

الدّيمقراطية الشّعبية، البديل الممكن والضّروري لاستكمال المسار الثوري التونسي
تزداد القناعة يوما بعد آخر لدى المتشبّثين باستكمال مهام الثورة أنّ نظام الحكم بمختلف أجهزته القائم في بلادنا منذ انتخابات 2011، ليس عاجزا عن تحقيق تلك المهام فحسب. بل أصبح يشكّل رأس حربة قوى الالتفاف على مطالب الشعب التونسي التي عبّر عنها بكثافة في شعاراته التي واجه بها نظام الحكم النوفمبري. وحتى محاولة تعديل موازين القوى من داخل المؤسسات التمثيلية لهذا النظام لفائدة القوى الثورية قد باءت بالفشل نظرا إلى تحكّم الائتلاف الطبقي الذي ما يزال مهيمنا على العلاقات الاجتماعية المتعلقة بتنظيم الإنتاج فارضا وصايته على أجهزة الحكم في مفاصل وقواعد هذه المنظومة التمثيلية. وهو ما مكّنه من إعادة إنتاج نفس الجوهر الطبقي للسلطة بل في نسخة أكثر فسادا ومافيوزية من المنظومة النوفمبرية التي حرصت على حصر التمعّش من المنظومة في عائلات بعينها وتحرص على توزيع الغنائم بينها. لقد تحرّر الفساد أيضا اليوم من ديكتاتورية كانت تلجم نهمه وجشعه حينا لتطلقها حينا آخر. وأصبحت الأقلية المافيوزية المتحكمة في مقدّرات البلاد هي من توزّع غنائم السلطة بين الوكلاء السياسيّين المترشّحين لخدمة مصالحها.

أمام هذا الوضع المتعفن الذي أوصل البلاد إلى حافة الانهيار ووضعها تحت رحمة القوى الإمبريالية وأشدّ وكلائها الإقليميين رجعية على الثوريين التسلح بكل جرأتهم الثورية للاعتراف بأنّ تحقيق مطالب الشعب والثورة واستئناف المسار الثوري يمرّ عبر طريق واحد. هو طريق الإطاحة بهذا النظام البائس الغارق في الفساد باعتراف أجهزته نفسها ورسم ملامح النظام البديل القادر على استكمال مهام الثورة ووضع حدّ لمسار الالتفاف عن مطالبها وشعاراتها المركزية. وهو في تقديرنا “نظام الديموقراطية الشعبية” الذي لا يكتفي بتغيير شكل السلطة فحسب، بل يسعى إلى تفكيك جوهرها الطبقي وتمكين الشعب من السلطة الفعلية عبر تمكينه من تثوير علاقات الإنتاج في كافة القطاعات الاقتصادية وبسط سيادته على الثروات والمؤسسات الوطنية وتوجيهها لتحقيق مطالب الشعب التونسي في العدالة الاجتماعية والكرامة والسيادة الوطنية. وبالتالي وضع أسس الدولة الوطنية الديمقراطية ذات الأفق الاشتراكي.

إنّ استكمال مهام الثورة وتحقيق المهام الوطنية والديمقراطية الشعبية دون القضاء على العلاقات الاجتماعية الجائرة المتعلقة بتنظيم الإنتاج السائدة في بلادنا هو محض وهم ومطاردة للسراب. هذه هي الطريق التي يفتحها حزب العمال أمام الشعب التونسي وهي لا تشبه الطريق التي روّجت لها أجهزة الدعاية البورجوازية في الداخل والخارج كطريق تضلّلها زهور أشجار “ياسمين الربيع العربي” ليكتشف الشعب بعد سنوات قليلة أنها طريق تقود إلى مستنقع الفساد وانتهاك كرامة الوطن والشعب والتفقير والتدمير الممنهج لطموحات التونسيات والتونسيين. إنّ طريقنا “طريق وعرة، متعرجة، محفوفة بالمخاطر” تستوجب “بذل أكبر التضحيات أحيانا”. ولكن مهما بلغت جسامة تلك التضحيات فإنها لا تقارن بجسامة تواصل الانتظارية والاستسلام في مواجهة سياسات هذا الائتلاف الطبقي الغاشم الذي استنزف مقدّرات البلاد وأصبح يمثّل عائقا تاريخيا أمام التقدم والتحرّر لابدّ من إزاحته.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×