الرئيسية / صوت الوطن / تجريم التطبيع بين شعبية المطلب وشعبوية التعاطي
تجريم التطبيع بين شعبية المطلب وشعبوية التعاطي

تجريم التطبيع بين شعبية المطلب وشعبوية التعاطي

علي الجلولي

مازال شعبنا في كل التحركات التي تنتظم منذ يوم 7 أكتوبر الجاري يطالب بإصدار قانون لتجريم التطبيع. ولهذا المطلب حكاية طويلة في تاريخ نضال شعبنا وقواه التقدمية سواء بعد الثورة أو قبلها. وهذا المطلب وإن بدا للوهلة الأولى مطلبًا بسيطا ومُمكنا بحكم الإجماع الحاصل حوله، فإنّ الحقيقة مخالفة لذلك تماما. فالمطلب لم يحصل حوله إجماع القوى السياسية، ورفضته كل الحكومات المتعاقبة بعد الثورة، كما أنّ الموضوع برمّته كان من قبيل “المحرّمات” التي فرضتها الدكتاتورية، ووحدهم الأحرار كانوا يكسرونها ويتجرّؤون برفع الصوت ضدّ كل أشكال التطبيع الرسمي منه وغير الرسمي والتي كانت تتسلّل في بعض الأوساط الاقتصادية والأكاديمية والرّياضية والفنّية.

1- التطبيع قبل الثورة
من المعلوم أنّ النظام التونسي أقام علاقات رسمية مع الكيان الصهيوني لأول مرة سنة 1994 بفتح مكتب اتصال في “تل أبيب” وفي العاصمة تونس (بنزل الهيلتون). وقد استمرّ هذا الشكل من “التعامل الدبلوماسي” إلى سنة 2002 حين تمّ إغلاق المكتبين على خلفيّة “مجزرة الأقصى” بعد اجتماع الجامعة العربية بالقاهرة. لقد كانت العلاقات الرسمية طيلة سنوات أقرب إلى السرّية، ولم يكن نظام بن علي يتجرّأ على تمرير ولو خبرٍ عابرٍ في نشرات الأنباء عن نشاط مكتبيْ الاتصال أو عن تنامي العلاقات الاقتصادية والتجارية والسياحية الرسمية أو عن العلاقات غير الرسمية التي مسّت خاصة بعض الأوساط الأكاديمية والثقافية.
ولم يكن التكتّم على الموضوع من جهة السلطة فقط، نظرا لحساسية القضية الفلسطينيّة عند عموم الشعب، بل جنحت أغلب القوى السياسية إلى الخوف من طرح الموضوع عدا قلّة قليلة من القوى، من بينها حزب العمال الذي كتب حول الموضوع في جرائده وبياناته وصدحت به حناجر مناضلاته ومناضليه في الجامعة وفي الوسط الحقوقي والنقابي. ولم تكن العرائض التي نُشِرت في تلك السنوات للمطالبة بغلق مكتبي الاتصال في تونس وتل أبيب تحظى بالإقبال نظرا للخوف الذي استوطن وضرب عديد الأوساط. وقد قوبِلت دعوة رئيس الوزراء الصهيوني الإرهابي “شارون” لحضور “قمة المعلومات” التي انتظمت في بلادنا في أكتوبر 2005 بمعارضة قويّة وتصدّت لها القوى التقدمية بالفضح والتشهير من ذلك إضراب قطاعي التعليم الأساسي والثانوي يوم 5 أكتوبر الذي يصادف ذكرى “اليوم العالمي للمربّي”.
وقد تواصل النضال ضد النظام الدستوري إلى حدّ إسقاطه في جانفي 2011، وكانت إحدى نقاط معارضته والتناقض معه هي تبعيّته وتطبيعه مع العدو الصهيوني سواء بشكل علنيٍّ أو خاصة سرّيٍّ.

