- سياسة دولية سلبية تفاقم الأزمات وتدّعي البحث عن حلول
- صراع إقليمي – دولي مسلّح يصبح بمثابة الاحتلال لليبيا
بقلم سمير جراي
يوم الاثنين الماضي، وخلال الاحتفالات التي نظمها خليفة حفتر في مدينة بنغازي بمناسبة الذكرى الحادية عشرة لإطلاق “عملية الكرامة”، بحضور عدة وفود دولية، أثارت إحدى الصور جدلا واسعا في ليبيا وتمثلت في وقوف رئيس الحكومة الليبية أسامة حماد (غير معترف بها دوليا) إلى جانب الحرس الرئاسي خلف نائب وزير الدفاع الروسي وقد أخذ مكانه على الكرسي إلى جانب حفتر. هذه الصورة “المؤسفة تختزل حجم التدخلات الخارجية والوصاية التي تمارس على كل الأطراف السياسية والعسكرية في كل ليبيا.
بعد هذه الاحتفالية، بدأ مجلس النواب (بنغازي) يوم الثلاثاء في الاستماع إلى المترشحين لرئاسة الحكومة الجديدة لاختيار بديل لحكومة الشرق ويزعم أنها ستكون حكومة لكل ليبيا، في إجراء أحادي دون تنسيق ولا تشاور مع الأطراف الرئيسية في الغرب (مجلس الدولة، حكومة الدبيبة، المجلس الرئاسي) ودون اعتبار لموقف البعثة الأممية الرافض لهذا التوجّه. وهو ما يبيّن حجم الانقسامات التي وصلت إليها البلاد، ولا نشكّ للحظة أن السبب الرئيسي لما تعانيه ليبيا من تشتّت وانقسام وصراع اليوم، ومنذ أكثر من عشر سنوات، هو التدخلات الأجنبية السلبية ومن كل المحاور الدولية المتصارعة والمتحالفة، وهو ما سنحاوله شرحه وتفكيكه في هذا المقال.
ليس من السهل على دولة بحجم ليبيا وبتلك الأهمية الجيوسياسية وخاصة لما تزخر به من ثروات كبيرة أن تتخلّص من أدوار القوى الخارجية. فمنذ سقوط نظام القذافي سنة 2011 وانهيار أغلب مؤسسات الدولة وخاصة مؤسستي الجيش والشرطة، أصبحت الدول الكبرى تلعب دورا حاسما في رسم السياسات العسكرية والتوجهات السياسية في الدولة، عبر تحالفات ومحاور تتحكّم في خيوط اللعبة وتحدّد الخيارات المستقبلية بناء على مصالحها الأمينة والاقتصادية وتتغيّر هذه الرؤى والتوجهات بحسب تغيّر التوازنات الدولية وأجندات المحاور والتقديرات الإقليمية.
ولتحليل الصراع الحاصل في ليبيا وتداخلاته الإقليمية والدولية، سنحاول تفكيك السياسات الدولية في مراحل النزاع وأسس التوازن بين المخاوف والمصالح وما أفرزته من تدخلات عسكرية أجنبية أصبحت بمثابة الاحتلال.
ما يحدث عسكريا في ليبيا هو جزء من مواجهة أوسع في العالم والمنطقة، تتطوّر في اتجاه تحويلها إلى ساحة حرب دولية بالوكالة، جعلت من البلاد تحت وطأة تحديات صعبة في مواجهة مصالح القوى الدولية والإقليمية وهواجسها الأمنية والاقتصادية.
1. النّفوذ العسكري الأجنبي قبل سنة 2016
اعتمدت الدول الكبرى المتنفّذة في الملف الليبي الاستراتيجية العسكرية التي ظهرت في عهد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما والتي سُميّت “بصمة القدم الخفيفة” أو “آثار القدم الخفيفة” (Light Footprint Strategy) عبر تدخلات عسكرية خاطفة لا تتورط فيها جيوش هذه الدول ولا تظهر فيها القيادة السياسية في المقدمة بل تتستّر بغطاء دبلوماسي تورّط فيه قوى إقليمية مثل الإمارات وتركيا وقطر بسبب تعاونها مع المشروع الأمريكي وحساباتها الجيوسياسية والمصلحية الخاصة.
