الرئيسية / عربي / التطبيع من منظور آخر.. “لسنا مهزومين ما دمنا نقاوم”!
التطبيع من منظور آخر.. “لسنا مهزومين ما دمنا نقاوم”!

التطبيع من منظور آخر.. “لسنا مهزومين ما دمنا نقاوم”!

بقلم حبيب الزموري

إن القصف المدمّر بشتّى أنواع الأسلحة والمتفجرات الذي يتعرّض إليه الشعب الفلسطيني منذ قرابة الستة أشهر لا يقلّ خطورة عن قصف آخر تتعرض له الشعوب العربية وشعوب العالم قاطبة، بل إنه ليس من المبالغة في شيء القول بأن تداعياته أخطر على المدى المتوسط والبعيد، والمقصود هنا هو القصف الدعائي والإديولوجي الذي نتعرض له على مدار الساعة، بل في كل دقيقة وكل ثانية، عبر مختلف وسائط الإعلام والمعلومات التي حوّلت المجازر البشعة والجرائم التي تقشعرّ لها الأبدان التي يقترفها الكيان الصهيوني خبرا من جملة الأخبار ورقما من جملة الأرقام فتتحلّل بشاعة الجرائم المقترفة وتفاصيلها في زحمة الأحداث وتواترها.
ولئن تفطّنت فصائل المقاومة الفلسطينية الباسلة منذ اليوم الأول لملحمة طوفان الأقصى لأهمية المعركة الدعائية والإعلامية بأدائها الذي عرف نقلة نوعية لاحظها كل المتابعين وفاجأت العدو قبل الصديق، ولكن موازين القوى تبقى مختلّة أيّما اختلال لفائدة الأجهزة الدعائية الصهيونية المنتشرة في مختلف بلدان العالم وملحقاتها اليمينيّة المتطرفة لدى حلفاء الحركة الصهيونية، وليس أدلّ على ذلك من القيود والانتهاك الصارخ لحرية التعبير والنشر التي تفرضها مؤسسة “ميتا” على المنشورات التي تمجّد المقاومة الفلسطينية الباسلة أو التي تفضح الجرائم التي تقترفها آلة الحرب الصهيونية في الوقت تفتح فيه بعض وسائل الإعلام العربية التابعة للبلدان الرجعية العميلة أبوابها على مصراعيها أمام الرواية الصهيونية للأحداث بل وتستضيف مجرمي الحرب الصّهاينة للدفاع عن جرائمهم مبرّرين هذا التوجّه التحريري بالموضوعية الزّائفة وبأنهم وفّروا للمقاومة مساحة إعلامية لن يجدوها في أيّ مكان آخر.
إنّ تواتر هذه الأخبار من هذه الزاوية الإعلامية الرجعية خطير جدا على مستقبل القضية الفلسطينية وقضية التحرّر الوطني العربي، إنهم يعيدون تنسيق (formatage) الوعي العربي الذي أصبح فيه خبر سقوط مئات الشهداء والاعتداءات اليومية على الشعوب المضطهدة يمرّ كمرور أخبار حوادث الطرقات، بل إن تأثير هذا القصف الإعلامي الممنهج وصل إلى حدّ إعادة تشكيل معجم الخطاب اليومي للإنسان العربي فحلَّ مصطلح “ناشط سياسي” محلّ مصطلح “مناضل سياسي” وحلّ مصطلح “الفصائل” محل مصطلح “التنظيمات”، إنهم بصدد تفكيك ثقافة المقاومة التي قامت على مفاهيم التنظيم والالتزام والتضحية ونكران الذات لتكريس ثقافة فردانية قطرية مقيتة تعكس أقذر ما أفرزته دبّابات الفكر اليميني المحافظ المتطرّف في بلدان المركز الإمبريالي.
لقد حوّلوا الشهداء إلى ضحايا والضحايا إلى إحصائيات والجرائم إلى خسائر والمجاعة إلى أزمة غذاء ومعابر، وهم الآن بصدد تحويل ملحمة طوفان الأقصى إلى طاولة مفاوضات موزّعة على عواصم العمالة والخيانة التي تروّج منصّاتها الإعلامية لهذه الوساطات القذرة على أنها فتوحات ديبلوماسية مبينة.
من هنا تنبثق خطورة الدّور الذي تلعبه وسائل الإعلام الصهيونية واليمينية المتطرّفة في العالم وسليلاتها الرجعية في البلدان العربية وتنبثق أيضا ضرورة الوعي بالواجهة الإعلامية والدعائية في هذا الصراع، وأيّ صراع كان، وأن الاستسلام لهذا القصف الإعلامي والدعائي والانبهار بطريقة إخراجه الفنيّة يعتبر ضربا من ضروب التطبيع مع ثقافة الهزيمة والاستقالة لنتحوّل في نهاية المطاف إلى مجرّد منصّات استقبال للأخبار والمعلومات نتباهى بسردها في النقاشات والجلسات منفصلين تماما على أرض الواقع وما يجري فيه من صراعٍ مريرٍ من أجل الوجود. فرغم الاختلال الرهيب في موازين القوى الدعائية والإعلامية، ورغم التفاوت غير القابل للحصر في الإمكانيات التقنية والمالية فإنّ الأجهزة الإعلامية للمقاومة الفلسطينية الباسلة لقّنت العالم درسا في الإرادة الفولاذية والإيمان الذي لا يتزعزع بعدالة القضية وما يمكن أن تحقّقه من إنجازات واختراقات بإمكانيات متواضعة في أغلب الأحيان.
إنّ التطبيع مع الأمر الواقع مهما بلغت قسوته ومع العجز والهزيمة هو أخطر أنواع التطبيع بما أنه يضرب إرادة التحرّر والمقاومة في مقتلٍ، ومن شأنه إلغاء أيّ إمكانية للنهوض مرّة أخرى. لقد علّمنا التاريخ أن لا وجود لهزيمة نهائية أو سقوط نهائي، وأن إرادة الشعوب لا تقهر متى تنظّمت وحدّدت هدفها وتحرّكت نحوه.
فالمجد لإرادة المقاومة في كل مكان، المجد للشعب الفلسطيني الصامد، وليشحذ كل واحد منّا إرادته وينقّيها من الشّوائب الرّجعية والأنانيّة التي يحقنوننا بها انطلاقا من قهوة الصباح وصولا إلى الومضات الإشهارية في منتصف الليل لنكتشف أن داخل كل منّا مقاوم ما وبطل ما.

إلى الأعلى
×