الرئيسية / أقلام / محمد الهادي حمدة: “ملاحظات حول مشروع قانون المصالحة الاقتصادية و المالية”
محمد الهادي حمدة: “ملاحظات حول مشروع قانون المصالحة الاقتصادية و المالية”

محمد الهادي حمدة: “ملاحظات حول مشروع قانون المصالحة الاقتصادية و المالية”

téléchargement (4)يثير مشروع قانون المصالحة الاقتصادية و المالية الذي قدمته رئاسة الجمهورية مؤخرا لمجلس نواب الشعب جدلا واسعا في الأوساط السياسية والحقوقية ويستأثر باهتمام كبير من قبل وسائل الاعلام لعدة اعتبارات لعل في مقدمتها مميزات الظرفية السياسية التي تعيشها البلاد لجهة بروز نوع من التنازع بشأن مسار العدالة الانتقالية وكذا الملامح السياسية والاجتماعية الخاصة للمستفيدين من مشروع القانون اذ أنه يستهدف جزءا مهما من القاعدة الاجتماعية للنظام السابق (البعض من كبار موظفي الدولة ورجال الأعمال) فضلا عن الصبغة الثانوية لهذا المشروع وتدني ترتيبه ضمن سلم الأولويات الرئاسية المفترض وذلك قياسا بالعناوين الرئيسية لجدول أعمال واهتمامات الرئاسة التي يغلب عليها الأمن القومي والسياسة الخارجية رغم تمتع الرئيس بالمبادرة التشريعية عملا بأحكام الدستور.

تبدو الحجة الاقتصادية التي اعتصم بها مقدمو القانون و المدافعون عنه جد متهافتة إذ من البلاهة بمكان الاعتقاد في توقف الانتعاشة الاقتصادية المنشودة لتحقيق معدلات نمو اقتصادي قادرة على حلحلة الوضع و الاستجابة للمطالب الاجتماعية المرفوعة توقّفها على مجموعة قليلة من الشخصيات التي كان لها دور متفاوت الأهمية في النظام السابق من خلال انتمائها لأرومة سياسية واقتصادية/اجتماعية واحدة معلومة نتاج خياراتها وكذا طبيعة أدائها، إذ الانتعاشة الاقتصادية حالة موضوعية هي محصلة جملة من العوامل لعل في مقدمتها درجة نقاء مناخ الاستثمار ودرجة شيوع الثقة في السياق السياسي والاجتماعي.

إن تدني الوجاهة في المحاججة الرئاسية بخصوص مشروع قانون المصالحة الاقتصادية والمالية في علاقة بالرهانات السياسية للمرحلة وتحديدا تعرجات المسار التونسي للعدالة الانتقالية الذي لا يزال يحتفظ ببعض البريق و الجاذبية  و الصبغة الفوقية للمشروع و تعويله فقط على النفوذ المعنوي للرئيس في غياب أي مشاورات معلنة مع العديد من الأطراف خارج الفريق السياسي الحاكم تفاديا للكثير من العتمة والابهام و الهمز و اللمز وغموض الأفق السياسي بل واصطباغه بالمغامرة كل ذلك يمثل جزءا من رؤية للمستقبل و لبنة في مسار الصراع على بناء المستقبل و تمهيدا للاستحقاقات القادمة ومسعى معلنا لغلق قوس السابع عشر من ديسمبر من سنة 2010 رغم ما ينطوي عليه من مخاطر تعمق الفجوة بين الأولويات الوطنية و الأولويات الحكومية و قد تكون بداية تشكل الأرضية السياسية والاجتماعية الصلبة للمعارضة.

ثلاث تساؤلات وجب على واضعي المشروع الإجابة عنها بقدر عال من الوضوح القانوني أولها و لتحقيق قدر من التوازن بين مسعى طمأنة المستفيدين الذي يشتغل عليه مشروع القانون و الشعور العام الذي يكتنف جزءا غير قليل من المجموعة الوطنية ماهي التدابير و الإجراءات والآليات التي يفترض أن يتضمنها المشروع و التي من وظيفتها طمأنة غير المستفيدين إن لم نقل المتضررين من المشروع من التونسيات والتونسيين و تهدئة مخاوفهم المشروعة واحتواء نزوعهم نحو اعتبار مشروع القانون مجرد تقديم شهادة رفع يد الثورة وزخمها الشعبي على الكثير ممن رفضوا شعاراتها و ناهضوها و ناصبوها العداء بل وتسببوا في خلق الكثير من أسبابها وعواملها؟ هل قدم هؤلاء للجهات الرسمية كل الحقيقة حول القيمة الفعلية لحجم استفادتهم من الطبيعة التسلطية لنظام الحكم وتباين درجة استفادة التونسيات والتونسيين من ناتج خياراته الاقتصادية والاجتماعية فئات وجهات إلى الحد الذي دفع الجموع الشعبية على طول البلاد و عرضها للخروج ضد بن علي ونظام حكمه وحمله على مغادرة البلاد في مشهد سيسجله تاريخ تونس المعاصر بحروف من دماء و دموع؟هل يذهب مشروع القانون لإلزامهم بتقديم جزء مما تطالبهم به المالية العمومية المنهكة في شكل تسبقة لإثبات حسن النية؟

