الرئيسية / صوت الوطن / منظومة الامتحانات عنوان لفشل المنظومة التّربويّة
منظومة الامتحانات عنوان لفشل المنظومة التّربويّة

منظومة الامتحانات عنوان لفشل المنظومة التّربويّة

بقلم سها ميعادي

يعيش المجتمع التونسي والأسر التونسية خلال السنة الدراسية وفي نهايتها على وقع الامتحانات في مختلف المراحل التّعليمية. فبها يرتبط مصير المتعلّمين ومستقبلهم الدراسي والعلمي. ومن البديهي القول إنّ منظومة الامتحانات والتّقييم تحتلّ مكانة جوهرية في المنظومة التربوية بل هي من أبرز ركائزها لذلك يعتبرها الكثيرون مقياسا أساسيّا معتمدا للوقوف على نجاح أو فشل النّظام التربوي الذي ما فتئ يلقى نقودا متواترة من قبل كافة المتدخّلين في الشأن التّربوي نتيجة ما خلّفه من فوارق طبقيّة من جهة ومن ضغوط اجتماعية ونفسية على المتعلّمين وأسرهم من جهة أخرى.

تشخيص منظومة الامتحانات في تونس

حدّد الإطار المرجعي المتعلّق بالتّربية والتّعليم المدرسي في تونس ضمن القانون التوجيهي عدد 80، المؤرّخ في 23 جويلية 2002 في الباب السّابع نظام التقييم حيث يؤكّد على خضوع «كافة مكونات التعليم المدرسي للتقييم الدوري والمنتظم»، ويهدف هذا التقييم إلى «القيس الموضوعي لمردود التعليم المدرسي والمؤسسات الراجعة إليه بالنظر وأداء العاملين بها ومكتسبات التلاميذ، بغية إدخال الإصلاحات والتعديلات اللازمة لضمان تحقيق الأهداف المرسومة…» و«يتمّ تقييم مكتسبات التلاميذ بصفة مستمرة خلال كافة مراحل التعليم في تكامل مع عملية التعلم وفي تفاعل معها. ويكتسي التقييم صبغة تكوينية وتشخيصية أثناء التعلم وصبغة إشهادية في نهايته»، و«يمكن في نهاية الدراسة بالمرحلة الابتدائية ولكل راغب في ذلك المشاركة في مناظرة للدخول إلى المدارس الإعدادية النموذجية»، كما «يمكن في نهاية الدراسة بالمرحلة الإعدادية ولكل راغب في ذلك، اجتياز امتحان وطني للحصول على “شهادة ختم التعليم الأساسي العام” أو “شهادة ختم التعليم الأساسي التقني”». هذا و«يختتم التعليم الثانوي بكل شعبة من شعبه بامتحان وطني يحصل الناجحون فيه على شهادة البكالوريا».
وبالعودة إلى نظام الامتحانات في الإعدادي والثانوي، على سبيل المثال، نجد أنّ السّنة الدراسية تنقسم إلى 3 ثلاثيات يُختبر التلميذ فيها في جميع مواد التّدريس في شكل فروض مراقبة وفروض تأليفية ضمن ما يُعرف بالأسبوع ما قبل المغلق والأسبوع المغلق وحسب مواد كل مستوى تعليمي. هذا وتصدر وزارة التّربية روزنامة مدرسية في مفتتح السنة الدراسيّة تضبط فيها مواعيد الامتحانات والعطل.
إنّ المتأمّل في نسق دورية الامتحانات وفي ارتباطها بفترة زمنية محدّدة يمكن أن يلاحظ الكمّ الهائل من الاختبارات التي ينجزها التّلميذ في فترات قصيرة. وإن أخذنا عيّنة بسيطة لوجدنا أنّ تلميذ السنة الأولى ثانوي مطالب بإجراء 26 فرضا كتابيا خلال كلّ ثلاثي منها، 14 فرضا عاديّا و12 فرضا تأليفيّا خلال أسبوعين في نهاية الثلاثي، إضافة إلى 3 اختبارات تطبيقية و7 اختبارات شفاهيّة، أي ما جملته 33 امتحانا. ولئن اتّسمت الثلاثية الأولى ببعض الأريحية في إنجاز الفروض فإنّ الثلاثيّتين الثانية والثالثة تشهد ضغطا كبيرا. فالتّلميذ لا يكاد يخرج من امتحان حتّى يدخل امتحانا آخر وهكذا دواليك في دوّامة لا تنتهي من الاختبارات الكتابية المتراكمة المرهقة. وبالنّظر إلى قصر الثلاثيّتين الأخيرتين والملاءمة بين السّعي إلى إتمام برامج المواد التّعليمية من جهة والاختبارات من جهة أخرى، كثيرا ما يجد التّلميذ نفسه يُنجز فرضين في اليوم نفسه وفي موادّ أحيانا لا تحتمل الجمع بينها، خاصّة بالنّسبة إلى السّنة الدراسيّة الحالية وما شهدته من تغييرات في مستوى الروزنامة سواء المتعلّقة بفترة العيد (تأثير ذلك خاصة على تلاميذ الباكالوريا) أو بسبب إدخال إجراءات استثنائية على امتحانات الثلاثي الثالث. وتبعا لذلك لا يكون من دور للتّقييم سوى محاولة التّلميذ استرجاع معلومات يسعى إلى استحضارها يوم الفرض ولكنه ينساها بسرعة وينسى محتوى المادّة مباشرة بعد الامتحان. كيف لا وهو مطالب بأكثر من 90 اختبارا طيلة السنة الدراسيّة (تلميذ أولى ثانوي).

