الرئيسية / عربي / المفاوضات بين الكيان الصّهيوني والمقاومة: لكلّ حساباته من أجل تحسين شروط التّفاوض
المفاوضات بين الكيان الصّهيوني والمقاومة: لكلّ حساباته من أجل تحسين شروط التّفاوض

المفاوضات بين الكيان الصّهيوني والمقاومة: لكلّ حساباته من أجل تحسين شروط التّفاوض

بقلم جيلاني الهمامي

فيما يتواصل العدوان العسكري الغاشم على غزة مخلّفا يوميا مئات من الشهداء والمصابين وكثيرا من الخراب المادي في مستوى البنية الأساسية والمباني والمرافق العامة عاد الحديث من جديد عن المفاوضات بين الكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية بوساطة أمريكية مصرية قطرية ويأخذ حيزا أكبر فأكبر ليشدّ إليه هذه الأيام اهتمام الرأي العام العربي والعالمي.

الحرب والمفاوضات وجهان لمعركة واحدة

تدخل الحرب عمّا قريب شهرها السادس مخلّفة حصيلة ثقيلة في الأرواح والبنى الأساسية والبنايات. وهي حصيلة غير متكافئة من الجانبين. ففي الجانب الفلسطيني أكثر من 100 ألف مدني فلسطيني ذهبوا ضحية هذا العدوان إمّا شهداء (حوالي 30 ألف) أو مصابين عدا المفقودين الذين قضوا تحت الأنقاض. أمّا في الجانب الصهيوني فإنّ عدد القتلى يرتفع إلى أكثر من ألفي عسكري بين جنود وضباط وإلى أكثر من ستة آلاف جريح. ومن المرجّح أن يكون العدد أكبر بالنّظر إلى التكتّم الذي يمارسه الكيان الصهيوني على حقيقة خسائره العسكرية في هذه المعركة. ومع ذلك مازال الوحش الصهيوني متعطشا لمزيد من الدم تحرّكه روح الانتقام من الإهانة التي ألحقتها به المقاومة يوم 7 أكتوبر الماضي. لذلك يصرّ جانب من قادة الكيان على المضيّ في الحرب التي رغم مضيّ أكثر من أربعة أشهر ولم يتحقق من أهدافها شيء. فلا هم تمكنوا من القضاء على حماس ولا من إزاحتها من السلطة في القطاع ولا استطاعوا تحرير الأسرى وباءت كلّ محاولاتهم بالفشل حتى بات من باب المسلّم به أن لا تحرير للأسرى إلاّ عبر صفقة مع المقاومة.

لكنّ الاعتراف بهذه الحقيقة متفاوت في صفوف القادة السياسيّين – سواء كانوا في الحكم أو في المعارضة – والعسكريين الصهاينة. لقد حصلت القناعة لدى جناح منهم أنّ سقف الأهداف المرفوع قد بات في ضوء حقائق الميدان مستحيل التحقق وعليه بات من الضروري إيلاء الأولوية لعقد صفقة تبادل الأسرى والقبول بالتنازلات التي يستوجبها الأمر ومراجعة استراتيجية التعاطي مع المقاومة الفلسطينية وحركة حماس بالتحديد وذلك باستبدال شعار القضاء عليها عبر الحرب باحتوائها بأشكال أخرى.

من الجهة المقابلة يستمر الجناح الآخر، وهو الجناح اليميني المتطرف بزعامة نتنياهو، الماسك بمقاليد النفوذ في الحكومة والجيش الصهيونيين، في التعويل على المضي في الحرب ما لم تتحقق الأهداف المرفوعة رغم الكلفة المادية والعسكرية الباهظة التي يتكبّدها كل يوم.

