بقلم حمّادي المثلوثي
شهد “النظام العربي الرّسمي” في عام 2024 تحدّيات كثيرة معقدة ومتنوّعة أثّرت في استقراره وزادت في تعميق مأزقه وأزمته. وقد تجلّت هذه التحدّيات في أزمات سياسيّة واقتصاديّة وإنسانيّة في عدّة دول عربيّة ممّا أضعف فاعليّة مؤسّساته الإقليميّة، التي لا أعتقد أنّنا نختلف عندما نقول عنها إنّها في وضع “الموت السّريري“، ولم يبق من مظاهر وجوده كنظام “للتضامن و الأمن الجماعي” إلاّ الاسم.
ومن أخطر الأزمات التي واجهها “النظام العربي” خلال هذه السّنة الإبادة الهمجية والوحشيّة التي يشنّها الكيان الصهيوني على غزّة بدعم من الامبريالية العالمية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية إثر عملية “طوفان الأقصى” البطولية التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر 2023 ضد الكيان الصهيوني وجيشه ومستوطنيه. كما قصف الكيان الصهيوني بين 17 و27 ديسمبر 2024 جنوب لبنان والضّاحية الجنوبيّة والعاصمة بيروت واغتال قيادات بارزة في “حزب الله” من بينهم الأمين العام للحزب “السيد حسن نصر الله“. كما أنّ الوضع في السّودان متأزّم حيث احتدمت رحى الحرب الأهلية بين “قوات الجيش السّوداني” و“قوات الدعم السّريع” ممّا أدّى إلى تدهور الأوضاع الإنسانية مع نزوح ملايين الأشخاص وتدمير البنية التحتية .أمّا في سوريا فقد أفاق العالم فجر يوم الأحد 8 ديسمبر على سقوط “نظام بشار الأسد” الديكتاتوري وفراره المذلّ بالتّزامن مع دخول قوات “هيئة تحرير الشّام” و“الجيش الوطني” وهي مجاميع إرهابية دموية مدعومة من تركيا وأمريكا والكيان الصّهيوني إلى العاصمة دمشق.
تعامل “النظام العربي الرسمي” مع هذا المنعرج الخطير والامتحان العسير بعبارات فضفاضة لا تغني ولا تسمن من جوع كتلك التي حبّر بها بيان “قمّة المنامة” في ماي 2024 في حين كان عليه أن يتخذ إجراءات استثنائية وصارمة تتماشى وحجم الاعتداء وخطورة المرحلة، ولكنّه كالعادة لم يفعل واكتفى بترديد أقوال من قبيل “الإعانات الإنسانية” التي تدلّ على عجز وتواطئ أو عدم إدراك لدقة المرحلة وخطورتها، وكلتا الفرضيتين تؤكّدان عمق أزمة “النظام العربي الرسمي” وخطورتها. وبالرجوع إلى الظرفية التاريخية الرّاهنة بكل متناقضاتها يمكن الجزم بأنها من أخطر الأزمات التي شهدتها المنطقة العربيّة منذ تشكل دول “الاستقلال” في الخمسينات والستينات من القرن العشرين، ولم يعد لهذا النظام الحق في تجاهل هذا الواقع المرّ مرارة عجز رجل مريض طاعن في السن متشبّث بالحياة كغريزة من جهة وطالب للموت علّه يتخلص من شدة آلام المرض الذي نخر جسمه من جهة ثانية، كذلك حال “النظام العربي الرسمي” اليوم.
فما هي أسباب عجز “النظام العربي الرّسمي“؟
1
يمكن تفسير عجز “النظام العربي الرّسمي” بمجموعة من الأسباب البنيوية والسّياسية والاقتصادية والاجتماعية والثّقافيّة التي أضعفت قدرته على التّصدّي للتّحدّيات الدّاخلية والخارجيّة، ومن أبرز هذه الأسباب:
* الانقسامات السّياسيّة بين الدّول العربيّة التي من مظاهرها اختلاف الأولويّات الوطنيّة وكثرة الصّراعات الدّاخلية والاقليميّة والأحلاف والمحاور الإقليميّة وتباين المواقف بشأن القضايا الحسّاسة مثل الموقف من مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني.
* ضعف المؤسّسات الإقليمية التي من مظاهرها غياب الآليات الملزمة لقرارات “جامعة الدول العربية” واستمرار عمل النظام الإقليمي العربي بآليات قديمة رغم تغير المعادلات الجيواستراتيجية في المنطقة وفي العالم.