2- تجريم التطبيع أثناء وبعد الثورة
لقد رفعت الثورة المطالب السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية العميقة للشعب التونسي، والتي لخّصتها في شعار “الشعب يريد إسقاط النظام”. ولكن الشّبيبة المنتفضة لم تغفل عن رفع شعار “الشّعب يريد تحرير فلسطين” الذي دوّى أكثر من مرّة في أكثر من مكان من المُدن والقرى الثائرة. وفي هذا الشعار أكثر من دلالة ومعنى، فالتّرابط بين المسألة الوطنية والمسألتين الاجتماعية والديمقراطية هو ترابط عضوي ومصيري. وأنّ تحرير الوطن من الاستبداد والفساد لن يتحقق من دون كنس الاستعمار بكل أشكاله؛ الاستعمار غير المباشر المسلّط على وطننا، وأشكال الاستعمار الأخرى بما فيها المباشر المُسلّط على الوطن العربي وفي القلب منه فلسطين التي لا حرّية للوطن الكبير من دون تحررها الكامل والناجز.
ولما تمّ إسقاط رأس النظام العميل والمطبّع، عبّر شعبنا أكثر من مرة في مختلف تحرّكاته عن انتصاره غير المشروط لفلسطين قضيّةً وشعبًا. وبمناسبة انتخابات المجلس الوطني التأسيسي طرح حزب العمال ضرورة التّنصيص على تجريم التطبيع في الدستور الجديد، دستور الثورة التونسية المظفرة. لكن نتائج الانتخابات لم تكن لصالح الخيار الوطني الشعبي، إذ فازت القوى الظلامية والليبرالية بأغلبية المقاعد ورفضت بقوّةٍ اعتماد فصل في الدستور يجرّم التطبيع وينتصر إلى فلسطين، لكن تحت الضغط الذي مارسته الجماهير بعد اغتيال الشهيدين شكري بلعيد ومحمد البراهمي تم فرض التنصيص على مساندة القضية الفلسطينية في ديباجة الدستور. وبما أنّ ذلك لم يكن ليحقّق ما كانت الجماهير الشعبية تطرحه لسدّ الباب أمام التطبيع الذي أصبح يتنامى في محيطنا المغاربي والعربي، تقدّمت “الجبهة الشعبية” بمشروع قانون من سبعة فصول لتجريم كل أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني، وهو المشروع الذي تصدّت له بكلّ قوة وصلفٍ كتلتيْ حركة النهضة وحركة نداء تونس المتحالِفتين والمُشكّلتان للحكومة. لقد وصل الأمر بحركة النهضة أن قالت أن الفلسطينيّين وحركة حماس تحديدا وإسماعيل هنية تخصيصا “طلب منهم عدم السقوط في هذا الخطأ”، ليبقى مشروع القانون حبيس الرّفوف ولم يتمّ تمريره حتى إلى اللّجنة المختصّة للتداول فيه، فقد كانت أغلبية مكتب مجلس النواب موالية للحزبين.
وللعلم فإنّ كل الأحزاب أصبحت تتكلّم عن تجريم التطبيع بمناسبة الحملات الانتخابية والمظاهرات التي تتمّ تزامنًا مع الجرائم الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني. لقد اقتنع جزء هام من الجماهير الشّعبية أن الارتباطات التي تربط حركتي النهضة والنداء وقفت حائلا دون تمرير هذا القانون، وهو ما سهّل تنامي مظاهر التطبيع المُعلن منه والخفيّ. لقد ارتبط الحكّام الجدد، مثلهم مثل الحكام القدامى، بنفس المنظومة الامبريالية التي تحكم العالم والمنطقة والبلاد في خياراتها الأساسية الاقتصادية والاجتماعية، لذلك لم تجرؤ أحزاب الحكم على إصدار قانون تجريم التطبيع، إلى أن جاء قيس سعيد الذي غنم جزء من تصويت التونسيّين بجملته الشهيرة “التطبيع خيانة عظمى”، لكن هل تعوّض هذه الجملة مطلب تجريم التطبيع؟

3- قيس سعيد والتطبيع
روّجت عديد الأوساط الانتهازية ومحدودة الأفق أنّ قيس سعيد سينتصر بجملته الانتخابية إلى القضية الفلسطينية. لكن الأيام والأشهر والسّنوات مرّت ولم يصدر ما يوقف نزيف التطبيع الذي تزايد حجمه كمًّا ونوعا، فرغم الجمل الرنانة شاهد التونسيون بأمّ عينهم وزير الدفاع يجلس قبالة وزير الحرب الذي يقتّل شعب فلسطين في اجتماعٍ لحلف النّاتو حول الحرب الأوكرانية ـ الروسية. كما شاهدوا رئيسة الحكومة “بودن” تتبادل ابتسامات المجاملة مع هرتزيغ رئيس دولة الكيان المحتل، كما شاهدوا بأمّ أعينهم طوابير الصّهاينة في مطار جربة قادمين في إطار خطٍّ جويٍّ مباشر من تل أبيب، وهو أمرٌ يحدث لأول مرة في تاريخ تونس رغم تطبيع نظام بن علي وقبوله للصهاينة في أرض تونس.
أما عن قانون تجريم التطبيع فقد تمّ تهميش المطلب وتمييعه وصرّح سعيد أكثر من مرّة أنّ فلسطين ليست في حاجة لقانون يجرّم التطبيع وأنّ القضية أكبر من مجرّد قانون. كل ذلك للتفصّي من إصدار التزامات قانونية صريحة تتصدّى لنزيف ينخر المنطقة بتوجيهٍ وتعليماتٍ من الامبريالية وعلى رأسها الولايات المتحدة في إطار رؤيتها لحاضر ومستقبل المنطقة التي يجب أن يكون الكيان المحتلّ “جزءً أصيلا وأصليّا فيها” كما تهدف خطة “الشرق الأوسط الجديد” الأمريكية.
لقد تلاعبت الشعبوية وأنصارها وحاولت مثلما فعلت الأنظمة القوميّة سابقا احتكار القضية الفلسطينيّة، لا كقضية مبدئيّة بل كأصلٍ تجاريٍّ, لكن تسارع الأحداث والهجوم الصهيوني النازي الذي شنّ حرب إبادة فعلية ضدّ الشعب الفلسطيني خاصة في قطاع غزة الصّامد، كشف الأزمة وأسقط الأقنعة بأنّ النظام لا سلاح لديه سوى الجُمل ولا شيء غير الجمل. لكن هبّة الجماهير التي أعادت بإصرارٍ شعار “الشعب يريد تجريم التطبيع” فرضت على برلمان الدُّمى استجلاب مشروع قانونٍ قدّمته إحدى الكتل منذ شهر جويلية المنقضي وحدّدت له موعدا أوليًّا ليوم الإثنين 30 أكتوبر للتداول في المشروع من قبل اللّجنة المختصة، لكن “بودربالة” غيَّر الموعد دون استشارة حتّى مكتب المجلس. ويبدو أنّ المشروع سيُعرض لبداية النقاش يوم 2 نوفمبر الذي يصادف ذكرى “وعد بلفور”، وهناك تخوّفات جدّية يتداولها أنصار القضية الفلسطينية من أن يتمّ التلاعب بالقانون وتتفيهه مثل اعتبار جريمة التطبيع تنحصر في زيارة الأراضي المحتلّة فحسب، في حين أنّ أغلب ممارسات التطبيع تتمّ خارج تلك الأراضي، كما أنها تتمّ في أطُرٍ علميّة وثقافية واقتصادية وتجارية مباشرة وغير مباشرة.

