أنور الشعّافي.. أبرز رموز “التجريب” كرّس حياته لمسرح متجدّد
بقلم سمير جراي
في المقبرة المطلّة على الوادي الكئيب، في قرية “حسي عمر” بمعتمدية مدنين الجنوبية، أجدني بين ماضٍ قريب وحاضر بعيد ومستقبل لا يأتي، ماضٍ بذكريات تضحكني، وأخرى تبكيني، وأخريات كصور رمادية أستذكرها مع حنين للغائبين، وألبومات باللون الأسود والأبيض وبلا صوت، ودموع تائهة تخفي كلمات حزينة تخاطب الراقدين المتناثرين والمشتّتين، هؤلاء الذين يراقبون الوادي الذي لم يجرِ قط، وكان ملاذا لكلابٍ سائبة، يؤنس نباحها ليل الموتى الذين لم يُجيدوا فنَّ الغياب، لكنّهم أجادوا فنّ الحبّ. وذكريات راسخة، “لا تقيم فينا بل هي تغلّف حياتنا، وهي كلّ ما حولنا من أشياء نحيط أنفسنا بها” بوصف أحلام مستغانمي.
هنا ألقيت التحية على أنور الشعّافي، وقد مرّ أكثر من شهر منذ غفوته الأخيرة، لكنه مازال يخاطب الإنسان فينا بسينوغرافيا خاصة به، جعلت المقبرة مسرحا تجريبيا، والمسرح حياة كما كان يراه، فكأنه يخاطبني ليقول “إن رحلة الركح بدأت من هنا وها هي تعود هاهنا، أموت أنا ولكنها لا تموت”.
أحيينا منذ أيام أربعينية فقيد المسرح التونسي والعربي ورائد مسرح التجريب أنور الشعّافي، وفقدت الساحة الثقافية التونسية والعربية المخرج والسينوغرافي الكبير يوم 30 أفريل الماضي، وحلّقت روحه بعد معاناة طويلة مع مرض قاومه بكل شجاعة.
من النشأة إلى الاحترافية.. سيرة ثرية لفنان مختلف
في قريتنا “حسي عمر” قبل نصف قرن، ألّف أنور الشعّافي وأخرج أول مسرحية له وهو لم يبلغ العاشرة من عمره بعد، كانت مسرحية للأطفال عرضها مع خلّانه في ذلك الزمان، ومن هناك بدأ رحلة الركح التي أضاءت دربه، ورسمت حياته، ولم ينضب عطاؤها..
سنة 1988 تخرّج فقيدنا من المعهد العالي للفن المسرحي بتونس وكان مشروع تخرجّه عن مسرحية «في انتظار غودو» للألماني الكبير صموئيل بيكيت، واقترن اسمه بفنّ التجريب ولم يتوقّف عن التجديد ورفض السائد، وفي تجربة رائدة وفريدة أسّس فرقة مسرح التجريب بمدنين سنة 1989 ونجح في إقامة المهرجان الوطني لمسرح التجريب سنة 1992، ومنذ سنة 1990 قدّم أعمالا أحدثت الفارق، فقد كان غزير الإنتاج بمعدل عمل مسرحي كل عامين تقريبا.
بعد سنوات أسّس مركز الفنون الركحية والدرامية بمدنين سنة 2011. وتقلد منصب مدير عام المسرح الوطني من 2011 إلى 2014.
ليس من الغريب أن في رصيده أكثر من عشرين عملا مسرحيا مثلت اختلافا نوعيا في المسرح التونسي، وقد أجاد بوفاء كبير ترجمة الكتابة المسرحية الحديثة، وكان يرى كتابات يون فوسه، أعظم النصوص المسرحية بعد إبداعات شكسبير، وربما هذا المخاض المسرحي جعل فكره التحرري يبتعد عن الإجماع وعن الأكاديمية الروتينية ليكون ناقدا لها، وعن التكرار الممجوج ليصنع مجدا جديدا متمردا عن القداسة الأولى للخشبات العتيقة المتآكلة، فتاريخ الفن الرابع مليئ بتجارب النقد والهدم والتجديد.
المسرح عند أنور الشعّافي منهج حياة وليس مجرّد ترف مهني
سخّر أنور الشعّافي حياته للمسرح واتخذه منهجا لحياته ولم يكن الركح في حياته خشبة للعرض فقط أو ترفا مهنيا عابرا، بل كان مشروعا للبناء والإنتاج والتمرّد والثورة، وكان من الذين يؤمنون بأن المسرح فنّ ومقاومة ونضال والتزام.