سعت روسيا والولايات المتحدة والدول الغربية المؤثرة (فرنسا، إيطاليا، بريطانيا) إلى اتباع سياسة “القدم الخفية” إلى حدود سنة 2016، ومع انطلاق الحرب ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) تدخلت الولايات المتحدة عسكريا عن طريق قوات الأفريكوم وشنّت ضربات عسكرية جوية لمعاقل التنظيم في مدينة سرت ما سهّل على قوات “البنيان المرصوص” تحرير المدينة مع نهاية العام، وإنهاء كابوس التنظيمات الإرهابية في البلاد ولم يتبقّ منه إلا جيوبا هاربة ومختبئة في مناطق الجنوب الصحراوية النائية. ولم تتدخل بعدها واشنطن عسكريا وحافظت على التوجه الناعم إلى أن تلاشى دورها شيئا فشيئا وتراجعت حتى أدوارها الدبلوماسية مع عهدة ترامب الأولى فاسحة المجال للتدخل الروسي وبشكل متزايد إلى أن أصبح تحالف موسكو مع حفتر علنيا وتطوّر إلى حدّ توقيع اتفاقيات عسكرية للتدريب والتسليح وحصول روسيا على قواعد عسكرية في المنطقتين الشرقية والجنوبية لليبيا.
التدخلات العسكرية الأجنبية وتداعياتها
مع تمكّن خليفة حفتر من تكوين قوة عسكرية في مدينة بنغازي منتصف عام 2014، مستفيدا من دعم القبائل في الشرق لقواته بأبنائها، خصوصا بعد أن رفع شعار مكافحة الإرهاب، وتأسيس جيش وطني نظامي، سارع اللواء المتقاعد إلى شنّ حربه المعروفة بــ”عملية الكرامة” وانطلقت في 16 ماي 2014 بمدينة بنغازي من أجل بسط سيطرته على كامل التراب الليبي، الهدف المعلن لحفتر في هذه العملية هو القضاء على التنظيمات التي يعتبرها إرهابية والكتائب والتشكيلات الإسلامية التي يسميها متشددة، وهدفه غير المعلن هو القضاء على كل التيارات الإسلامية واجتثاثهم وحكم البلاد بفرض الأمر الواقع وقوة السلاح، لكن خصومه رَأَوْا في عمليته تمرّدا عسكريا ومحاولة انقلاب وثورة مضادة، لإلغاء مكتسبات الثورة.
تصدّت لعملية “الكرامة” كتائب كان لها الدور الأكبر في الإطاحة بنظام القذافي، غالبيتهم من الإسلاميين، ومنهم من لا يحملون توجّها إيديولوجيا معيّنا لكنهم يرون في حفتر ذلك العسكري الذي سيعيد البلاد إلى سابق عهدها، وأطلقت على عملياتها اسم “فجر ليبيا”، وخاضت مع قوات حفتر معارك ضارية في طرابلس وبنغازي.
هنا نشير إلى أنّ إفراد وصف قوات “فجر ليبيا” لوحدها بالمليشيات الإسلامية غير دقيق فعدّة قوات وكتائب ومجموعات ضمن قوات حفتر هي أيضا “مليشيات إسلامية” مثل “أولياء الدم السلفية” و”السلفية المدخلية” وتعتبر حفتر وليّ أمر يجب طاعته شرعا. وتسبّبت الحرب في زيادة حدّة الصراع الدموي والانقسام السياسي في البلاد.