4ـ لماذا يجب تجريم التطبيع؟
نحن نعتبر أنّ الحد الأدنى المطلوب من قوى الحرية في العالم بأكمله هو مساندة الشعب الفلسطيني ومناهضة الاحتلال الاستيطاني الاستئصالي، ويتمّ ذلك بمقاطعة هذا الكيان المحتلّ وإحداث كلّ الفراغ المُمكن حوله وحول سياساته وإيديولوجيته واقتصاده وثقافته…الخ. لقد كانت المقاطعة أحد أهمّ أشكال الإسناد والدّعم التي اعتمدتها الشعوب والقوى التقدمية في العالم ضدّ نظام الميْز العنصري في جنوب إفريقيا حتى انهياره وسقوطه، وكانت المقاطعة أحد أهمّ أسلحة الدعم للثورة الجزائرية ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي. لقد دعت قوى الحرية إلى تجريم التعاطي والتعامل مع الدول الاستعمارية انتصارًا للشعوب المستعمَرة والمضطهَدة. واليوم وفي ظلّ اختلال موازين القوى لغير صالح الشعوب وقوى التحرّر والانعتاق، وفي ظلّ التّكالب الامبريالي الصّهيوني المسنود بأنظمة العمالة والخيانة التي وصلت درجة غير مسبوقة في الانخراط في مشروع تدمير المنطقة والتحكم فيها حاضرا ومستقبلا بِرَهْن خيراتها ومقدّراتها ومستقبل شعوبها، بات لزاما علينا النضال دون كللٍ وعلى طول الوطن العربي وعرضه من أجل تجريم التطبيع حتى لا تلتحق أنظمة أخرى بقافلة التطبيع. فالجميع يعلم حجم الضّغط الذي يسلّط على الدّولة التونسية إقليميًّا ودوليًّا من أجل الانخراط في التّطبيع الرّسمي الذي تتواصل مؤشّراته الاقتصادية والتجارية ويتمّ العمل على فرض التطبيع السّياسي الذي لا ترى بعض الأوساط التابعة أيّ حرج فيه، بل تدافع عنه بكل الوسائل بما فيها أخبثها الذي يعتمد لغة الحوار والتسامح وعدم معاداة السامية…، بل وصل الأمر بالبعض حدّ اعتبار أعمال المقاومة أعمالا إرهابية.
إنّ إصدار قانون واضحٍ لتجريم التطبيع من شأنه المساهمة في محاصرة الأنشطة التطبيعية، ومن شأنه دعم القضية الفلسطينية والمقاومة الوطنية الباسلة خاصة في مثل هذا الظرف الدّقيق الذي يتنادى فيه مصّاصو الدماء لمزيد التدمير والتقتيل. إنّ الحد الأدنى الذي يمكن من خلاله مخاطبة شعب فلسطين وأطفالها وعجائزها وحرائرها وأبطالها هو إصدار قانونٍ لتجريم كلّ أشكال التطبيع مع العدو الصهيوني واعتبار هذا الكيان كيانا استعماريا عنصريا نازيا وعدوًّا للشعب التونسي بنفس القدر مع الشعب الفلسطيني.
إنّ شعبنا لن يرضى بأقلّ من هذا القانون بالتوازي مع بقيّة المطالب التي تهمّ إيقاف العدوان وطرد سفراء دول العدوان والضّغط من أجل فتح المعابر وإيصال المساعدات العاجلة. إنّ شعبنا سيكون يقِظًا حتى لا يتمّ التلاعب بمطلبٍ عادل مثلما تمّ التلاعب بملفّات ومطالب أخرى اجتماعية واقتصادية وسياسية.

علي الجلّولي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×