ما انفكت الفجوة بين المقاربتين تتسع حتى دب الخلاف إلى صفوف الكيان الصهيوني، دولة ومجتمعا ومؤسسات، بل وإلى صفوف الائتلاف الحزبي الحاكم وبين الكيان والإمبريالية الأمريكية التي تتصرف في هذه المعركة، كما في الصراع الفلسطيني الصهيوني عامة، كطرف مباشر.

في الأثناء دخلت عوامل أخرى لتمارس ضغوطا كبيرة على الجناح الصهيوني الدموي يستغلها الجناح الخصم في محاولة منه لفرض رأيه ومقاربته. تتلخص هذه العوامل في الأزمة الاقتصادية والمالية (آخر مظاهرها التصنيفات الدولية للاقتصاد الصهيوني وأهم مؤسساته) من ناحية والأوضاع الاجتماعية الناجمة عن إجلاء مئات الآلاف من سكان مستوطنات الشمال المحاذية للحدود مع لبنان وسكان مستوطنات غلاف غزة من ناحية أخرى واحتجاجات عائلات الأسرى الذين حوّلوا مطلب التعجيل بعقد صفقة تبادل أسرى مع حماس إلى مطلب رائج جدا في المجتمع الصهيوني. في المقابل من ذلك يتأكد كلّ يوم أكثر أنّ أفق تحقيق النصرمن وجهة نظر نتنياهو ومن معه ليس بالأمر القريب، وإن كُتب له أن يحصل فسيتطلّب ذلك وقتا طويلا جدا وخسائر من غير المتأكد أن يقبل بها المجتمع الصهيوني ولا الرأي العام الدولي ولا حلفاؤه وداعموه. وعلى العكس من ذلك اتّضح وأنّ المقاومة مازالت تمتلك العديد من الأوراق السياسية والميدانية التي من شأنها أن تتحكم في عامل الزمن وأن تنقل الأزمة النفسية إلى صفوف العدو.

في مثل هذه المناخات يتّخذ مخرج المفاوضات لدى كل الأطراف، الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني والمقاومة الفلسطينية وعموم خط المقاومة في المنطقة والرجعيات العربية بما فيها سلطة عباس على حدّ السواء أهمية بالغة في الظرف الراهن، كلّ في إطار مقاربته الخاصة وفي علاقة بمصالحه.

نتنياهو: التّصعيد لتحسين شروط التّفاوض

لا يمانع نتنياهو في المشاركة في المفاوضات الجارية الآن برعاية أمريكية وبوساطة مصر وقطر، وقد كلّف لهذا الغرض رؤساء الموساد والشاباك وممثل عن المؤسسة العسكرية الصهيونية لتمثيل الكيان ومستشاره السياسي كعين رقيب عمّا يمكن أن يحصل في المفاوضات. بصورة موازية لذلك أعلن مرارا وتكرارا أن لا حلّ لتحرير الأسرى إلاّ عبر العملية العسكرية التي يتباهى كذبا بأنها تتقدم بنجاح. ويلتقي في هذا الموقف مع وزير الدفاع في حكومته غالنتومع حلفائه من أقصى اليمين الصهيوني الديني سموتريتش وبن غفير. وقام في الأيام الأخيرة بحملة دعائية للحملة العسكرية على مدينة رفح جنوب القطاع حيت يتكدس أكثر من مليون ونصف نازح فلسطيني. بل وذهب إلى المصادقة على خطة احتياطية لإجلاء المدنيّين تمهيدا لعملية عسكرية وشيكة في حال ما لم تتقدم المفاوضات.

