الرئيسية / صوت الوطن / سيناريوهات العنف المحتملة في صراع أقطاب الحكم الحالي
سيناريوهات العنف المحتملة في صراع أقطاب الحكم الحالي

سيناريوهات العنف المحتملة في صراع أقطاب الحكم الحالي

جيلاني الهمامي

أكثر من مؤشر يبعث على الاعتقاد بأنّ المتخاصمين في القمة، قيس سعيد من جهة وحركة النهضة والمشيشي من جهة أخرى، قد انتقلا من إدارة الصراع بالآليات السياسية والقانونية المعهودة حتى الآن إلى الإعداد لحسمه وإن بشكل عنيف إذا اقتضى الأمر ذلك. فكلاهما أيقن على ما يبدو أنّ الآليات المؤسساتية والقانونية لم تعد تجدي نفعا وأنّ حسم الصراع بواسطتها بات صعبا إن لم نقل مستحيلا في ضوء تكافؤ موازين القوى وفي أقل الأحوال سيتطلب وقتا طويلا وطويلا جدا. ويبدو أنّ الرئيس قيس سعيد غير مستعد لمزيد الانتظار فهو على عجلة من أمره ويريد حسم الأمر في أقرب وقت ممكن. أما حركة النهضة ولئن لا تبدي نفس الاستعجال فإنها اضطرت في الأيام الأخيرة إلى استعمال نفس الأسلحة والكشف عن وجه كم حاولت إخفاءه طوال المدة الماضية محاولة اللعب على نغمة “التوافق” والظهور في مظهر الطرف “المتعقل” “الحكيم” “الحريص على مصلحة البلاد ووحدة مؤسسات الدولة”.

لقد بات واضحا أنّ تعديل موازين القوى، في منظور كل منهما، عبر إعادة رسم حدود الصلاحيات والوظائف أو عبر إرساء المحكمة الدستورية أو تسمية الأنصار والأتباع ما عاد يكفي ولا يجدي نفعا في تصفية الحساب. فالأمر أصبح يتطلب آليات جديدة لإدارة الصراع وأدوات غير الأدوات المعتمدة حتى الآن لحسمه. هذه هي الأسباب الحقيقية للتحول السريع من خطاب التلميح وبث الرسائل المشفرة إلى لغة التهديد الصريح واستعمال معجم حربي غير مألوف في خطاب كليهما. فبعض الأبواب لا يمكن فتحها إلاّ بالاقتحام.

لذلك يجدر فعلا، في ضوء التطورات الأخيرة (خطاب قيس سعيد وردود فعل النهضة من الجهة المقابلة في المدة الفائتة) أن نتساءل إلى أين يتجه الصراع بين الطرفين؟ وما هي دلالات الخطاب الحاد من الجانبين؟ هل هو مجرد توتر سياسي أم هو مقدمات لمواجهة قادمة بأسلوب جديد؟

لنستعرض المؤشرات على ما نقول.
سارع المشيشي يوم 17 أفريل بإحياء العيد الوطني لقوات الأمن الداخلي وتوسيم عدد من الإطارات الأمنية في خطوة استباقية لتأكيد سيادته على وزارة الداخلية لا فقط بصفته وزير الداخلية وإنما خصوصا بصفته رئيس الحكومة. فردّ عليه قيس سعيد بعد يوم بموكب انتظم يوم 18 أفريل ليعلن فيه ولأول مرة رأيه بخصوص إعادة اقتسام مناطق النفوذ في أجهزة الدولة وضم الأجهزة الأمنية بصفتها جزء من القوات الحاملة للسلاح إلى حوزته. وقدّم للتدليل على أحقيته في ذلك تأويله للدستور والقوانين ذات الصلة بالمؤسسة الأمنية.

معلوم أنه في الجهة المقابلة يتشبث المشيشي بالبقاء على رأس وزارة الداخلية إلى جانب خطته كرئيس حكومة، الأمر الذي خوّل له إجراء تحويرات وتسمية وجوه، بعضها منحاز إليه والبعض الآخر خدمة لحركة النهضة. ليست المرة الأولى التي تجد المؤسسة الأمنية نفسها موضع تجاذب بين أطراف في الحكم خاصة منذ مجيء حركة النهضة للحكم. غير أنّ ما يحصل بشأنها الآن تجاوز حدود المساعي المعروفة لزرع الأنصار لاختراق مصالح هذه المؤسسة إلى مستوى آخر يتعلق بالتحضير لتوظيف هذه المؤسسة في صراع حاد ليس فقط من أجل السيطرة على وزارة الداخلية وإنما للسيطرة على كل مواقع النفوذ في الحكم.

من جانب آخر استمرّ قيس سعيد بمناسبة إحياء عيد قوات الأمن الداخلي، في استعمال “صواريخه” الكلامية وتهديداته ضد خصومه وفي اتهامهم بـ”القذف والثلب والكذب والافتراء” مثلما قال والتلويح بـ”تطبيق القانون على الجميع دون استثناء لا بالمال ولا بالعلاقات مع الخارج ولا بالمصاهرة ولا بالنسب، فليكن هذا واضح منذ اليوم”. الجديد في خطابه هذه المرة هو التصعيد في نبرة التهديد والإشارة إلى اقتراب ساعة تصفية الحساب معلنا “أقولها للجميع اليوم صبر وغد أمر” مضيفا في لغة “حربية” وبنبرة حانقة “لا نقبل إلاّ بالانتصار أو بالاستشهاد” حتى وإن استدرك لاحقا “ليس هناك سيوف تخرج من أغمادها”.

