الرئيسية / أقلام / وليد التليلي: “سيرة ذاتيّة لمواطن”
وليد التليلي: “سيرة ذاتيّة لمواطن”

وليد التليلي: “سيرة ذاتيّة لمواطن”

أنا من أحياء محروقة ومظلمة، ومن قرى بعيدة جدّا: أبعد من الطّرقات المعبّدة ومن أنابيب المياه وخيوط الكهرباء، أنا من أماكن أخرى لا تعرفها الكاميرا، ولا يزورها المسؤولون رغم أنّها تنتمي أيضا إلى هذا الوطن.
عندما ولدت، كان الحبيب بورقيبة عجوزا ضعيفا، وكانت حاشيته تتقاتل طوال الوقت على السّلطة، أبي كان يخبرنا بهذه الأشياء ثمّ يقول بأنّهم سيذهبون كلّهم إلى مزبلة التّاريخ.

أنا لم أكن حتّى ذلك الزّمن أعرف التّاريخ، ولا أمّي أيضا كانت تعرف هذه الأشياء: وضعتني على جلد ذئب في المطبخ وسلّمتني إلى العالم. أوّل رائحة ميّزتها كانت حنّاء كعب أمّي المشقّق ثمّ سيجارة أبي ثمّ الخبز المجمّر في الطّابونة، أنا لست جون باتيست في فيلم العطر، أنا مواطن من هذه البلاد:
وُلدت في بيت حزين مازال يقيم الحداد على إخوتي الأربعة الذين ماتوا قبلي، لا تلفاز ولا راديو كاسيت ولا صور على الحائط…

كنت وحيدًا أبحث عن إخوتي في الكتب المدرسيّة القليلة التي تركوها، أكتب لهم كلّ يوم رسائل صغيرة عن الأشياء التي حدثت بعدهم ثمّ أتسلّى بانتظار إجاباتهم، كانت الأوراق تنفد بسرعة فأكتب لهم على حائط منزلنا، على جذوع الأشجار، على قشور الرّمان، على ساق معلّمة المدرسة، على صوت المؤذّن، على كلّ شيء…

الشّعراء يحبّون الورق كثيرًا، ويحبّون النّوم في غرف مليئة بالمسودّات المبعثرة كنوع من البريستيج، يحبّون جمع الكتب والمجلّدات أيضا، ويسألون عن شكل الكتاب ونوعيّة الطّباعة قبل العنوان… أمّا أنا، فإنّني أعترف: أنّ أجمل قصيدة قرأتها كانت على حائط متداعٍ في شارع لا تصل إليه لمبات البلديّة، كان ذلك في ديسمبر 2010، والقصيدة كانت قصيرة ومكثّفة وصريحة كابتسامة رضيع…

القصيدة هي: الشّعب يريد إسقاط النّظام

أنا المواطن البسيط الذي ينتمي أيضا إلى هذا الوطن، شعرت بسعادة لا حدّ لها حين قرأت تلك الكلمات، لأنّ نبوءة أبي قد تحقّقت أخيرا، ولأنّ إخوتي قد ردّوا أخيرًا على رسائلي التي كتبتها لهم منذ سنوات، وعرفت عندئذ أنّه كان لابدّ من شهداء يصعدون إلى السّماء كي يبلّغوا رسائلنا إلى أحبّتنا الذين يسكنون هناك. ومنذ ذلك اليوم قرّرت أن لا أتوقّف عن الكتابة.

رسالة اليوم هي: مازال الطّريق طويلا يا إخوتي، مزبلة التّاريخ لم تمتلئ بعد، والشّعب مازال يريد إسقاط النّظام.

tliliوليد التليلي

“حبل غسيل”: صوت الشعب// العدد 221

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×