الرئيسية / صوت الوطن / تجّار الحروب وصناعة السياسة
تجّار الحروب وصناعة السياسة

تجّار الحروب وصناعة السياسة

حتى نهاية النصف الأوّل من القرن العشرين كان أثرياء الأزمات وتجّار الحروب لا ينخرطون بصفة مباشرة في عالم السياسة، إذ عادة ما يكون لهم عملاء ومتعاونون محترفون ينشطون في الفضاء السّياسي الواسع، يمرّرون بطرق شيطانية ذكيّة مشاريعهم وقوانينهم لخدمة مصالح تجّار الحروب وأثريائها دون أن يتفطّن العوامّ وأغلب النُّخب إلى وجودهم وراء العمولات والملايين التي تُدفع لتمرير تلك القوانين والسّياسات…

تواصل هذا الصّنف من الفساد بشكلٍ سرّيٍّ مع محاولات تقنين وتشريع عمل هؤلاء التجار، فظهرت شبكات المخابرات وتوسّعت اختصاصاتها وشعبها وتشعّباتها، وظهرت الشركات الأمنية والعسكريّة الخاصة وارتبطت بشركات صنع السّلاح ومافيات المخدّرات وتبييض الاموال، وطالت الشّبهات حتّى أقسام من منظمات المجتمع المدني وبعض منظمات الإغاثة التي ارتبطت بالفساد والإثراء غير المشروع …الخ، وما يمكن أن تصنعه من سيناريوهات حروب نووية أو بيولوجية ممّا يؤثر على السياسات الحكومية وعلى العلاقات الدولية ويوجّه سياسات الدّول لخدمة هذه الشبكات (المثال العراقي وهو الأوضح، والمثال الليبي وبعض الدّراسات حول دور القناصة في تونس…)

منذ بداية العشرية الأخيرة من القرن العشرين ومع تواتر أزمات الرأسمالية العالمية وخُفوت وهج الصّراعات الايديولوجية التقليديّة ، تدعّمت نزعات جديدة همجيّة / سوقيّة في أغلبها تكوينا وممارسة، وأصبح لها نفوذٌ قويّ في عالم المال والسياسة :

الولايات المتّحدة الأمريكيّة رائدة البلطجة

توجّه تقوده الولايات المتحدة والمحافظين الجدد ومنظّريهم الذين فتحوا أبواب المقدس للاستثمار السياسي، وما نتج عن هذا التوجّه في المركز، من تدعّم مكانة كنتونات الرِّيع النفطي هنا في عالم الجنوب وخاصة في الخليج العربي (قطر ومملكة آل سعود) وتفريخهم وتمويلهم لكلّ أشكال التنظيمات الارهابية التي لا تزال تعمل على السّيطرة والتوسّع ..الخ.

لقد تكفّلت بعض حكومات هذه البلدان بلعب كل الأدوار القذرة لفائدة الموجة الجديدة من رجال السّياسة منعدمي الثقافة ومحترفي المال والأعمال، مقابل ضمانات لتواصل حكم شيوخ النفط ونسلهم العليل.

أنجب هذا التوجّه في الولايات المتحدة نظام حكم شعبويّ دشّنه بوش الإبن وتوضّحت ملامحه مع ترامب الذي عمّق الأزمة السياسية والأخلاقية حتى داخل المجتمع الأمريكي (رئيس عنصريّ متعجرف يُخضِع العلاقات الدولية لنوع من بلطجيّة العصابات القوية التي تشتري كل شيء بالمال وتُعاقب بالمال والتّجويع والقتل على شاكلة عصابات المافيا …).
وقد فرّخ هذا النهج الشعبويّ أنظمةً هجينة انقلابيّة في البرازيل وبوليفيا، وتسعى حكومة ترامب إلى توسيع الرّقعة لتشمل حديقتها الخلفيّة في أمريكا اللّاتينية، ومحاولات الانقلاب على حكومة فينزويلا البوليفاريّة خير مثال.

تراجع النموذج السياسي الكلاسيكي الأوربي

بالتزامن تقريبا مع ما حدث في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، تراجع دور محترفي السياسة وسقطت الأحزاب الكلاسيكية في الانتخابات المحلّية والبرلمانية والرئاسية في فرنسا التي صعد فيها إلى سدّة الرئاسة موظّف سام مغمور في وسط السياسة كان ينتمي إلى عالم المال والأعمال، فصنعته آلة إعلامية مشبوهة استهلكت مئات المليارات لتهيّء له المنصب فيكون أمينا في الدّفاع عن مصالح كبار الرأسماليين (تحركات السترات الصفر التي قمعت بالحديد والنار وبالإلهاء الإعلامي الخاضع لنفوذ سلطة رأس المال، وكذلك بداية التحركات الرافضة لقانون التقاعد الجديد قبيل اتّساع دائرة وباء كورونا).

صناعة النّموذج التابع

في البلدان التابعة، توجد ثلاثة نماذج متشابهة ومتقاربة جاءت كلها بتخطيطات وبرؤى خارجية مرتكزة على ظروف وأزمات داخلية، وهذه الامثلة أو النماذج هي :

* العراق الذي أصبحت تحكمه زمرة المَلالي ورجال الدّين القادمين على ظهور الدبابات الأمريكية وعمّدتهم مخابرات آيات الله الإيرانية، وهم اليوم عصابات من العملاء المزدوجين يخرّبون المجتمع والاقتصاد العراقيّ بزرع الفِتنة والاعتماد على المليشيات في حكْمِ ونَهْب الثروات الوطنية في أكثر مشاهدِ الفساد وُضوحا وحِمايةً من القوى العظمى.
* ليبيا المُنقسمة بين النفوذ القطري التّركي، ممثّلا في حكومة السراج من جهة، وفي الجهة المقابلة ما يُعرف بالجيش الوطني اللّيبي بقيادة المشير خليفة حفتر الذي يتحرّك بدعم مصري إماراتي، وكلا الطّرفين يعتمدان على مليشيات تنهب الثروة النّفطية وتهمّش المجتمع ومكانة الدولة الليبية …
* سوريا المشهد فيها معقّد، تلتقي فيه الامبرياليّة العالمية الباحثة عن تدعيم نفوذها بالاعتماد على النّعرات العِرْقية التقليدية وعصابات الإرهاب وكذلك القوى الإقليمية وأذرعها الميلشويّة المُعتمدة أساسا على الدّين سواء تلك التّابعة لأنظمة الخليج المنقسمة على نفسها، وتركيا، أو التابعة لإيران والمرتبطة بالنّظام القائم في سوريا.

جمال اليوسفي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×