يدرك نتنياهو حقيقة المصاعب الاقتصادية التي ستعصف بحكومته كما يدرك خطورة مأزق الحرب في غزة وتبعاته السلبية على الكيان الصهيوني وأيضا تراجع شعبيته واتساع رقعة المعارضة لسياساته وطريقته في إدارة المعركة كما يدرك حالة الإنهاك التي بات عليها الجيش علاوة على المصاعب التي تعترضه في التزوّد بالأسلحة وقطع الغيار (قرارات ألمانيا وإيطاليا وفرنسا ومقاطعة كاتالونيا في إسبانيا ومقاطعة والوني في بلجيكا الخ…) إلى جانب عزلة الكيان على المستوى الدولي. ولكنه ومع ذلك يجد نفسه مجبرا على المكابرة والاستمرار في التصعيد فذلك هو سبيله الوحيد للخلاص. فأيّ تنازل من جانبه سيكلفه تفكك تحالفه الحكومي وبالتالي سقوط حكومته والذهاب إلى انتخابات مبكّرة بات جزء مهمّ من الرأي العام داخل الكيان ينادي بها. وهو مدرك أيضا أنّ حظوظه في الانتخابات القادمة ضعيفة وبالتالي عليه مواجهة ملفات الفساد المرفوعة في وجهه والتي ستودي به إلى السجن. فقضية الاستمرار في الحرب تحكمها مصالح شخصية بحتة يحاول نتنياهو أن يحمّلها شحنة سياسية ومعنوية لتعبئة الجيش والرأي العام وراءه.

وفي باب المراوغة فإنّ نتنياهو إذ يَقبل بالذهاب إلى المفاوضات فإنه يمارس أشدّ الضغوط تحت عنوان عدم الرضوخ لشروط حماسلحصر عملية التفاوض في تبادل الأسرى فقط (3 أسرى فلسطينيّين مقابل كل أسير صهيوني في الجولة الماضية وقبوله بالترفيع في العدد إلى 13 أسير فلسطيني مقابل أسير صهيوني في الجولة الحالية). وقد طوّر في الأيام الأخير مقولة المفاوضات المسؤولةوالتي ضِمنه بدأ بتقديم تنازلات من قبيل القبول بعودة النازحين لكن بشكل محدود ومتدرّج فيما كان موقفه في الجولة الماضية ينصّ على إعادة النظرفي عودتهم. صحيح أنّ نتنياهو مازال مصرّا على عدم القبول بأحد شروط المقاومة وهو الاتفاق على الانسحاب الكلي للجيش الصهيوني من القطاعوالاستمرار في التلويح باجتياح مدينة رفح رغم معارضة العالم كله تقريبا بما في ذلك الإمبرياليات الغربية أمريكا وألمانيا وفرنسا وغيرهم. والواضح أنّ ربط المفاوضات باستمرار العدوان (خاصة على رفح) الغاية منه هو الضغط على حماس للقبول برؤيته وبالتالي تحسين شروط التفاوض لتحقيق مكاسب لم يقدر على تحقيقها بالعدوان العسكري الوحشي.

ولكن وبالنظر إلى جملة الإكراهات التي يعيشها الكيان الصهيوني والتي ستتّخذ أبعادا أقوى وأشدّ مع استمرار الحرب في غزة لأشهر أخرى ومع اقتراب شهر رمضان فإنّ نتنياهو الذي يناور مستعملا ورقة رفحأَمْيل إلى اللّجوء إلى التفاوض أكثر منه لمواصلة الحرب. وهو مجبر على ترويض حلفائه في الائتلاف الحكومي (غالنت وسموتريتش وبن غفير) لحماية هذا التحالف من السقوط وحماية نفسه ومصيره السياسي ومجبر أيضا على توخّي التدرّج من حيث الوقت وفي مراجعة سقف أهدافه لملاءمة الموقف مع معطيات الميدان.

