الرئيسية / صوت الوطن / قضيّة اللباس والمصليات في المؤسسات التعليمية: في الموازنة المطلوبة بين احترام حرية الفرد وحياد المرفق العام وتخصّصه
قضيّة اللباس والمصليات في المؤسسات التعليمية: في الموازنة المطلوبة بين احترام حرية الفرد وحياد المرفق العام وتخصّصه

قضيّة اللباس والمصليات في المؤسسات التعليمية: في الموازنة المطلوبة بين احترام حرية الفرد وحياد المرفق العام وتخصّصه

بقلم محمد الحباسي

بمناسبة العودة الجامعية، أصدرت كليتا الحقوق والعلوم السياسية والتصرف والعلوم الاقتصادية بجامعة تونس المنار بلاغًا مشتركًا موجّهًا إلى الطلبة يتعلّق ببعض التراتيب الواجب احترامها داخل الحرم الجامعي. وأبرز ما تضمّنه البلاغ الدعوة إلى الظهور بهندام لائق، حيث يُمنع ارتداء السراويل الممزقة والتنانير القصيرة والتبّان والمبالغة في استعمال مواد التجميل. وفي الأيام الأخيرة، طرحت في بعض المؤسسات التربوية مظاهر لأداء الصلاة بشكل جماعي، واستغل البعض ذلك للدعوة إلى إقامة مصليات داخل هذه المؤسسات. وتثير هذه القضايا مسائل على غاية من الأهمية تتعلق بحرية اللباس والمعتقد وبحياد المرافق العامة.

إنّ حرية اللباس مرتبطة بحرية المعتقد، وبالمسألة الديمقراطية، وبقضية علمانية الدولة ولائكيّتها. وهذه الأخيرة تُعدّ الشرط السياسي لتطور المجتمعات، إذ تضمن الدولة الحرية للجميع كمبدأ. غير أنّ بعض المقتضيات المرتبطة بضمان تعايش الحقوق والحريات تفرض بدورها تنظيم ممارسة هذه الحرية.

أوّلا: فرض اللباس بين التمييز والسلطوية وحرية الفرد

يُعدّ فرض لباس محدد على الإناث دون الذكور إجراءً تمييزيًا صريحًا، يعكس ثقافة مجتمعية تقوم على التفرقة بين الجنسين، ويساهم في إعادة إنتاج هذه الثقافة داخل الذهنيات والممارسات اليومية. ولا يقتصر هذا النوع من الفرض على المظهر الخارجي فحسب، بل يمتد أيضًا إلى تشكيل تصورات الشباب حول أدوار الجنسين في المجتمع، ممّا يعزز الفوارق ويكرّسها بشكل منهجي. كما أنه يتجاهل التطورات المرتبطة بالهويات الجندرية ويكرّس النظرة التنميطية والسكونية تجاهها.

وقد راجت في الأوساط الإعلامية الافتراضية مواقف كثيرة حول الموضوع منها ما يقترح اعتماد زيّ موحد للذكور والإناث في المؤسسات التربوية وهنا لا بدّ من التأكيد على أنّ فرض لباس موحد على جميع الطلاب، هو إجراء ذو بعد سلطوي وتنميطي، إذ يعكس امتثالاً إجبارياً من خلال فرض نمط/طراز واحد على الجميع وهو ما يؤثر مباشرة على حرية الفرد، وله تداعيات ثقافية واجتماعية خطيرة على المستويين الفردي والجماعي.

وفي المؤسسات التربوية تبقى حرية اللباس مسألة شخصية ومبدئية، ويجب احترامها، إلا أنه من الضروري إظهار الوجه لضمان التعرف على الهوية وتحقيق حسن سير العملية البيداغوجية في المؤسسات التعليمية والجامعية. وينبغي إيجاد توازن مدروس بين هذه الحرية والمعتقدات الفردية من جهة، ومتطلبات الأمن الجماعي وحسن سير المرافق العامة من جهة أخرى، بما يخدم مصلحة الفرد والمجتمع على حدّ سواء. وقد تبنّت المحكمة الإدارية في تونس هذا التوجه المتوازن منذ عام 2011.