سياسة المحاور تبرز بقوة في ليبيا وتحدّد التوجهات والدعم العسكري
مع نهاية الحرب وفشل حفتر في تحقيق أهدافه وبقاء حدود سيطرته العسكرية على المنطقة الشرقية وأجزاء من المنطقة الجنوبية، أصبحت سياسة المحاور تتجلّى بوضوح في ليبيا.
* فرنسا:
دعمت فرنسا حفتر بجنود يقودون غرف عمليات ميدانية للتدريب وتنسيق عمليات عسكرية خاطفة وبقي هذا الوجود العسكري سرّيا حتى إسقاط “سرايا الدفاع عن بنغازي” لطائرة مروحية عسكرية فرنسية على حدود بنغازي. وأعلنت وزارة الدفاع الفرنسية في جويلية 2016 عن مقتل 3 من جنودها، في حادث سقوط المروحية.
ظلت فرنسا داعمة لحفتر لكن سياستها بقيت كمحور لوحده خارج المحاور التي سنتطرق إليها لاحقا، بسبب تشابك المصالح الفرنسية وتنسيقها مع جميع دول المحاور وبرغماتيتها في التعامل مع كل تطورات المشهد السياسي والعسكري.
* إيطاليا:
تتعامل إيطاليا مع ليبيا على أنها منطقة نفوذ تاريخية لها، ولم تتجه لتقديم الدعم العسكري لأيّ طرف، لأنها تفكر في الحفاظ على توازنها مع مختلف الأطراف الليبية وعدم التأثير سلبا على إمدادات النفط.
وتتحرك روما وفق مصالحها الخاصة، فهي ترى في شركة “توتال” النفطية الفرنسية منافسا مهددا لعمل شركة “إيني” ENI الإيطالية التي تمتلك استثمارات في ليبيا منذ عام 1959. وتعمل عدة شركات إيطالية أبرزها شركتي “إيني” و”بوتشيلي”، في قطاع النفط الليبي وتستحوذ على الحصة الكبرى منه، وظلت شركة “إيني” مستثمرا أساسيا في الغاز والنفط الليبي على مدار سنوات بما فيها فترة العقوبات التي فرضت على ليبيا عام 1992.
* الولايات المتحدة وبريطانيا:
في تلك المرحلة ركزت سياسة الولايات المتحدة وبريطانيا على محاربة الإرهاب ودعم التوافقات السياسية لحل الأزمات، ولم يكن لديهما استراتيجية واضحة تجاه المنطقة عموما وليبيا خصوصا، وانصبت كل الجهود على ضرب المجموعات الإرهابية والمتطرفة، والحفاظ على توازن محدد في المنطقة يضمن استمرار تدفق النفط وعدم وقف الإنتاج، ولم تكن السياسة الأمريكية والبريطانية معنية كثيرا بالتحول الديمقراطي ولا بحقوق الإنسان أو العملية السياسية، وكان كل التركيز على محاربة الإرهاب من خلال دعم القوى العسكرية الأكثر فاعلية وقدرة على حماية مصالحهما وإعطاء الضوء الأخضر لمصر وأبوظبي بتنفيذ أجنداتهما العسكرية لدعم الطرف الذي يرونه أكثر نجاعة على تحقيق الاستقرار.
تحرص لندن على توجيه دفّة الأوضاع والصراع في ليبيا بما يمكّنها من الخروج بالقدر الأكبر من المكاسب التي تستطيع اقتناصها، وتحكم تحركاتها مجموعة أهداف استراتيجية كدعم الإسلاميين لتصدّر المشاهد السياسية لذلك حرصت في مراحل الصراع الأولى على دعم الإسلاميين سياسيا، ومع فشلهم وبروز تيارات أخرى اتجهت بريطانيا إلى الغرب وتجاهل البرلمان شرقا.