إنه “إعلان حرب” صريح لم تتوان حركة النهضة عن الردّ عليه بنفس النبرة وباستعمال ذات المعجم. إذ حذّر رئيس مجلس الشورى الهاروني من السلاح الذي يكدّسه الرئيس في القصر موحيا بكون قيس سعيد بصدد تكديس الأسلحة استعدادا للمواجهة المسلحة. ويفهم من ردّه أيضا أنه يحاول بشكل استباقي تسجيل الحجة على أنّ الرئيس هو السباق لإشعال فتيل المواجهة العنيفة (حتى لا نقول الحرب الأهلية) في صورة ما آلت الأوضاع إلى مثل هذا المآل. كما يمكن أن يُفهم من هذا الرد التمهيد لإيجاد مبررات لحركة النهضة إذا ما فكرت هي الأخرى في الاستعداد للمواجهات العنيفة فهي في نهاية المطاف مضطرة إلى ذلك ومن موقع دفاعي والمسؤولية كل المسؤولية يتحملها الرئيس الذي بادر بـ «تكديس الأسلحة في القصر”.

هذا التصعيد من الجانبين مفهوم وكان يمكن أن يقع التعاطي معه على أنه تصعيد سياسي في إطار الأزمة التي تعصف بمنظومة الحكم منذ بعيد انتخابات خريف 2019. ولكنّ نوعية الخطاب الجديد تحمل في طياتها نوايا جديدة. فكما سبق قوله ضاق صدر المتخاصمين باستمرار الصراع دون أمل في حسمه قريبا. ولا يستبعد أن تكون بعض القوى الأجنبية وراء هذا التصعيد بالتحريض واستحثاث هجوم هذا الطرف أو ذاك في النزاع على الطرف المقابل. فالقوى الأجنبية ذات المصلحة في تونس (أصحاب المصالح التقليدية مثل فرنسا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الامريكية ودول الخليج أو أصحاب المصلحة الجدد نسبيا مثل تركيا) ليسوا مرتاحين لمسار تطور الأحداث في تونس. هذا التطور الذي يمكن أن يغذي شهية بعض الأوساط الاستعمارية اليمينية المتشددة للزج بالبلاد في حرب أهلية من اجل الإسراع بإعادة توزيع الأوراق ووضع تونس في مدار مخططاتها السياسية للمنطقة العربية التي تتهيأ لسيناريوهات جديدة في ليبيا وسوريا وسيناريوهات أخرى منها ما يحاك في غرف التخطيط الامبريالي المظلمة للجزائر الشقيقة.

لقد انتقل الصراع الدائر بين قطبي الحكم، قيس سعيد من جهة والمشيشي وحركة النهضة من جهة ثانية، إلى طور جديد يختلف من حيث خطابه وآليات إدارته ونوايا كل منهما في كيفية حسمه مستقبلا. وستكشف لنا الأشهر، وربما الأيام، القادمة عن تفاصيل استعدادات طرفي النزاع وطبيعة الأسلحة التي أعدّها كل منهما. أسلحة بالمعنى الحقيقي للكلمة. التطورات الأخيرة وتحديدا منذ خطاب الرئيس قيس سعيد يوم 18 أفريل الماضي في موكب الاحتفال بالعيد الوطني لقوات الأمن الداخلي أعطت الإشارة رسميا لانطلاق هذا الطور الجديد الذي يتوقع أن تتحول المعارك فيه من معارك سياسية إلى أشكال “اقتتال” بلا شفقة ولا رحمة من هذا الجانب وذاك.
وتؤكّد التحركات الأخيرة لكلا الطرفين أنّ الاستعداد للمرحلة القادمة، مرحلة الحسم، بات هو العامل الرئيسي الذي يملي على كل منهما أجندته وأولويات تحركاته. فبالنسبة إلى قيس سعيد يمثل بسط سلطته على “القوات المسلحة” العسكرية منها والمدنية وخاصة المدنية أي الشرطة والديوانة والحماية المدنية وحرس الغابات وكل من يحمل السلاح في نطاق عمله أولوية الأولويات. لذلك كرّر أواخر شهر رمضان زيارته لوزارة الداخلية يوم 9 ماي الجاري في غياب المكلف بها، أي المشيشي، والجلوس إلى كوادر الوزارة وكبار ضباطها الذين توجه إليهم بنبرة تحريضية بما يفهم من كلامه “التمرد” على مسؤوليهم. وقد ردت حركة النهضة بشكل شبه رسمي (تدوينة صهر رئيس الحركة بوشلاكة وماهر مذيوب النائب في البرلمان) بدعوة ” الأهالي والشباب الحيوي للتجند في الميدان لخدمة الناس…”. من جهته سارع الغنوشي إلى زيارة قطر في إطار جولة قيل إنها ستشمل عددا من البلدان الأخرى لم يكشف عن أسمائها. وبقيت هذه الزيارة موضوع جدل لم يهدأ بعد بخصوص أسبابها ونتائجها.

وكما هو ملاحظ مازال كل منهما يسعى وينوع مناوراته بغاية حشد أكثر المعطيات لصالحه من أجل تحسين موازين القوى في المعركة وتوفير أفضل عوامل الانتصار فيها. فكل منهما يسعى بكل ما لديه من طاقة إلى أن يكون قوسه مهيأة حتى وإن أجّل إطلاق السهم كما يقول المثل. لذلك علينا في الأيام القادمة أن نواكب بأكثر اهتمام هذا الوجه الصارخ من صراع أقطاب الحكم وفي الأزمة السياسية بشكل عام. والمفروض ان تنتبه القوى السياسية للخطر الذي يحدق بالبلاد وبالحياة السياسية والحياة العامة في المرحلة القادمة جرّاء هذا التصعيد. بل ربما يكون من أوكد واجباتها فضح هذا الإعداد التدريجي لأجواء العنف وربما الاقتتال الأهلي.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×