الجناح الصّهيوني الآخر: مزيدا من الضّغط على أمل

مازالت المعارضة (من خارج الحكومة بقيادة لبيد) مثلها مثل حركة عائلات الأسرى لم تتوصّل بعد إلى ترجيح موازين القوى لصالحها رغم النقاط المهمّة التي سجّلتها على حساب نتنياهو وحكومة في علاقة بملف الأسرى خاصة. ومردّ ذلك هو فشلها في خلق حركة قوية قادرة على إجبار نتنياهو على القبول بمقاربتها في التعاطي مع الحرب ومع حماس والعلاقة بغزة. كما يتأتّى ذلك أيضا من فشل الضغط الذي مورس على الحكومة في خلق تصدّع داخلها وتفجير التحالف اليميني المتطرف الذي تقوم عليه. حتى ما يمكن اعتباره معارضة داخل حكومة الحرب، أي بني غانتسوغادي ايزنكوت، فقد بدت في المدّة الأخيرة كأنما سلّمت أمرها لنتنياهو الذي لا يتوانى عن تغييبهما في أخذ القرارات سواء المتصلة بالحرب أو بالمفاوضات. وتمثل حركة عائلات الأسرى أهم فعالية ميدانية للضغط على حكومة الحرب وتحاول المعارضة من خارج الحكومة ومن داخلها الاستفادة من الطاقة التعبوية لهذه الحركة خصوصا بعد قرارها بتنظيم مسيرة لمدة أربعة أيام من غزة إلى القدس.

ولئن لم تجن المعارضة الآن مكاسب ذات بال فإنها في الحقيقة بصدد المراكمة لتحقيق انتصارات على نتنياهو على المدى المتوسط وربما حتى مباشرة بعد انتهاء الحرب. وقد جاء في استطلاعات الرأي في الكيان الصهيوني أنّ المعارضة بشكل عام وبني غانتس قد كسبا نقاط مهمة على حساب تحالف اليمين وعلى نتنياهو شخصيا. والأكيد أنّ المعارضة ستستمر في الضغط من أجل فرض رؤيتها. وسواء حققت هذا الهدف أم لا فإنها في كلّ الأحوال ستلعب دورا مهما في الإطاحة بنتنياهو وتحالف اليمين. ولا يجب أن ننسى الدور الذي ستلعبه الإدارة الأمريكية والحزب الديمقراطي الأمريكي تحديدا في دعم مساعي هذا الجناح للتخلص من نتنياهو الذي لا يحظى بمطلق الرضا من جهة إدارة بايدن.

الولايات المتّحدة الأمريكيّة: خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء

وقفت الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب حرب الإبادة الجماعية بشكل مفضوح. بل تصرفت منذ الأيام الأولى للحرب كشريك سياسي وعسكري ميداني وإعلامي واقتصادي ومالي. وقد جلب لها هذا الموقف سخط أوساط واسعة من الشباب الأمريكي على المستوى المحلي وانتقادات شديدة في المحافل الدولية. وخسرت إدارة بايدن حوالي نصف حظوظها من نوايا التصويت خاصة في أوساط الشباب. وشعر بايدن مرشح الرئاسة الأمريكية موفّى العام الجاري بالخطر خصوصا بعد صعود أسهم خصمه الأساسي دونالد ترمب العائد بقوة. لذلك حاول بايدن في المدة الأخيرة إجراء بعض الروتوشعلى سياسته الخارجية في الشرق الأوسط وفي الحرب على غزة تحديدا.

إنّ تركيز بايدن على الزيادة في حجم المساعدات الإنسانية والتكثيف منها وإحياء حل الدولتينوالذهاب إلى التلويح بالاعتراف بدولة فلسطينية (دولة منزوعة السلاح والسيادة) وإعلان هدنة إنسانية لفترة زمنية طويلة نسبيا كلها عناصر من مناورة كبرى تستهدف قضية الشعب الفلسطيني. فهذه المواقف التي قد تظهر مغرية في ظاهرها لا تمسّ في شيء حقيقة الموقف الأمريكي من فلسطين وإسرائيل“. إنّ ثوابت الموقف الأمريكي وأساسا أن لا دولة من البحر إلى النهر غير دولة إسرائيلوألاّ تراجع عن الاستيطان ولا سبيل لعودة المهجّرين ولا مجال للمساس بأمن الكيان الصهيوني، كل هذه الثوابت لم يتزحزح عنها بايدن قيد أنملة بل أكثر من ذلك مازالت إدارته تعارض وقف إطلاق النار رغم ما حصل من جرائم إبادة ومن دمار ورغم كل المساعي الدولية لإيقاف المجزرة (قرار محكمة العدل الدولية الخ…). على العكس من ذلك مازال يصرّ على استصدار قرار من مجلس النواب والشيوخ يقضي بالموافقة على مساعدات جديدة للكيان الصهيوني وآلته الحربية.