منظومة الامتحانات، عبء نفسي وأخلاقي

لا شكّ في أنّ كثرة المواد الدراسية وما يصاحبها من كثرة الاختبارات التي يغلب عليها التقييم الكتابي الجزائي إضافة إلى الزمن المدرسي المرهق وعدم التّوازن بين ضوارب المواد يؤدّي حتما إلى انعكاسات نفسية وتربوية وإلى نتائج سلبية على التّلميذ الذي اعتبره القانون التّوجيهي “محور العملية التّربوية”. فمثل هذه المنظومة لا يمكن إلاّ أن تسبّب الإرهاق الذّهني والإنهاك البدني وتجعل التّلميذ غالبا ما يحسّ بضعف التّركيز، دون أن ننسى طبعا التّعب النّفسي نتيجة الضّغط العائلي. فالمجتمع التونسي بقدر ما يولي أهميّة للتّعليم إلاّ أنّه يولي أهميّة أكبر للمعدّل العددي. فالعدد المسند هو المؤشّر الوحيد لنجاح التّلميذ ولقيس مدى جديته وانضباطه واستيعابه واهتمامه بالتّحصيل العلمي. وأمام هذه الرّغبة الجامحة في إحراز معدّلات تتفاخر بها الأسرة لا تتوانى العائلات التونسية في اللّهث وراء دروس التّدارك والدّروس الخصوصيّة التي تزيد في إثقال كاهل التلميذ. فلم يعد يجد مجالا للتّنفيس عن نفسه أو القيام بأنشطة تلائم سنّه ووقته واهتماماته. بل إنّه يستبطن رؤية العائلة والمحيط للعدد، فيتعاظم خوفه من تحقيق نتائج لا ترتقي لانتظاراتها أو من إمكانية الفشل. ولعلّ من بين الأسباب أيضا التي تشكّل ضغطا على قسم من التلاميذ هي رغبتهم المفرطة في التّميّز العددي بما تستوجبه من منافسة شرسة أحيانا بينهم.
وأمام محاولة التّخلّص من هذا الضّغط النّفسي والأسري بسبب نمط التّقييم ودوريّته يجد الكثير من التّلاميذ ضالّتهم في الغشّ الذي ارتفعت نسبه بشكل لافت للانتباه في مختلف المستويات بما في ذلك في امتحانات الباكالوريا، حيث يصبح الغش الإجابة “الواقعية” لتجاوز معضلة الامتحانات بكلّ ما تحمله من إنهاك وضعف القدرة المطلوبة للتّركيز وللفهم والتّحليل وتملّك المعارف المطلوبة. إنّ الغشّ في هذا المستوى ليس سوى ترجمان عن أزمة منظومة تعليميّة يمثّل نظام الامتحانات وجها من أوكد وجوهها.

ختاما

إنّ منظومتنا التّربوية جعلت من الامتحانات ومن التّقييم هدفا في حدّ ذاته بعيدا كلّ البعد عن صبغته التّكوينية التي أقرّ بها المشرّع في القانون التّوجيهي، فلم يستطع أن يكون حقيقة مطيّة للتّعلّم ولتطوير قدرات المتعلّمين. بل إنّ هذه المنظومة وبما تحتويه من منظومة الامتحانات الحاليّة لم تستطع أن تستوعب مختلف التغييرات التي شهدها المجتمع التونسي في مختلف أوجهها ولم تستطع أن تكون جريئة وقادرة على تلبية حاجيات أجيال جديدة من المتعلّمين وعلى أن تساهم في تكوين ونحت كيان التّلميذ التونسي الذي نريد. الأمر يتطلّب إرادة سياسية وتربوية لم تجد الحكومات المتعاقبة منذ الثّورة طريقها إليه ولم يكن التعليم ومشاغله من أولويّاتها.

إلى الأعلى
×