بقلم عمر حفيّظ
وحدك تطلّين من عليائك على المعنى في زمن الالتباس والخوف. ووحدك تنتصرين على الموت في هذا الزّمن الأمريكيّ–العربيّ القاتل الذي تهاوت فيه الأقنعة:
سقط القناع، عن القناع، عن القناع
سقط القناع
لا الماء عندك، لا الدّواء، لا السّماء
ولا الدّماء، ولا الشّراع
قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة
سقط القناع
عرب أطاعوا رومهم
عرب وباعوا روحهم
عرب وضاعوا
قال درويشك. وكم كانت نبوءته نافذة، وهو يصرخ: على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة. لا حياة إلاّ على أرضك، أرض فلسطين. توقدين لنا شموع الأمل في هذا اللّيل العربيّ البهيم. وتفجّرين الماء في صحراء هزيمتنا. كثيرون مهزومون من الدّاخل من فرط ما عانينا من استبداد سياسيّ ودينيّ واجتماعيّ، ولكنّك –في كلّ مرّة تصرخين في وجوهنا: لا تستسلموا. فلكلّ شيء وقت: للولادة وقت، وللموت وقت، وللبناء وقت، وللهدم وقت، وللحريّة وقت… ما لكم؟ ألا تسمعون غناء الزّيتون في سفوح الجليل؟ ألا تسمعون نشيد البرتقال في يافا وحيفا؟ ألا تروْن بياض زهر اللّوز كندف الثّلج على سطوح المدن القديمة؟
سألناك: كم مرّة تموتين؟
فقلت: لم يبق لي شيء منذور للخسارات، وأنا حرّة، وحريّتي بيدي. ألا تعرفون:
“أنا” أو “هو“
هكذا تبدأ الحرب.
لكنّها تنتهي بلقاء حرج
“أنا وهو“
وقلتِ: كم مرّة سمعتكم تقولون“ماتت“؟ وكم مرّة استنجدتكم فلم يصلني شيء، حتّى الصّوت كان يصل متقطّعا مشروخا. وها أنا أتوكّأ على عصاي وأزرع المريميّة والنّعناع والحبق في حدائقي من جديد!
غزّة، أنت وحدك من ينسج نشيد البدايات. مآذنك وكنائسك تردّد تراتيل النّهايات. سَرْوُكِ وسنديانك وخرّوبك يحمي السّماء من السّقوط. وشهداؤك يردّدون:
واقفون هنا. قاعدون هنا. دائمون هنا
خالدون هنا. ولنا هدف واحد واحد
أن نكون
ومن بعده مختلفون على كلّ شيء.
وحدك كنت تقاومين وحشا تستنبت له أمريكا وعربها في كلّ يوم أنيابا جديدة. عالم بأسره –باستثناء قلّة–كان يُشاهد ما يحدث ويردّد: انتهى زمن المعجزات، ولكنّها معجزة.
أنت، يا سيّدتي، تعلّمين العالم بأسره كيف تُنسج أثواب الحريّة والنّصر وكيف تُطيِّر الرّيحُ شال فلسطين في ساحات المدن الكبرى والجامعات وشوارع “السيّد الأبيض” في قارّته الباردة وكيف يستصغر العدوّ نفسه ويعترف بهزيمته في ليله الطّويل وأقبيته الرّطبة.
أنت وحدك التي تكلّمت بها كلّ لغات العالم بعد أن أراد الصّهاينة بلبلة الأصوات والتّعمية على المعنى، معنى الصّورة ومعنى الإنسان ومعنى الحريّة. أنت وحدك تدافعين عن الإنسانيّ المفرط في إنسانيّته. وليس صدفة أن تعلوَ أصوات أحفاد نيلسون مانديلا باسمك. ففيك تجتمع الألوان والتّواريخ والأعراق والأساطير. وحدك أسقطت أوراق التّوت عن “أبيض” تمركز حول نفسه، وتوهّم أن لا ايتيقا أو قيمة أو أيّ معنى خارج حدوده:
“نبشّركم بالحضارة” قال الغريب،
وقال: أنا سيّد الوقت، جئت لكي أرث الأرض منكم
فمرّوا أمامي لأحصيكم جثّة جثّة فوق سطح البحيرة
“أبشّركم بالحضارة” قال، لتحيا الأناجيل، قال فمرّوا
ليبقى لي الرّبّ وحدي…
وحدك، وحدك قلت له ما قاله درويشك:
أتعلم أنّ الغزالةَ لا تأكل العشبَ إن مسّه دمُنا؟
أتَعْلَم أنّ الجواميس إخْوتُنا، والنّباتات إخوتنا يا غَريبْ؟
فلا تحفر الأرض أكثر! لا تجرح السّلحفاة التي
تنام على ظهرها الأرض، جدّتنا الأرض، أشجارنا شعرها وزينتنا
زهرها. “هذه الأرض لا موت فيها“
سنسمع أصوات أسلافنا في الرّياح، ونصغي
إلى نبضهم في براعم أشجارنا. هذه الأرض جدّتنا
مقدّسة كلّها، حجرا حجرا، هذه الأرض كوخ
لآلهة سكنت معنا، نجمة نجمة، ………….”