على امتداد ثلاثة عقود اتّخذ المسرح التجريبي بوصلة فنية، ومن أهم أعماله “رقصة السرو” التي قدمتها فرقة مسرح التجريب بمدنين في أولى عُروضها عام 1991، و”الدرس” و”عود رمان” (1993) و”ترى ما رأيت” (2011) و”أولا تكون” (2016) و”هوامش على شريط الذاكرة” (2019) و”كابوس أينشتاين” التي ما زالت تعرض إلى اليوم. ولفتحه مسارات جديدة وابتكارات لم يسبقه إليها أحد في الفن الرابع أصبح الشعّافي واحدا من رموز التجديد المسرحي ما جعله ينال مكانة مهمة في حراك المسرح العربي.
التقت صوت الشعب الفنانة المسرحية والممثلة منال عبد القوي التي تجمعها علاقة استثنائية مع الراحل أنور الشعّافي لتخبرنا عن أنور الإنسان والمربي فتحدثت بلوعة دون أن تحبس دموعها “تعرّفت على أنور الشعّافي منذ كنت تلميذة قبل ثلاثين سنة وكان أستاذا للمسرح في مدينة مدنين، فكنت أنتقل من جربة أين أسكن وأدرس، إلى مدنين كل يوم جمعة لأحضر درس المسرح الذي كان يقدمه، وتعلمنا منه قواعد المسرح المدرسي، بعد سنوات وعندما انتقلت للدراسة الجامعية بالمعهد العالي للفنون المسرحية بتونس كان خير سند لي، فكان ينقلني بسيارته لمتابعة المسرحيات في مدن أخرى ويقدم لي المراجع والكتب وكان بمثابة الأب والأخ والأستاذ والمؤطر، هو كذلك أنور الإنسان الذي أحبّنا وألهمنا ووقف دوما إلى جانبنا”.
وتضيف بصوت حزين: “أنور كان هو المسرح بالنسبة لي، لقد رافقني طيلة مسيرتي الدراسية والفنية والمهنية دون كلل، كان شديد الفخر بطلابه ويدعمهم في كل نجاحاتهم وخيباتهم، بعد سنوات اشتغلت معه في المسرح الوطني عندما كان يديره لثلاث سنوات تقريبا قدمنا فيها احتفالية ثلاثينية المسرح الوطني وأعمالا عدة”.
وعن آخر أيامه في المستشفى قبل وفاته تقول عبد القوي “إثر ذلك وعند تعرضه للأزمة الصحية كنت أزوره باستمرار، وأتابع تطورات وضعه الصحي فتكونت لي علاقة وطيدة مع كل عائلته وجمعتنا كل المناسبات العائلية الحزينة والسعيدة، في آخر أيام مرضه كنت أتواصل معه بشكل يومي واتصل بي قبل وفاته بتسعة أيام ليقول آخر كلماته، أحبك ابنتي، بلغي تحياتي لكل الأصدقاء، ثمة تعكّرت حالته الصحية ولم يعد قادرا على المهاتفة فكنت في اتصال مع مرافقه ضو الحداد إلى أن جاءت تلك المكالمة الأخيرة لأسمع تمتماته الأخيرة وهو ينطق الشهادتين، وأدخلوه لغرفة الإنعاش وبعد ساعات غادر هذا العالم نهائيا”.
مسرح التجريب يحوّل المدن من مجرّد طريق عبور إلى فضاء حقيقي للتفكير والبحث
يقول المخرج السينمائي عبد الله شامخ في حديث لـ”صوت الشعب” بصوت فيه الكثير من الحسرة إن “مدنين، قبل أنور الشعّافي، لم تكن سوى سوق أسبوعية تنام باكرًا، لا تعرف شيئًا عن الليل سوى سكونه. مدينة هامشية بالكاد تستفيق على إيقاع الزمن الثّقافي، كان الكبير محمد العوني، وحيدًا فوق “القنطرة”، يصارع التصحّر والفراغ، يُجاهد كي يبقي جذوة الحياة مشتعلة من خلال فتات العروض الصيفية، ويحارب التكلّس الثقافي بأسلحة بسيطة ولكن عنيدة. ثمّ جاءت بداية التسعينات، ومعها جاء “مسرح التجريب” بقيادة أنور الشعّافي وبقيّة الأصدقاء، فحدث التحوّل الحقيقي، تحوّلت مدنين من مجرّد مدينة عبور إلى فضاء حقيقي لطرح الأسئلة الفكرية والنفسية والاجتماعية”.
ويضيف بنبرة متفائلة: “لم يعد المسرح مجرّد ترفٍ أو استعراض، بل أصبح مختبرًا للتجريب والبحث، منصّة لحوارات معمّقة مع الجمهور، ليس فقط مع النخبة، بل مع الناس البسطاء الذين وجدوا في خشبة المسرح صدى لأسئلتهم اليومية وأوجاعهم العميقة”.