لكنّ تكثيف بايدن ووزير خارجيته من الدعاية لمناورتهم وللطبخة التي هم بصدد إعدادها لـغزة في اليوم التاليأثارت حفيظة قادة الكيان الصهيوني الذين مارسوا على بلينكن في زيارته الأخيرة إلى المنطقة ضغوطات كبيرة لحمله على مراجعة موقفه وتعديل أوتار فريق بايدن. وقد نجحوا في ذلك حيث بدا واضحا أنّ الخطاب الأمريكي قد عاد من جديد إلى التمسك بالاستمرار في الحرب حتى القضاء على حماسوالتمسك بعدم وقف إطلاق النار.

في كلمة يواجه بايدن ضغوطات مزدوجة وفي اتجاهات متناقضة فهو من جهة مطالب بمسايرة المزاج الشعبي أو قل المزاج الانتخابي الأمريكي وخاصة في أوساط الشباب والجاليات العربية والإسلامية لتحسين حظوظه الانتخابية قبل أقلّ من عشرة أشهر على الانتخابات الرئاسية. ومن جهة أخرى مطالب بمسايرة اليمين الصهيوني وحربه الإجرامية على غزة والعمل كلّ العمل من أجل ضمان دعم اللوبي الصهيوني المتنفذ في أوساط المال والأعمال في أمريكا ويحظى بقوة عظمى في توجيه الرأي العام الانتخابي في أمريكا. ويمكن القول إنه، أي بايدن، قد نجح حتى الآن في التوفيق بين هذه المتناقضات ولكنه يخشى مع تقدم الزمن واقتراب تاريخ الاقتراع في أمريكا من أن تدور عجلة الأمور في الاتجاه الذي لا يشتهيه. لذلك نراه يحاول الاستعانة بالأنظمة الرجعية العربية لتمرير صفقة هدنة بين المقاومة والكيان الصهيوني المحتل يجني منها هذا الأخير أكثر ما يمكن من المكاسب للتعويض عمّا لحقه من خسائر سياسية وعسكرية ومعنوية لم يسبق له أن خسرها.

الرّجعيّات العربيّة: أخلاق الخدم

يمثل الخذلان العربي لشعب غزة واحدا من الأسباب التي شجعت وتشجع العدو على التصرف بكل هذه البربرية والوحشية. الأدهى والأمر هو أنّ الأنظمة العربية المطبّعة مع الكيان لم تتخذ مواقف ترقى إلى الموقف جنوب افريقي أو بوليفيا واقتصر موقفها على دعوة السفير الصهيوني وما إلى ذلك من الإجراءات الديبلوماسية التي لا تلبّي الحد الأدنى ممّا يمليه الموقف والوضع. ويتجسد التطبيع في الاتصالات الحثيثة مع رموز الكيان الصهيوني ومسؤولي أجهزة الاستعلامات الصهيونية (الموساد والشاباك) في القاهرة والدوحة وباريس وبرلين وغيرها والتنسيق من أجل صياغة صفقات تبادل الأسرى وأحيانا ممارسة ذات الضغوط من أجل تليين مطالب واقتراحات المقاومة. وقد كشفت الأخبار عن بعض الاتصالات السرية التي جرت أحيانا من أجل إعداد طبخة ما لصالح الكيان الصهيوني وكشف بعض قادة الكيان عن ذلك وعن بعض المفاهمات السرية مثل الاتّفاق الحاصل على ضرورة تصفية حركة حماس باعتبارها خطرا لا فقط على الكيان المحتل بل وكذلك على الأنظمة الرجعية في البلدان العربية المحيطة بفلسطين المحتلة.

