الرئيسية / الافتتاحية / الأمية في تونس، معضلة تأبى التأجيل
الأمية في تونس، معضلة تأبى التأجيل

الأمية في تونس، معضلة تأبى التأجيل

في الثامن من الشهر الجاري، وبمناسبة الاحتفال باليوم العربي لمحو الأمية، بشّر السيد وزير الشؤون الاجتماعية الشعب التونسي ببلوغ عدد الأميين ببلادنا حدود المليونين من التونسيات والتونسيين، وهو رقم مفزع، ما كنا نتصوّر بلوغه في يوم من الأيام. والمفزع أكثر أن الخبر الذي تداوله عدد قليل من الصحف والمواقع الإخبارية، يبدو وكأنه مرّ مرور الكرام، وكأنه خبر عادي، وهو الخبر الذي كان من المفروض أن يحدث رجّة في أوساط التونسيين، وأن ينبّههم إلى مدى عمق الهاوية التي تسير نحوها البلاد.
فتونس التي راهنت منذ رحيل جيوش الاستعمار على التعليم وجعلت منه الشغل الشاغل لكل التونسيين بتعميمه وجعله إلزاميا لكل الأطفال في سنّ التمدرس، وخصّصت له الجزء الأكبر من ميزانية الدولة لفترة طويلة، حتى أنها خلقت علاقة عجيبة بين المدرسة والشعب، فراحت تشيّد المدارس في أقصى أقاصي البلاد حتى لا يُحرم أيّ طفل من حقه المقدّس في التعليم، وراح بعض التونسيين يتبرّعون بما لديهم من مساكن شاغرة لتحويلها إلى مدارس، والبعض الآخر يساعد بجهده، فيتطوّع لبناء قاعات الدرس في الفيافي والأرياف، إلى أن بلغت نسبة التمدرس أرقاما جعلتنا نتقدم أشواطا على مثيلاتنا من البلدان. وكانت هذه النهضة من حيث المنجز الكمي تواكبها عناية فائقة بنوعية التعليم المقدّم.
وفي ظلّ تلك الهبّة، تمّ إقرار برامج خاصة لتعليم الكبار، أولئك الذين حرمهم المستعمر من حقهم في التعليم، فانتشرت في ربوع البلاد أقسام لمحو الأمية كان يؤمها من تجاوزوا سنّ الدراسة النظامية. وإن لم يكن ذلك التعليم ليفتح لهم أبواب الارتقاء المهني، فإنه كان يجلي عليهم غشاوة الأمية، وكان الكثير منهم سعداء بتمكّنهم من قراءة رسالة تأتيهم من ابن بعيد أو من الردّ عليها، حتى أصبحت الرغبة في التعلّم تحدو أعدادا متزايدة من التونسيين والتونسيات.
إلا أن هذا الزخم سيشهد توقفا أو تراجعا مع هيمنة السياسات النيولبرالية التي لم يعد للإنسان مكانة فيها. فلم نعد نسمع عن برامج محو الأمية إلا الشعارات الرنانة مثل “الاستراتيجية الوطنية لمحو الأمية وتعليم الكبار”، و”التعلم مدى الحياة” و”مدرسة الفرصة الثانية” وغيرها من الدعايات الجوفاء. لكن الواقع كان أكثر عنادا وإيلاما، إذ ما انفكت أعداد الأمّيين تزداد عاما بعد عام، تضاف إليهم جحافل المنقطعين عن التعليم في سنّ مبكرة والذين لا يلبثون الارتداد إلى الأمية لهشاشة ما تلقوه على كراسي الدراسة. وهو ما أحدث تغييرا عميقا في تركيبة الأمّية التي أصبحت ظاهرة شبابية بامتياز بعدما كانت تعني المسنّين.
ويصعب إقناع هؤلاء الشبان بالانخراط في منظومات محو الأمية لعدم جاذبيتها وعدم قدرتها على فتح أبواب الشغل أمامهم، خاصة وأن تقهقر الأنظمة التعليمية في تونس بات يدفع بآلاف الخريجين إلى البطالة بسبب نقص التكوين وعدم قدرتهم على الحصول على وظائف. لكن بعد أكثر من عقدين من تنفيذ البرامج المذكورة أعلاه، تبيّن أن الأمية اتخذت منحى تصاعديا يفوق النسبة المعلن عليها منذ سنوات أي نسبة 17.7% التي نص عليها المسح الوطني الذي أنجزته وزارة الشؤون الاجتماعية بالتعاون مع البنك الدولي سنة 2019، خاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار الآثار الذي خلفها وباء كورونا على أنظمة التعليم والتكوين لا في تونس فحسب بل في كل أنحاء العالم.
لذا نعتقد أنه قد آن الأوان للكف عن التعامل مع هذه المسألة بالشعارات وبالارتجال الذي طبع السياسات المتعاقبة، وبالتشغيل الهش للقائمين عليها وبالميزانيات الهزيلة، بل اعتبارها كما وصّفها أحد الخبراء الذي قال : “لا نبالغ في شيء اليوم إن قلنا إن بلادنا تجلس على قنبلة موقوتة قوامها حوالى 2 مليون أمية وأمي، وهو عدد مرشح للتزايد بنسب كبيرة، إذ ما زالت مدرستنا العمومية تلحظ تسرّب ما يزيد على 100 ألف منقطع سنوياً، فضلاً عن حالات الأمية المقنعة، إذ يصل أكثر من 80 % من تلاميذنا اليوم إلى نهاية التعليم الأساسي من دون امتلاك الحد الأدنى من المهارات القرائية، وهو ما أكده وزير التربية منذ أيام قليلة”.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×