* محور مصر – الإمارات – السعودية:
وفّر هذا المحور لحفتر كل أنواع الدعم المالي والعسكري، وشاركت طائرات إماراتية ومصرية في ضرب أهداف معادية لحفتر داخل التراب الليبي في حربه الأولى سنة 2014 عملية “الكرامة” وحربه الثانية على طرابلس سنة 2019، فضلا عن التسليح المقدّم لجيش حفتر بالمدرعات والأسلحة المتطورة والطائرات المسيّرة وإعادة تجديد القواعد العسكرية في الشرق والغرب وتطويرها. يعتبر هذا المحور من أكثر الداعمين لحفتر قبل أن تدخل روسيا على الخط، ويتراجع الدعم العسكري لهذه الدول وتحوّل تدخلها إلى سياسي بحت من خلال محاولات وضع حلّ سياسي في ليبيا يتماشى مع أهدافها وتمكين حفتر من الوصول إلى السلطة، وضغطت دوليا وإقليميا من أجل فرض أجنداتها في كل ملتقيات الحوارات السياسية الليبية.
* المحور القطري التركي:
ظلت قطر راعيا رئيسيا للقوى الإسلامية (تشكيلات مسلحة، أحزاب…) التي ساهمت في إسقاط نظام القذافي وواصلت دعم هذا التوجه (منظمات، إعلام…)، كما دعمت المسارات السياسية التي تخدم مصالح الغرب الليبي على حساب حفتر.
كانت ليبيا، ومنطقة الغرب الليبي تحديدا، واحدة من أولى ساحات المعارك التي ظهر فيها جليا التحالف القطري التركي الداعم للقوى لإسلامية حيث أشرفت الدوحة منذ 2011 على تدريب المقاتلين الليبيين في مناطق مختلفة من البلاد، وكان الدور القطري كبيرا لدرجة أن الليبيين في بعض المناطق رفعوا العلم القطري إلى جانب العلم الوطني.
وفي سنة 2014 ووفقا لتقرير لفريق الخبراء التابعين للأمم المتحدة، سلمت الشركات التركية الأسلحة إلى تحالف “فجر ليبيا” كما اتهمت اللجنة ذاتها قطر بإرسال الأسلحة والمال إلى القوات التي تصدّت لمشروع حفتر العسكري.
2. تطورات ما بعد 2016، والتدخلات العسكرية الخارجية تأخذ منحى تصاعديا
بدأ الاهتمام الفرنسي بالملف الليبي يبرز أكثر مع سياسة الرئيس إيمانويل ماكرون، واعتمدت الدبلوماسية الفرنسية، في جزء منها، لإدارة الملف الليبي على دولة الإمارات لمساعدتها على جمع الأطراف المتصارعة، وقد سعت أبوظبي لذلك حتى تمارس باريس ضغوطا على قطر للحدّ من تدخلاتها في ليبيا وجمعت فرنسا والإمارات طرفي النزاع في باريس لمرتين، وأرادت فرنسا بهذا أن تصبح هي مفتاح الحل في ليبيا. وقد أثارت تحركات باريس المنفردة وسعيها لاحتكار ملف ليبيا والالتفاف على الجهود التنسيقية والدبلوماسية للاتحاد الأوروبي، غضب الإيطاليين الذين رأوا في ذلك سحبا للبساط من تحت أقدامهم، فلجأت إيطاليا إلى دعم رئيس حكومة الوفاق فايز السراج في غرب ليبيا والقوات الموجودة في طرابلس، التي كانت تسيطر على منطقة الهلال النفطي والتي تُعَدُّ منطقة الإنتاج النفطي الأبرز في البلاد.
تنظر إيطاليا إلى الصراع الليبي على أنه تهديد أمنيّ لها، إذ تمثل ليبيا بوابة المتوسط إلى روما كونها معبرا للهجرات غير النظامية إلى دول أوروبا، لذا قامت إيطاليا بنشر وحدات وقطع عسكرية بمناطق شمال طرابلس لتنسيق دوريات مشتركة للحدّ من عمليات التهريب والهجرة عبر السواحل الليبية، كما قدمت دعما متقدما لبناء قوة خفر سواحل ليبية ومراكز لاحتجاز المهاجرين وتأهيلهم، ومنعهم من العبور إلى إيطاليا وأوروبا.
