الرئيسية / منظمات / أخبار / الرّيـــــــاء فــي زمـن الوبـــــــــاء
الرّيـــــــاء فــي زمـن الوبـــــــــاء

الرّيـــــــاء فــي زمـن الوبـــــــــاء

العديد من المقولات تمرّ من تحت أنف المرء دون أن يتمعّن في فحواها أو يتفطّن لما تحمله من مُغالطات وتناقضات، حتى إنّها لتبدو مثل البديهيات. ومثال ذلك ما يُسمّى زورا بالدّيْن العمومي، وهو مال تقترضه الدولة ويُسدّده عموم الشعب. غير أنّ المُستفيدين منه، هُم أساسا الطبقات الاجتماعية السائدة. تمعّن في مقولة المصلحة الوطنية وستتأكّد أنها لم تكن يوما مُرادفا لمصلحة الوطن. بل كانت دوما مُرادفا لمصلحة الطبقات المحظوظة. أمّا بخصوص موضوع الدولة، فمهما قلنا عنها فلن نوفيها حقها.

إلاّ أنّ الوعي الشعبي غير المُتحيّز كان على حقّ حين اكتشف الطابع الطبقي للدولة واختزله تلقائيا في عبارة “الحاكم مع الواقف”، وأراهن على أن لا أحد منكم قد شاهد يوما هِراوات البوليس تجلد ظهور رأسماليين أو قنابل الغاز تخنق أنفاسهم، بينما نفس المشهد -وهو مُدان في كلّ الأحوال-، أصبح مألوفا في كلّ أنحاء العالم، إذا ما تعلّق الأمر بقمع احتجاج شعبيّ أو إضراب طلّابي أو اعتصام نسائي.. وحتى إن امتدّت يد القضاء يوما إلى أحد أباطرة التّحايل والنّهب والاستغلال فعادة ما يكون ذلك من تداعيات صراع اللّوبيات وفي إطار تصفية الحسابات.

وهم الوحدة الوطنيّة

نأتي إلى مقولة الوحدة الوطنية. تلك العبارة الجميلة والأغنية المعروفة، العابرة للقارّات والتي تحضنها وتلوكها الطبقات السّائدة بلا حرج ولا حياء وذلك كلّما حدث أمر يُهدّد النظام الاجتماعي أو ينتقص من مكاسب حُماته، مثل الأزمات الاقتصادية الحادّة والكوارث الطبيعية أو عند وقوع عمليات إرهابية أو تهديد خارجي وشيك أو انتشار وباء مَكينٍ، مثلما هو واقع الحال.

فمع وباء الكورونا، أصبحت “الوحدة الوطنية” هي العبارة السّحرية التي يردّدها أصحاب القرار في كل أصقاع العالم، وطبعا لم يشذّ حكّام تونس عن القاعدة. وكيف لهم ذلك وهم التّرجمة السيّئة “لأسياد العالم”! وقد تعالت أصوات المسؤولين تنادي بالوحدة الوطنية وبالتكافل والتآزر والتطوّع والتبرّع. فبعد فترة من التردّد والتّخبّط والتلكّؤ وانتظار الضّوء الأخضر، اتّخذت السّلطات جملة من التدابير السخيّة لأصحاب المؤسّسات الاقتصادية والشّحيحة للفئات الشعبيّة واعتزمت تمرير قوانين وتنفيذ إجراءات تكمّم الأفواه وتبرّر الاستبداد.

صحيح أنّ فيروس “الكورونا” لا يُميّز بين الأجناس والشعوب والأعراق والأديان والطبقات، ومع ذلك فلسنا جميعا متساوون أمام الوباء، لأنّ عدم المساواة تكون أعمق في ظلّ الأزمات، ولأنّ الملايين من المهمّشين والحرفيّين والمعطّلين والعمّال والفلاّحين وكلّ المحرومين من التغطية الاجتماعية لن يقدروا على مواجهة “الكورونا” ولا على الالتزام بالحجر الصحي. هذا علاوة على الانعكاسات الكارثية للتدمير المُمنهج الذي تعرّض له القطاع العامّ وقطاع الصحّة العمومية على وجه الخصوص، كونه الملاذ الوحيد للفئات الشعبية.