إلى جانب ذلك فتحت السعودية أراضيها لتكون معبرا لعبور السّلع من الإمارات العربية باتجاه مواني جنوب فلسطين المحتلة وذلك بعد أن عطّلت صواريخ الحوثيين في اليمن مرور البواخر إلى ميناء أم الرشراش (ايلات) جنوب الكيان الصهيوني. وعادت الاتصالات السرية من جديد بين الكيان الصهيوني والسعودية آخرها لقاء وزير الصناعة الصهيوني بنظيره السعودي على هامش مؤتمر تستضيفه أبو ظبي. ولا يمكن أن ننسى مشاركة الإمارات والبحرين في الهجمات الجوية للولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا على اليمن.

وجرت اتصالات معلنة وسرية كثيرة للتشاور حول وضع غزة في اليوم التالي للحربوفي هذا الصدد نشط رئيس السلطة الفلسطينية عباس وقام ببعض الزيارات في المنطقة إلى جانب لقاءاته مع المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين الذين زاروا المنطقة للمساهمة في بلورة تصور مستقبل قطاع غزة بعد الحرب. وكان عبّر منذ البداية عن استعداده للقيام بالمهمة التي سيطلبها منه الأمريكان والصهاينة وهي تولّي السلطة في قطاع غزة خلفا لحماس وفق المخطط الأمريكي الصهيوني. وفي إطار مفاهماته مع أمريكا وشيوخ الخليج وكتمهيد لما يسمّى خطة إصلاح السلطة الفلسطينّيةقدّمت حكومة الضفة استقالتها في انتظار تعليمات جديدة.

ومن جهة أخرى شاركت مصر والأردن في الحصار المضروب على غزة وعموم فلسطين المحتلة وأغلقت المعابر في وجه البضائع والسلع والمؤن في وقت كان الشعب الفلسطيني يعيش في العراء وفي حاجة أكثر من ماسّة إلى أبسط مواد التغذية وإلى الماء الصالح للشرب والأدوية. ومازالت هذه المعابر تحت رقابة الصهاينة، الجيش ومجموعات المستوطنين، الذين يتحكّمون في تدفّق شحنات المساعدات ويمنعونها تماما عن شمال القطاع.

وفي الأوضاع الحالية والحرب جارية على جنوب القطاع بالتركيز على مدينة خان يونس، وفيما يجري الإعداد لهجوم محتمل على مدينة رفح حيث يتجمع أكثر من مليون ونصف من النازحين تجري في الكواليس اتصالات ومشاورات حول كيفية تصفية المقاومة وسبل القضاء على حماس تماما كما يطلب بايدن ونتنياهو. كما تجري الضغوط على حماس من أجل التخفيف من شروطها ومراجعة مدة الهدنة والتقليص من عدد الأسرى الفلسطينيّين لدى الكيان مقابل الأسرى الصهاينة وذلك بدعوى تقريب وجهات النظر والاقتراب أكثر من حلّ قبل حلول شهر رمضان.