النفوذ الأكبر… روسيا والولايات المتحدة وصراع البقاء والتوسع في منطقة شمال إفريقيا
ساهم ضعف دور الولايات المتحدة في ليبيا وانسحابها شبه الكامل من الساحة بداية من سنة 2017 وعدم حسم مواقفها بوضوح من الأطراف المتصارعة في دخول روسيا بقوة على خطّ التوازنات العسكرية. راهنت روسيا على “المشير” خليفة حفتر لتحقيق أهدافها في المنطقة وبدأت في رسم استراتيجيا عسكرية كاملة لملء الفراغ الذي تركته واشنطن في ليبيا منذ العهدة الأولى للرئيس ترامب وكل فترة جو بايدن، وانطلقت في تثبيت موطئ قدمها عبر إرسال المرتزقة من قوات “الفاغنر” لدعم حفتر والسيطرة على الحقول والموانئ النفطية في منطقة الهلال النفطي وجنوبها.
كانت ملكية شركة “فاغنر” الأمنية الروسية الشهيرة تعود إلى رجل الأعمال يفغيني بريغوجين، الذي كان مقرّبا من الرئيس فلاديمير بوتين. وهي تتولّى تنفيذ المهام الخارجية التي لا ترغب موسكو في تبنّيها رسميا.
منذ سنة 2018 ارتفعت أعداد المرتزقة الروس في ليبيا ليبلغ قرابة 2500 مرتزق في عام 2020، وبالإضافة إلى المرتزقة زادت روسيا في دعمها العسكري لحفتر حيث زوّدته بمختلف أنواع الأسلحة والمعدات العسكرية المتطوّرة وأرسلت أيضا أعدادا كبيرة من المرتزقة السوريين عبر رحلات جوية لشركة أجنحة الشام.
قاتل المرتزقة الروس ومرتزقة “الجنجاويد” في صفوف قوات حفتر التي شنّت الهجوم على طرابلس سنة 2019 وإثر فشل العملية عاد المرتزقة الأفارقة إلى المناطق الجنوبية وانسحب المرتزقة الروس إلى قواعدهم في بنغازي وسرت والجفرة وبراك الشاطئ والهلال النفطي. إثر ذلك سعت روسيا، بشكل متزايد، إلى تحقيق هدفها في إنشاء ما يُسمى “الوفاق الاستعماري الروسي” الذي تهدف إلى أن تنضوي تحت لوائه الدول التي تسعى إلى مساعدة موسكو في الشرق الأوسط وأفريقيا.
رصدت عدّة تقارير عسكرية غربية موثوقة تغوّل الوجود الروسي في مناطق شرق ليبيا ووسطها إلى درجة أن أصبح الروس يسيطرون على مناطق بأكملها ويثيرون غضب السكان ويعتدون عليهم، ومع التطورات المتسارعة بدأت روسيا في تأسيس “الفيلق الأفريقي” مكان شركة “فاغنر” إثر اغتيال مؤسسها بريغوجين في أوت 2023، وأعطت عناصر “الفاغنر” صفة جنود رسميين روس وبذلك أصبح الجيش الروسي موجودا بصفة رسمية ومعلنة في ليبيا.
نهاية شهر جوان سنة 2023 شنت طائرات مسيرة “مجهولة المصدر” غارات استهدفت قاعدة جوية على بعد 150 كيلومترا جنوب شرق بنغازي حيث توجد عناصر من مجموعة “فاغنر”. لم تعرف هوية الطائرة لكن على ما يبدو أنها تتبع القوات الأمريكية في أفريقيا (الأفريكوم) أو أنها مسيرة تركية قصفت مواقع الروس بضوء أخضر أمريكي.