يا لهم من أشقياء! يُنادون بالوحدة الوطنية في ظلّ لا مساواةٍ سافرةٍ ووضع مأساويّ واقتصاد مشلول، يتجرّؤون على فرض الإقامة الجبريّة على الملايين ولا يتجرّؤون على فرض ضريبة على أصحاب الثروات الكبرى والمؤسّسات المالية والمساحات التجارية ولا يُقْدِمون على تسخير القطاع الخاص، على الأقلّ في مجال الصحّة والتموين والسياحة وصناعة الأدوية ومستلزمات الوقاية، لم تراودهم فكرة المطالبة بتعليق تسديد الديون الخارجية، بل واصلوا التملّق الذليل ليغرقوا البلاد أكثر في كابوس المديونية.

 لا يستحون، يُنادون بالوحدة الوطنية وفي أعلى هرم السلطة يتقاتلون ويفسحون المجال لانتشار الورع المزيف والشعبويّة ولازدهار التوظيف السياسي (تبرّعات رئيس الدولة ورئيس البرلمان مثالا)، التوظيف الديني (وزير الصحّة مثالا) والدعاية والاشهار (بعض المتبرّعين من رجال الأعمال مثالا).

 يا للصفاقة! ينادون بالوحدة الوطنية والحال أنهم يتخبّطون في مواجهة الوباء الذي ينتشر، والحال أنّ الأسعار تشتعل والبطالة متفشّية وسُبل الرّزق معدومة ومستلزمات الوقاية محدودة وأجهزة العناية المُركّزة منقوصة، والحال أنّ الحجر الصّحي الناجع سيطول وسيُوقع الناس في البؤس والخصاصة وفي براثن الشكّ والتشاؤم والتوتّر والتّساؤل وانعدام اليقين والخوف من المجهول والقلق والهلع والشّلل الذهني والسّأم والضّجر والملل والرِّهاب والوسواس والتديّن، حتى من باب الاحتياط…الخ. وبالمُحصّلة المحتومة سيلجأ الكثيرون إلى عدم الإذعان للحجر الصحي التامّ وسيلقون بأنفسهم للتّهلكة وللانتحار. هذا الوضع يُولّد العنف والتمرّد و ُينبئ بتفاقم الجريمة ومخاطر الإرهاب وزيادة استهلاك المُسكِرات والمخدّرات وربّما سيصل الأمر إلى الاقتتال على الدواء والغذاء.

شروط الوحدة الوطنيّة الحقيقيّة

إنّ المُناداة بالوحدة الوطنية على شاكلة ما تطرحه السّلطة، هو استغلال الأخلاقية في سبيل أهداف لا أخلاقية، هو توظيف المصائب لجني الفوائد. إنّ الوحدة الوطنية ليست ضرورية فحسب، بل هي ممكنة كذلك، لكن بشروط:

* يجب أن تخدم الوحدة الوطنية مصالح أغلبيّة أبناء الشعب، لا مصلحة فئة أو طبقة بعينها.

* يجب أن يتحمّل أصحاب الثروات المتضخِّمة والمؤسسات الكبرى، القسط الأكبر من تكاليف المِحنة، يجب عليهم أن يكفُّوا عن اللؤم وعن المطالبة بالمزيد من الامتيازات المالية والتسهيلات القانونية، فقد نالوا منها القدر الكبير والشيء الكثير.

* لا معنى للوحدة الوطنية إذا لم تُعزّز استقلال القرار الوطني، أو إذا أدّت إلى الاستهتار بالسيادة الوطنية.

* في هذه الأزمة بالذات، يجب أن يُعامل بعضنا البعض بالحيطة والاحتياط لا بالرّيبة والارتياب، يجب أن نعامل المرضى بالرّفق والمحبّة لا بالنّفور والإقصاء.

* لا تُعفي الوحدة الوطنية من مساءلة ومحاسبة المسؤولين عن تدمير قطاع الصحة العمومية والمتسبّبين في تهجير كفاءاتنا الطبّيّة وعلى ترك الملايين عاجزين عن إدراك متطلبات العيش الكريم..

* الوحدة الوطنية الأصيلة تُبنى على قاعدة الثقة بين المواطن ومؤسّسات الدولة، وما عدا ذلك فهو تلبيس وتزييف.

ماهر الزعق

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×