* التأثيرات الخارجية والتدخّلات الإقليمية: من مظاهرها دوليا الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا لحلّ القضايا الإقليمية وتأبيد هيمنتهما، وإقليميا تركيا وإيران والكيان الصهيوني لتحقيق مصالحهم وتنفيذ مآربهم وكلا الطرفين (العالمي والإقليمي) ساهما في تهميش الدور العربي في المنطقة.
* التبعيّة الاقتصادية والسّياسيّة ومن مظاهرها اعتماد عدد كبير من الدول العربية على المساعدات والهبات أو الدعم العسكري والإداري لتسيير شؤون الدولة وهو ما أضعف قدرة الدول العربية على اتخاذ مواقف مستقلة.
* الأزمات الداخليّة المتكرّرة والمتواترة مثل الحروب الأهلية في سوريا والسّودان وليبيا واليمن وهو ما أثّر في استقرار النظام الإقليمي ككل.
* الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي من مظاهرها تراجع مِؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في العديد من الدول العربية ممّا أدّى إلى ارتفاع نسبة البطالة وتفاقم معدلات الفقر.
* غياب الإرادة السّياسيّة المتمثّلة في ضعف التضامن العربي وتفضيل الحلول الفردية والتردّد في اتخاذ القرارات الحاسمة مثل الموقف من التدخل الخارجي والموقف من التطبيع مع الكيان الصهيوني.
* ضعف الاستجابة للتّغيّرات العالمية ومن مظاهرها العجز عن مواكبة التحولات الدوليّة والاقتصاديّة والسّياسيّة وإهمال القضايا الاستراتيجية كالأمن الغذائي والمائي والطّاقي والتغيّر المناخي…
* عدم استثمار الموارد بشكل جماعي في عصر التكتلات الجغرافية الكبرى التي من مظاهرها إهدار الموارد الطّبيعيّة في ظل غياب خطط مشتركة لاستثمارها وضعف التّعاون الاقتصادي البيني.
2
* أزمات متعلّقة بالهويّة والقيم ومن مظاهرها تراجع فكرة القوميّة العربية وفكرة الهوية العربية المشتركة وتباين الثقافات والمصالح.
الحلول بين الموجود والمنشود:
بالرجوع إلى النتائج السّياسية لثورات “الربيع العربي” نلاحظ دون عناء أنّ الإسلام السّياسي هو البديل الذي دعّمته الدوائر الامبريالية والقوى الإقليمية الفاعلة بالمنطقة لتعويض الأنظمة التي سقطت والتي كانت موالية لها مثل حركة النهضة في تونس والإخوان المسلمين في مصر.
وكلتا التجربتين فشلتا في تقديم حلول للخروج بدولتيهما من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي قامت من أجلها الثورة وانتهى الأمر ببلديهما إلى السقوط تحت حكم العسكر في مصر وحكم الشعبوية في تونس. أمّا في ليبيا فقد ساهم الإسلام السياسي في تغذية حرب أهلية حيث انقسمت ليبيا الى منطقتين: غرب تسيطر عليه حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة عاصمتها طرابلس متحالفة إقليميا مع قطر وتركيا وإيطاليا وتحظى بدعم ميليشيات مسلحة مثل “قوات الردع” ذات المرجعية السلفية و“جهاز دعم الاستقرار” ذي المرجعية الإسلامية المعتدلة، وشرق يسيطر عليه “الجيش الوطني الليبي” بقيادة حفتر وعاصمته بنغازي متحالف مع مصر والإمارات وروسيا وفرنسا. ولا تزال الخلافات قائمة بين الأطراف المتصارعة. كما انتهى حكم الإسلام السياسي في السودان، الذي امتدّ من 1989 إلى 2019، إلى حصيلة جدّ قاتمة ومن أهمّ ملامحها القمع السّياسي والفساد المستشري وأزمات اقتصادية واجتماعيّة حادة انتهت إلى انتفاضة شعبية أسقطت حكم البشير وسرعان ما التفّت عناصر الثورة المضادة على هذه الانتفاضة لتجد السودان نفسها في حرب أهلية دامية راح ضحيتها آلاف السودانيين وشرّد الملايين ودمّرت البنية التحتية وقبل النظام التطبيع مع الكيان الصهيوني يوم 23 أكتوبر 2020. أمّا سوريا فمن المؤكد أنّ مستقبلها يشقّ طريقه ضمن مصاعب كبيرة معقّدة ومتشعّبة لم تزدها النواة الصّلبة للحكم اليوم “هيئة تحرير الشّامّ” وقائدها “أحمد الشرع” المكنّى بـ“الجولاني” إلاّ تعقيدا بحكم خلفيتها السّياسيّة والايديولوجيّة الظلامية والرجعيّة وماضيها الدّموي في العراق وسوريا.