هذه الحادثة دلّت على عودة الأمريكيين إلى الساحة الليبية بعد تنبيهات من مراكز بحوث ودراسات عسكرية كثيرة دعت مرارا إلى ضرورة تحرّك غربي أمريكي-أوروبي للحدّ من التمدد الروسي وتحجيم دوره في المنطقة خاصة مع السعي إلى إنشاء الفيلق الأفريقي.
ظلت المخاوف الأوروبية تتعاظم خاصة مع ورود تقارير تكشف عن قيام الروس بالسيطرة على ممرّات تهريب البشر وأطلقت مراكز الدراسات البريطانية والإيطالية صيحات فزع وتحذير من أنّ روسيا أصبحت تهدد أوروبا مباشرة من خلال ملف الهجرة انطلاقا من ليبيا. في المقابل زادت مخاوف الأمريكان من التوسع الروسي لكنهم لم يقدموا على خطوات عسكرية وظلوا يراقبون مع تفعيل الدبلوماسية في اتجاه فكرة توحيد الجيش الليبي والتي إن تحققت ستنهي الوجود الروسي هناك.
إثر سقوط نظام بشار الأسد خسرت روسيا أهمّ مواقعها العسكرية في المنطقة ولم تتردّد لحظة في نقل معداتها العسكرية من ميناء طرطوس وقاعدة حميم إلى مينائي طبرق وبنغازي في ليبيا ونقل جنود والطائرات الحربية إلى قواعد “معطن السارة” و”الخروبة”. وتهدف روسيا إلى تأسيس الفيلق الإفريقي انطلاقا من شرق ليبيا بالاعتماد على ولاء حفتر، هذا الولاء أصبح محلّ قلق أمريكي حقيقي ولا تزال السياسة الأمريكية ضبابية في هذه النقطة رغم تحذيرات كثيرة من مراكز بحث ومسؤولين أمريكيين.
تركيا وقطر وتقاسم الأدوار الدبلوماسية والعسكرية
ظلت مصر وفيّة لحليفها خليفة حفتر بتوفير الدعم السياسي والمخابراتي والعسكري، في المقابل زادت قطر في تحركاتها الدبلوماسية لدعم الأطراف المناوئة لحفتر، وسلّمت الملف العسكري إلى تركيا التي تصدّت عبر طائراتها المسيّرة لحفتر حين محاولته دخول طرابلس، وأمضت عدة اتفاقيات أمنية وعسكرية واقتصادية مع حكومتي السراج والدبيبة.
تعتبر تركيا اليوم اللاعب العسكري الرئيسي في ليبيا إلى جانب روسيا وهو دور تباركه الولايات المتحدة ولعله هو ما يفسّر السياسة الأمريكية المتغاضية عن الدور الروسي وتسليم الأدوار العسكرية للأتراك. لقد عززت تركيا وجودها العسكري في طرابلس منذ 2019 وأنشأت معسكرات لمرتزقة سوريين في طرابلس يتحركون تحت إشرافها، وقوات عسكرية تركية في قاعدة معيتيقة وسط طرابلس. يتميّز تفوقها العسكري بإدارتها للطائرات المسيّرة المتطورة، وقوات أخرى من النخبة العسكرية الجوية في مصراتة لتقديم التدريب والدعم الفني لقوات مصراتة التي تتبع وزارة الدفاع بحكومة الدبيبة، أمّا الوجود العسكري الأهمّ فهو في قاعدة الوطية القريبة من الحدود التونسية والتي يوجد فيها ما بين 300 إلى 500 جندي تركي وتشرف عليهم أنقرة بدعم أمريكي.
مثّل التنافس المصري – التركي والأمريكي – الروسي في ليبيا عاملا مهمّا ساهم في إفشال أيّ تقدّم في مسار العملية السياسية وبهذا أصبح الانتقال الديمقراطي يواجه تحديات داخلية تغذّيها صراعات القوى الإقليمية وتناقض مصالحها واستراتيجياتها.