لقد بيّنت عملية طوفان الأقصىأنّ الكيان الصهيوني الذي يملك أقوى آلة حربية في المنطقة ويحوز على آخر مبتدعات العلم في المجال الصناعي والتكنولوجي والعسكري بعيد كلّ البعد عن الصورة التي روّجها عن نفسه وأقنع بها العالم، صورة الجيش الذي يصعب مباغتته أو الذي لا يُهزم وأنّ قدرته على خوض حرب شاملة وعلى جميع الواجهات، فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وغيرها، تتأتّى أساسا من أمرين اثنين هما أوّلا الدعم الأمريكي وثانيا تواطؤ الأنظمة العربية العميلة والخونة. فلو لا هذان العاملان ما كتب له أن يصمد ولو لبضع سنوات فقط. ولقد تأكّد في الحرب الأخيرة أنّ مستقبل هذا الكيان حتى في ظل الدعم اللامتناهي الأمريكي والخيانة اللامتناهية للأنظمة الرجعية العربية سيظل محفوفا بالمخاطر لمجرد أن تمكنت المقاومة من تحسين قدراتها العسكرية وأنّ مستقبله سيكون حتما الفناء لو تتمكن المقاومة من اكتساب أسلحة جوية وقدرات أقوى في مجال اعتراض الصواريخ وأسلحة التدمير.

المقاومة: حبّذا لو ولكن

ما من شكّ في أنّ المقاومة تمرّ بصعوبات بعد أكثر من 140 يوما من الحرب المدمّرة التي كبّدت الشعب الفلسطيني في غزة خسائر وتضحيات تفوق الخيال. صعوبات هائلة ومتنوعة تشمل جميع جوانب الحياة من أبسط حاجياتها إلى متطلبات العيش بالنسبة إلى المجتمع. وبطبيعة الحال ترى المقاومة نفسها مسؤولة عن ذلك بل أوّل من يتعيّن عليه التفكير في سبل حّل هذه المشاكل وتوفير الحلول والاستجابة إلى طلبات الشعب الفلسطيني في غزة. إنّ الشعب الذي مثّل الحاضنة الواقية للمقاومة وأعطاها من ثباته وصبره وتضحياته بلا حدود يستحق أن تعطيه المقاومة كلّ ما هي قادرة عليه وأكثر من أجل التخفيف من أتعابه وآلامه. وبقدر ما هي مطالبة بأن تُبلي البلاء الحسن في ساحة المعركة المسلحة لتذود عن أبناء الشعب وتتصدى للاقتحامات العسكرية الصهيونية وتحقق عليها انتصارات بذات القدر هي مطالبة بالبحث عن حلول تفاوضية لوقف العدوان وتمكين المدنيين من فاصل زمني يطول أو يقصرلاسترداد أنفاسه ولملمة جراحه. وهي في ذات الوقت المسؤولة الأولى عن أيّ هفوة يمكن أن تشوب الصفقة التي يمكن عقدها مع العدو بغاية الأهداف الاستراتيجية والتكتيكية التي تستوجبها أوضاع المعركة.

تمسك المقاومة بأوراق مهمة لها أثر كبير لا فقط في المواجهة وإنما أيضا في المفاوضات من أجل وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى وإدخال المؤن والبضائع. من هذه الأوراق ذات الأثر صمود الشعب الفلسطيني واستمراره في احتضان المقاومة. وقد فشل العدو فشلا ذريعا في تحييد هذا العامل الاستراتيجي الكبير في معركة غزة. ومن الأوراق أيضا القدرة القتالية التي أبرزتها المقاومة على أكثر من صعيد، سواء في مستوى إدارة المعركة الميدانية ككل وتدبير الهجوم والدفاع وحسن الربط بينهما بالاعتماد خاصة على الأسلحة الذاتية التي طورتها المقاومة وباغتت العدوّ بفعاليتها وقوتها القتالية وأيضا بالاعتماد على سلاح الأنفاق الذي يمثل عنصر تفوّق في يد المقاومة يسمح لها بالحفاظ على المبادرة في إدارة المواجهة العسكرية. أمّا الورقة الأخرى والتي لا تقل أهمية عن البقية بل لعلّ تفوّقها من حيث قدرتها على ممارسة الضغط على العدو في اتجاهات متعددة وهي ورقة الأسرى الذين مع تقدم الزمن تحوّلوا ويتحولون كل يوم إلى عنصر داعم لصف المقاومة في المعركة وعنصر ضغط على قادة العدو وجيشه.