إنّ الأمر إذن لا يحتاج إلى بيان للاستنتاج بأنّ الاسلام السياسي ليس إلاّ الوجه الماضوي الرجعي والظلامي لأزمة “النظام العربي الرسمي” وهو ليس حلاّ بقدر ما هو مظهر من مظاهر أزمة هذا النّظام، وهو أداة من الأدوات المسرّعة لمسيرة خروج العرب من التّاريخ وهو الهدف الذي رسمته الامبريالية العالمية وربيبتها الصهيونيّة.
فما العمل؟ هل علينا قبول هذا المصير الذي رُسم لنا؟
بالطبع لا. على القوى الحيّة تحمّل مسؤولياتها. ولا أرى في الأفق من قوة لاتزال حيّة في هذا الجسم المريض المتهالك والمتهاوي غير اليسار.
3
فلا مناص من أن يتحمّل اليسار العربي مسؤوليته التّاريخيّة لإيقاف مسيرة خروج العرب من التاريخ وذلك بالمساهمة أوّلا في المجهود العظيم الذي يبذل في العالم لإحياء الاشتراكيّة.
وثانيا لخلق فرص لتغيير الواقع العربي في اتجاه العدالة الاجتماعية وذلك بالاعتماد على النّظريّة الماركسيّة والاستئناس بنظريات كبار اليساريين الرّاديكاليين في العالم وتطويعها لفهم واقعنا وخصوصياتنا العربية الرّاهنة. وطبعا وحتى نكون منسجمين مع آليات تحليلنا المادية الجدلية لا يمكن الحديث عن أيّ تغيير اجتماعي دون تحديد التناقض الرئيسي في المنطقة العربية، الذي هو بكل وضوح تناقض بين الشّعوب العربيّة من جهة وقوى الرأسمالية التوسّعية أي الامبريالية من جهة ثانية.
لقد خلقت الرأسمالية التّوسّعية الغربية في العالم العربي أنماطا اجتماعيّة حافظت على ملامح مشتركة، رغم تباينها النسبي من قطر إلى آخر، باعتبار أن الرّأسمالية لم تكن في العالم العربي نتيجة صيرورة تاريخية طبيعيّة بل جاءت نتاجا للاستعمار الغربي خاصّة في مرحلته الامبرياليّة يفسّر لنا هذا المعطى التّاريخي شيئان على الأقل:
1- تحكم الامبريالية في واقع العرب الحديث والمعاصر.
2- نشأة علاقات إنتاج وقوى إنتاج مسخة ومشوّهة. فـ“البرجوازية العربية” لم تكن وليدة صيرورة تاريخيّة مكنتها من الاستيلاء على الدولة كما هو في الغرب، بل كانت وليدة تدخّل من الدولة التي سهّلت لها كل الطرق وأمّنت لها كل الوسائل والسّبل للنموّ والتطوّر وهو ما يفسّر قبولها بالاستبداد السياسي (لا الديمقراطية) وقبولها بالثقافة الماضوية (لا ثقافة التنوير) وكذلك عدم رفضها للتدخّل الخارجي لأنها (بحكم طبيعتها الطّفيليّة) لا تؤمن أصلا بالطّابع الاقتصادي المتمحور حول الذّات (وفاقد الشيء لا يعطيه) أي الاقتصاد الموجّه لخدمة مطالب وحاجيات الدّاخل الوطني عوضا عن خدمة أغراض الخارج الامبريالي وهو ما يفسّر الطّبيعة التّابعة للاقتصاديات العربيّة، ومن أهمّ مظاهر هذه التّبعية المديونية المتفاقمة والعجز الغذائي المذل في منطقة بها “الهلال الخصيب” و“سهول إفريقيّة ومطمور روما” والسّودان التي تعرف بـ“سلّة الغذاء العربي” والانصياع المذلّ للكيان الصهيوني.
على اليسار العربي أن يعي هذا الوضع وينشر هذا الوعي في صفوف الطّبقة العاملة المتحالفة مع الفلاّحين والمستعينة بالعناصر الثوريّة من الطّبقة الوسطى المتشبّعة بالبديل الاشتراكي والمؤمنة به لقيادة مهمّة بناء اقتصاد وطني متمحور حول الذّات يفرض سيادة وطنية شعبيّة تعدّ في إطار دولة ديمقراطية شعبية تركز تنمية وطنيّة شعبية ومنها تفتح بوابة الاشتراكية التي على اليسار أن يأخذ حتما الدّرس من فشل التّجارب الاشتراكيّة السّابقة عند بنائها، فإلى العمل.