تستمرّ سلطة الانقلاب في مصادرة الحقوق والحريات من خلال تنظيم المحاكمات الصورية والجائرة لخصومها، فبعد المحاكمة المهزلية التي عُرِفت بملف المؤامرة والتي لم يتوفر فيها أدنى شروط المحاكمة العادلة، ها هي تنظم محاكمة المؤامرة 2 والتي تشمل مسؤولين سابقين كبار مثل نادية عكاشة، مديرة الديوان الرئاسي السابقة والمرأة القوية في قصر سعيد حتى فرارها إلى الخارج، ويوسف الشاهد، رئيس الحكومة السابق، فضلا عن قادة من حركة النهضة مثل الغنوشي والعريض واللوز وشورو وزيتون… ومثل سابقتها، انطلقت هذه القضية من وشاية من شخص غير معلوم (X – ايكس) عن مخطط لقلب نظام الحكم. وها هي وزارة العدل التي تشكل اليوم رأس حربة الهجوم الممنهج على الحريات تشرع في المحاكمة دون احترام لأبسط الشروط والمقوّمات وسط لامبالاة واسعة من الرأي العام والوسط المسيّس بحكم القناعة الحاصلة بصوريّة المحاكمة وارتهان القضاء الذي تحوّل إلى مجرّد وظيفة تابعة للحاكم بأمره. وقد تأجلت المحاكمة إلى جلسة قادمة في شهر جوان، والواضح أنّ مآلها لن يكون إلّا على شاكلة المحاكمة الأولى.
كما تمّت محاكمة شباب قابس الذين تحرّكوا الأسبوع المنصرم احتجاجاً على التلوّث الذي يطال المدينة والجهة جرّاء المركب الكيمياوي المنتصب منذ عقود ليدرّ المليارات على خزينة الدولة ويهب العذاب والجحيم لقابس بشرا وأرضا وبحرا وجوا، وبسرعة البرق أصدرت محكمة الناحية يوم الأربعاء أحكاما سالبة الحرية وصلت أربعة أشهر سجنا للشاب محمد علي الرتيمي وشهرين لكلّ من الشابين معز راجحي وأنس شتونة، وقد أكدت هذه المحاكمة والأحكام الصادرة عنها عداء النظام للحرية في أبسط تجلياتها.
وإمعانا في التنكيل بخصوم النظام أقدمت مصالح وزارة العدل (اقرأ القهر) على نقل القادة المعارضين؛ عصام الشابي إلى سجن برج الرومي وغازي الشواشي إلى سجن الناظور ورضا بلحاج إلى سجن سليانة. والمعلوم أنّ هذه النقل (“الكونفة”) لا هدف لها سوى خلق أعباء وصعوبات جديدة للعائلات، فضلا عن تفريق العائلات عن بعضها بهدف إضعاف حركة الاحتجاج والتضامن، وهو أسلوب يعيد إلى الواجهة ممارسات نظام بورقيبة وبن علي وأضرابهما من أنظمة الاستبداد والتعسف.
إنّ تصاعد الهجوم الممنهج على الحريات يعكس طبيعة النظام الذي يتمترس بكل صلف وراء الأجهزة الصلبة وعلى رأسها الأمن والقضاء كجهازين قهريين يشكل تنامي دوريهما علامة فشستة وظلم. لكن لا قيس سعيد ولا زبانية نظامه يريدان الاتعاظ من التاريخ. فقبضة القمع لن تولّد إلّا تثوير وعي القمع وشحن شروط الانتفاض والثورة، فالصمت على القهر لن يستمرّ والمجتمع لن يقبل التضحية بالحرية فبدونها يموت ويتعثر.
