الرئيسية / صوت العالم / وعادت الشعبوية إلى أمريكا الجنوبية من بوابة الارجنتين
وعادت الشعبوية إلى أمريكا الجنوبية من بوابة الارجنتين

وعادت الشعبوية إلى أمريكا الجنوبية من بوابة الارجنتين

جيلاني الهمامي

باحت صناديق الاقتراع في الأرجنتين يوم الأحد الماضي 19 نوفمبر الجاري بأسرارها وتم الإعلان عن انتخاب اليميني المتطرف الشعبوي خافير ميلاي رئيسا جديدا للأرجنتين. حصل ذلك فعلا رغم أنّ الدور الأول (22 أكتوبر الماضي) كان منح لخصمه وزير الاقتصاد في الحكومة المتخلية زعيم التحالف “الاتحاد من أجل الوطن” سارجيو ماصا أسبقية بستة نقاط (36%). وحتى أيام قليلة من موعد الحسم بقيت الحظوظ متقاربة مع تفوق طفيف لسارجيو ماصا الذي كسب جولات المواجهات المباشرة بينهما.
ويبدو أنّ ميلا حدث لدى الجزء المتردد من الناخبين والذين كان عددهم يزيد عن عشرة ملايين من أصل 37 مليون ناخب هو الذي حسم الأمر في آخر لحظة ليفوز الشعبوي المتطرف خافير ميلاي بنسبة 55،59 % وهو فوز ساحق لم يكن متوقعا لدى كل المتابعين للسباق الرئاسي في الأرجنتين. لقد اختارت الأرجنتين رئيسها للسنوات الأربع القادمة الذي كما صرح إثر انتخابه قائلا “لقد انتهى النموذج الطبقي الفقير، واليوم نعتمد نموذج الحرية، لنصبح قوة عالمية مرة أخرى”. بنفس الكلمات تقريبا سارع الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب إلى تهنئته بالقول “أنا فخور بك سوف تحول بلدك وتجعل الأرجنتين دولة عظيمة مرة أخرى”. أما الشعبوي الآخر، الرئيس البرازيلي السابق فقد أبرق إليه “الأمل يشع مرة أخرى في أمريكا الجنوبية”.
كثيرة هي الأسئلة التي صاحبت بروز هذا الشعبوي الجديد وأثارها فوزه بالرئاسية وهو الذي يعد جديدا على عالم السياسة. فخافير ميلاي هذا ذو الـ 53 سنة جاء قبل فترة قليلة لهذا العالم المتقلب في هذا البلد الذي يعيش أزمة اقتصادية خانقة والذي عاد مجددا ليركع تحت “جزمة” صندوق النقد الدولي. كان أول عهد بالسياسة يوم أصبح عضوا بالبرلمان نائبا عن منطقة العاصمة بيونس إيرس. وقد صعد للبرلمان سنة 2021 تحت شعار “تحيا الحرية، اللعنة “vive la liberté, bordel” بعد أن أقنع أوساطا واسعة “سألتحق بمجلس المختلسين لأخوض المعركة ضدهم من الداخل”. ومن ذلك الوقت كثف من حضوره الإعلامي ليخلق لنفسه صورة متفردة ومميزة عن باقي السياسيين حتى بات يعرف بمن يسب ويشتم ولا يتوانى عن الاعتداء عمن يعارضه في الحوارات التلفزية. وبصورة موازية لذلك ابتدع “المدارس الاقتصادية في الأحياء الشعبية” حيث يقدم دروسا في الاقتصاد السياسي مجانا هذه المدارس التي سرعان ما أصبحت أداة ذات فعالية عجيبة في استقطاب آلاف الشبان.
غير أنّ السبب الحقيقي في صعود نجمه كان في البرنامج الذي تقدم به بكل “جرأة” وقوة. ويتمحور هذا البرنامج في الليبرالية المطلقة إذ أنّ الدولة ينبغي، حسب برنامجه، أن ينحصر دورها في رعاية الأمن وفقط. فهو يعتنق الليبرالية التي يرى فيها “معركة ثقافية” ويعتبر نفسه ميناركيا “minarchiste”. ولم يخف في برنامجه أنه في صورة انتخابه رئيسا للبلاد سيستبدل العملة المحلية “البيزو” بالدولار الأمريكي في المعاملات الداخلية. الأغرب من ذلك أنه ينوي إلغاء البنك المركزي الذي يحمله مسؤولية التضخم في البلاد. كما وعد بتقنين زواج المثليين والسماح بالاتجار بالمخدرات بشكل قانوني وهو يعتبر أنّ بيع الأعضاء هو معاملة تجارية بالتراضي لا تطرح إشكالا بالمرة وأن الإجهاض قضية حقوق ملكية وحرية في التصرف فيها.
بمثل هذا البرنامج صعد خافير ميلاي للرئاسة في الأرجنتين واحد من أكبر وأهم بادان أمريكا الجنوبية بعد البرازيل.
السؤال المطروح هو إلى أيّ مدى سيكون وفيا لهذا البرنامج وهل سيتمسك به فعلا ويعمل به؟ لكن السؤال الذي ربما ينبغي طرحه قبل ذلك هو لماذا يلقى مثل هذا البرنامج قبولا لدى الجماهير فيما نراها تنفر البرنامج الاشتراكي الذي يتضمن فعلا كل الحلول الاقتصادية والاجتماعية والحضارية؟ هل لأنّ الاشتراكية قد تجاوزها الزمن كمقاربة ومنهج أم لأنّ الذين يمثلونها ويلهجون باسمها فقدوا القدرة على الإقناع بها؟
لقد أكدت أزمة 2008 أنّ الاشتراكية التي ذهب في ظن الأجيال الجديدة تحت وقع القصف الدعائي البرجوازي قد فشلت وانتهت صلوحيتها مازالت تمثل الحل القويم والأسلم للمجتمع الإنساني المعاصر. كل ما في الأمر أنّ معتنقي هذه النظرية العظيمة لم يمتلكوا بعد الأهلية العلمية والعملية لإثبات تفوقها وإقناع الناس بالسير في سياقها.
نقول هذا لأنفسنا قبل أن نوجهه لغيرنا بطبيعة الحال ولكننا على يقين أنّ النهوض من الكبوة التاريخية الكبرى مسألة وقت لا أكثر.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×