وحدك توقدين قوس قزح في أعين من ناصروك وظلّت قلوبهم معلّقة، وهم يبكون أوطانا سيّجتها الحدود والعسس والتبست فيها الخطابات حدّ العمى، وحدها العودة إلى تراتيلك كانت تتيح لهم الفرح بين الحين والآخر، فلا يلدغ المؤمن من فرح مرّتين.
أنت وحدك ترفضين الآن توقيع معاهدة صلح بين الضحيّة والجلاّد، وحدك تصونين وصايا الدّم والشّهداء من ألاعيب الطّغاة والمستبدّين وباعة الكلام في زمن القازوال والرّوبوات.
وحدك تمضين إلى وطن الطّير وصباحات اللّيلك وعطر المريميّة وليل الفراشات، وحدك تعرفين بمَ تتعطّر الأرض؟ وكيف تعيدين الشّهداء ليقولوا الحقيقة وليبوحوا بأسرار “الكوفيّة” و“العصا” الفلسطينيّتين؟ إلى أين تمضين يا سيّدتي موشّحة بعطر أرضك ودماء شهدائك، وهذا العالم بأسره مصاب بالجنون لأنّك لم تركعي ولم تستسلمي؟؟؟
أعرف أنّك تمضين إلى غيمة في أعالي الجبال، وإلى معنى في عيون الكلام، بل إلى نجمة في سماء الخلود، كنت أشفق عليك –أنا الذي لا يملك شيئا أنصرك به غير صوتي، وهذا المداد الخجول– ولكنّي كنت أقول: من ربّته الرّياح والعواصف، من ولد من رحم الأساطير، من تعمّد بدم مقدّس، لا خوف عليه. وكان يأتيني صوت درويشك مرّة أخرى وهو يردّد:
سأقطع هذا الطّريق الطّويل، وهذا الطّريق الطّويل إلى آخره.
إلى آخر القلب أقطع هذا الطّريق الطّويل الطّويل الطّويلْ
فما عدتُ أخسر غير الغبار، وما مات منّي، وصفُّ النّخيلْ
يدلّ على ما يغيب. سأعبر صفّ النّخيلْ
تضيق بنا الأرض أو لا تضيق. سنقطع هذا الطّريق الطّويلْ
إلى آخر القوس. فلتتوتّر خطانا سهاما. أكنّا هنا منذ وقت قليلْ
وعمّا قليل سنبلغ سهم البداية. دارت بنا الرّيح. دارت. فماذا تقولْ؟
أقول: سأقطع هذا الطّريق الطّويل إلى آخري… وإلى آخره.
أعرف أنّ هذا الذي قلتُ لا يُعيد شهيدا نخجل من دمه الذي يصرخ في وجوهنا بل في جبننا، ومن دموع أمّه وهي تودّعه بالزّغاريد، وأعرف أنّ هذا الذي قلتُ لا يبني بيتا هدّمته جرّافة تريد تغيير الجغرافيا لتزوير التّاريخ، وأعرف أنّ هذا الذي قلتُ لا يزرع حديقة أحرقت مشمشها وتينها وبرتقالها وتوتها وخوخها قذائف عمياء آتية من وراء البحار، ولكنّي أعرف أنّ هذا الذي قلتُ هو ما يقوله كثيرون –كلٌّ بطريقتِه– وأنا أقوله وهم يقولونه لنصون به أنفسنا من الخوف والهلع والتّردّد والحيرة.
غزّة الشّهداء، وغزّة المقاومة أنت اليقين وأنت الحقيقة. وأنا الآن أسمعك تردّدين:
سلام على من يُشاطرني الانتباه إلى
نشوة الضّوء، ضوء الفراشة، في
ليل هذا النّفق!