ثاني التساؤلات يتعلق بالطبيعة السياسية الخاصة للهيئة القيادية للمصالحة الاقتصادية و المالية والتي تتضمن الكثير من الضحك على الذقون حينما تكون تحت التصرف الحكومي المباشر و كأن التونسيات والتونسيين لا يعرفون أن رئيس الحكومة عينه رئيس الدولة واضع المشروع وأن للحكومة سند نيابي يضمن لها تمريره رغم كل المصاعب وعليه فإن التساؤل بشأن الضمانات التي يقدمها مشروع القانون والتي تحول دون وقوعه تحت الأجندة السياسية المباشرة للسلطة التنفيذية برأسيها يصبح أمرا مشروعا و تبعا لذلك ما من شك أن انفتاح تركيبة لجنة المصالحة على كبريات الهيئات القضائية والمدنية والاجتماعية القائمة وخاصة تلك التي كان لها دور ريادي في الحوار الوطني و كذا رؤساء الكتل البرلمانية في أفق تمكين اللجنة من قدر مهم من التمثيلية والمصداقية سيكون له صدى يرفع من جدية المبادرة وينزع عنها ولو نسبيا حالة الأحادية السياسية. إن إعادة هيكلة لجنة المصالحة التي ينص عليها مشروع القانون بما يجعلها تضم أكثر من رأي ومن اجتهاد سيفتح الباب لتجسيم الوظيفة الرقابية للرأي العام الوطني على محتوى المشروع و يقطع الطريق على الاستئثار الحكومي بواحد من أهم الملفات السياسية التي يعيشها المسار الانتقالي التونسي حيث يتعلق الأمر بمسعى واضحا لاستعادة أداة مهمة من أدوات النفوذ في أفق معركة الاستحقاقات الانتخابية القادمة.

ثالث التساؤلات هو  ذاك الذي يتعلّق بالمستقبل و هو  يتمحور بالأساس حول التعهدات و الالتزامات التي يفترض بواضعي المشروع قطعها لضمان عدم تكرار ما وقع وهو ما لم يتضمنه المشروع لا من قريب و لا من بعيد ما يجعله أقرب لمنطق عفى الله عما سلف في إطار أجندة حزبية منه للاندراج ضمن فلسفة العدالة الانتقالية التي تنهض على أسس تصفية تركة الماضي لتجنب مآسيه وويلاته في المستقبل وتبعا لذلك وضع الأسس والقواعد القانونية الكفيلة بترتيب العلاقة بين الإدارة ورجال الأعمال سواء تعلق الأمر بالجباية أو الديوانة أو الصفقات العمومية أو التخصيص.

إن  تعمد عدم الالتزام بكشف حقيقة الاستفادة الاقتصادية و المالية من الطبيعة الاستبدادية للنظام السياسي السابق بخصوص المستفيدين من مشروع القانون وارتهان قيادة المصالحة الاقتصادية والمالية للأجندة السياسية للسلطة التنفيذية(اللجنة الحكومية) وتحللها من أي تعهد بإصلاح المؤسسات في أفق ضمان عدم تكرار ما وقع وهي خاصياته الثلاث  لا يجعل من مشروع قانون المصالحة الاقتصادية و المالية بوصفه نصا سياسيا بامتياز سوى آلية من آليات التحام الحزب الحاكم (المشروع لم تقدمه الحكومة بل رئيس الحزب الحاكم) بجزء غير بسيط من قاعدته الاجتماعية التي بقيت تحت ضغط الزخم الشعبي للمسار الثوري حيث المال و الخبرة في تصريف و إدارة أزمات و مآزق الإدارة جزء مهم من النفوذ السياسي ضمن رؤية تسعى تدريجيا لترتيب الفضاء السياسي في أفق ضمان سبل التفوق الانتخابي وفق كل الاحتمالات الممكنة.

إن القيمة السياسية المستقبلية لهذا المشروع و عائده الانتخابي في ميزان مصالح واضعيه و المدافعين عنه وصبغة المسارعة و التحدي التي اصطبغ بها هي التي تفسر  ردود الفعل الأولية العنيفة والمتشنجة على الموجات الأولى لرفض هذه المشروع وما من شك في أن إسقاطه سياسيا و برلمانيا يمر  وجوبا عبر الإطاحة الأخلاقية و القيمية به وفي مقابل ذلك لا تكفي الإدانة الأخلاقية والاحتكام للقيم الإيجابية التي تنعقد عليها الشخصية القاعدية للجمهور التونسي في رفض المشروع رفضا مطلقا و قد يكون إيديولوجيا، بل يفتَرض بالفاعل السياسي الرافض تفعيل المخيلة السياسية لابتداع مسار سياسي في مواجهة هذا المشروع قادر على احتواء إرادته السياسية من أجل تذويب طابعه الحزبي وتحييد أجندته السياسية إذ أن المستفيدين من مشروع المصالحة الاقتصادية والمالية في نهاية المطاف مواطنون تونسيون ليس هناك سياسي أو حقوقي عاقل ينوي رميهم في البحر.

           

محمد الهادي حمدة/ باردو في 04/09/2015

* ناشط سياسي وحقوقي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×