لقد أحسنت المقاومة حتى الآن استخدام هذه الأوراق في المعركة رغم تفوّق العدو من الناحية العسكرية (عدد الجنود والضباط والخبرات القتالية ونوعية الأسلحة الجوية والذكية وذات الطاقة التدميرية الكبيرة). وهي تجد نفسها اليوم في موقع يسمح لها بهامش مهم نسبيا من المناورة في العملية التفاوضية غير المباشرة الجارية الآن. وهي أيضا مستمرة في استغلال كثير من المعطيات المتعلقة بالداخل الصهيوني وبالأوضاع الدولية لتتحكم في جانب مهم من المفاوضات. لقد رسمت المقاومة سقفا عاليا نسبيا لجولة المفاوضات الجديدة لعلّ أبرز عناصرها هو انسحاب الجيش الصهيوني كليا من غزة وتمديد فترة الهدنة لعدة أشهر متجددة وتحديد عدد مرتفع من الأسرى الفلسطينيّين لدى العدو مقابل الأسرى الصهاينة. وحتة إن قبلت بمراجعة بعض هذه الشروط (عدد الأسرى) فذلك في أفق تحقيق العديد من المكاسب التي تحتاجها المعركة اليوم.

صحيح أنّ العدو الصهيوني لم يجد الشجاعةللقبول بذلك لأنه يدرك، كما أعلن نتنياهو، أنّ القبول بهذه الشروط يعني انتصار حماسوهزيمة إسرائيلولكنه إذ يناور هو الآخر فإنه يستمر في قصف كلّ مناطق القطاع ويهدّد باقتحام مدينة رفح وتكثيف النار على جنوب لبنانكما قال وزير الحرب الصهيوني حتى في صورة حصول اتّفاق مع المقاومة ويلوّح بعدم الرضوخ لطلبات المجتمع الدولي وطلبات أمريكا. ومفهوم أنه في ضوء كلّ المعطيات المحيطة بالحرب على غزة، معطيات الداخل وميدان المعركة المسلحة ومعطيات الساحات السياسية في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم وديناميكية حركة المساندة الدولية وتحرك المؤسسات الدولية (محكمة العدل ومجلس الأمن الخ…) أنّ كل تهديدات نتنياهو ووعيده هي مجرد رسائل للداخل لتخفيف من حالة الانقسام التي تزداد كل يوم عمقا وهي أيضا أسلوب للضغط من أجل تحسين شروط التفاوض. لكنّ الأكيد أنه سيخضع إن عاجلا أو آجلا لمنطق المفاوضات واللّجوء إلى حلّ وليد مائدة الحوار.

بدأت الصورة في الاكتمال. والأمور تتّجه عموما نحو حلّ متفاوض في شأنه، حتى وإن استمرت الأعمال العسكرية لفترة أخرى. وممّا لا شك فيه أنّ كلا من الطرفين سيحشد لصالحه أكثر ما يمكن من عوامل كسب هذه الجولة تماما كما فعل في جولة المواجهة الحربية. وبطبيعة الحال ستتضمّن جولة الحوار كلّ أشكال المناورات من أجل مساعدة إسرائيلعلى التخلص من كابوس 7 أكتوبر ولا شك في أنّ أمريكا ستضغط بأقصى ما لديها من إمكانيات في هذا الاتجاه وهو ما سيفعله الوسطاء العملاء أيضا. فلا حياد في هذه المعركة. ومما شك فيه أيضا أنه يُراد لهذه المفاوضات أن تتضمّن أسس الحل المستقبلي لغزة ولمجمل القضية الفلسطينية.

ومع ذلك فقد بات واضحا وبشكل جليّ أنّ حالة ما قبل 7 أكتوبر قد انتهت وأنّ حالة جديدة قد وُلدت وفيها الكثير من عوامل النّصر ستظلّ مرهونة بالتطورات القادمة.

إلى الأعلى
×