المخرج عبد الله شامخ ابن مدنين من الأصدقاء المقربين للفقيد ورافقه لسنوات في رحلة البحث عن التجديد والتأثير، يحكي لنا شامخ عن أثر أنور الشعّافي في “مدنين المسرحية”: “كان المسرح في مدنين، بفضل أنور الشعّافي، ثورة صامتة تغيّر نمط التفكير وتفتح أبوابًا جديدة للوعي، في وقت كانت فيه البلاد – وخاصة مدن الهامش– تعاني من الإقصاء الثقافي، لقد كان التجريب المسرحي نوعًا من المقاومة، مواجهة بالمعنى العميق ضدّ الرداءة”.
وعن الثقافة والمسرح في مدينتنا مدنين يقول صديقنا السينمائي المناضل “لم تعد الثقافة في مدنين أداة للتحرّر أو مساحة للتفكير، بل تحوّلت تدريجيًا إلى واجهة مناسباتية، وإلى نشاط موسمي مفرغ من المعنى، وإلى سلعة ضمن تجارة موازية تُدار تحت لافتات وهمية”.
ويضيف عن صديقه الغائب، “لم يكن أنور الشعّافي مجرّد مخرج مسرحي مرّ من هناك، بل كان ناسكًا في محراب المسرح، وراهبًا للفكر في أرض جافة. ترك أثرًا، لكنّ المدينة فضّلت النسيان، لأنّ ذاكرته كانت تُحرّض على التفكير، وهي لم تعد تطيق مرآة الوعي”.
وفي نقاش واستذكار لفنانا الفقيد مع الممثل والمخرج وأستاذ المسرح أحمد أمين بن سعد استفاض في الحديث ليؤكد أن “أنور الشعّافي كان منذ سنواته الأولى كممثل ومخرج وخاصة كباحث مسرحي ميداني من الأولين الذين حاولوا إخراج المسرح الوطني التونسي من مركزيته في العاصمة، وبحث عن فضاء مسرحي مختلف ينبع من اللامركزية المسرحية والثقافية والحضارية، وفكّر بداية في مسرح جنوبي، صحراوي، بدوي، يَلُهم من التفرعات الاجتماعية التونسية واشتغل على ذلك لسنوات طويلة”.
ويواصل بن سعد حديثه: “عندما انتقل الشعّافي إلى العالمية وعُرف في فرنسا وبلجيكا وكندا وبقية الدول التي زارها تاركا بصمته فيها، وخاصة في مهرجان “أفينيون” العالمي في فرنسا واختلاطه بمسرحيين عالميين عُرف بمباحثه في الفضاء المسرحي، وحافظ بما وجد من إمكانيات مسرحية خام دون أدوات سينمائية وتقنية متطورة على مسرح رباعي الأبعاد وهذا يحسب له، كما أنه لم يتخلّ عن حلمه في رهانات مسرحية تدافع عن قيم إنسانية كالعدالة الاجتماعية ولم يتوان عن تشريك كل فئات المجتمع في المسرح، فكان يؤمن بمسرح شعبي مفكّر حتى لا نقول نخبوي، مسرح يكُن قاطرة للتقدم والوعي فكرا وممارسة”.
وعن مهرجان المسرح التجريبي بمدنين يقول: “تحول مسرح التجريب والمهرجان في مدنين إلى محطة مهمة جدا في تاريخ المسرح التونسي وحتى العربي والغربي الناطق بالفرنسية، واستقطب جمهور مدنين الذي عرف بشغفه بالأدب والشعر، وأعاد إلى المسرح تقليد النقاش في هذا المهرجان، وكنا كمسرحيين نحسب ألف حساب لمهرجان المسرح التجريبي بمدنين، أنور الشعّافي أسس وطوّر وأبدع في المسرح إلى آخر رمق وبكل شغف كان فاعلا ومبدعا وناقدا”.
يقول الشعّافي “المسرح هو خيال رحب لا يستكين للمسلّمات الجمالية وتاريخ المسرح هو تاريخ هدم وتقويض، ولا بد من نزع صفة القداسة عن أرسطو مصّاص دماء المسرح الغربي، كما عنونت فلورنسا دوبونت كتابها، ذلك أن الانحناء للقواعد القديمة يجعل المشهد المسرحي مستنسخا من بعضه بعضا”.
هكذا أردناها في “صوت الشعب” لمسة وفاء وتكريم لمبدع مسرحي وباحث كرّس سنوات طويلة من حياته للمسرح والفنّ والحياة.