إنّ اختيار اللباس يرتبط بحرية شخصية عميقة متصلة بالضمير والاختيارات الفلسفة الكبرى (المضمونة دستوريا) في أبعادها الفكرية والأخلاقية والجمالية، وهي مسألة جدلية ونسبية لا يمكن إخضاعها لمقاربة سلطوية أو أخلاقوية. فالحرية مسألة قيمية تتجاوز أيّ عملية إجبارية سلطوية، وأيّ منع يتجاوز هذه الأبعاد يعكس نزعة تسلطية قائمة على خلفية نظامية وأخلاقية امتثالية.

وفي السياق الشعبوي، غالبًا ما يُستخدم هذا النزوع الأخلاقي كغطاء لإخفاء تقاعس السلطة عن تحمّل مسؤولياتها تجاه الملفات الحقيقية والتحديات الجوهرية للمؤسسات والمجتمع. فهروبا من تحقيق مقتضيات حسن سير المرافق العامة من بنية تحتية وخدمات ومن تحسين لأوضاع المربين والأساتذة وأعوان المرفق عموما تركز المؤسسات على هذه القضايا بمسحة أخلاقوية ربما تجد لها قبولا في بنيات سوسيولوجية وثقافية معينة.

وعمليا يكون ضمان الحرية عند عملية تنظيمها وتقييدها من خلال إحاطتها بجملة من الضمانات الدستورية والقيمية من خلال احترام نظام إجرائي دستوري يعدّ أحد أهمّ الضمانات الأساسية للحقوق والحريات يستند فيه التقييد أو تنظيم الحق والحرية على المقومات التالية:

  • أن يكون التقييد بقانون والمسألة ليست محظ قضية إجرائية بل يجب أن يكون القانون المنظم للحرية ديمقراطيا أي صادر عن برلمان منتخب في نظام ديمقراطي ووفق مقاربة تشاركية تُتبع في نقاشه وإقراره.
  • الضرورة: يجب أن تكون هناك ضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية.
  • مصلحة مشروعة: يجب أن يكون الهدف من الضابط هو حماية أحد الأسباب المحددة التالية:
    • حماية حقوق الغير
    • مقتضيات الأمن العام
    • الدفاع الوطني
    • الصحة العامة
    • الآداب العامة

وبالنظر للطابع العام والمطاطي لهذه العبارات فيجب أن تخضع للرقابة المشددة من قبل قاضي دستوري مستقل.

  • التناسب: يجب أن تتوافق الضوابط مع موجباتها، أي أن يكون حجم القيد متناسبًا مع مصلحة التحقيق.
  • عدم المساس بالجوهر: يجب ألا ينال الضابط من جوهر الحق أو الحرية.

تتكفل الهيئات القضائية بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك، ويجب أن لا تمسّ أيّ تعديلات مستقبلية بالحقوق والحريات المضمونة في الدستور ولا غرو أن ذلك لا يمكن في ظل قضاء تابع أو مرهب بل في ظل قضاء مستقل يمثل سلطة حقيقية وفعلية قادرة على صد كل المرامي السلطوية للسلطة التنفيذية.

إن حرية اللباس قضية مرتبطة أشد الارتباط بحرية الضمير وهي مسألة يجب أن لا تخضع لأي مقاربة سلطوية تنال من جوهرها وهذه الحرية هي في ترابط مع الحقوق والحريات الأخرى وأيّ نيل من إحداها يؤدّي إلى النيل منها كلها والضمانة لتجنب ذلك هي دولة ديمقراطية تمارس الحياد الديني والسياسي للمرافق العامة والمساواة أمامها سواء تعلق الأمر بمستعملي المرافق أو أعوانه. دولة تضمن الحقوق المدنية والسياسية ولا تراقب ضمائر الناس مع ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية لكل الناس عبر دولة اجتماعية تتحمل مسؤوليتها من خلال مرافق عامة عصرية ومتطورة تلبّي الحاجيات المواطنية. كل ذلك في إطار مشروع أشمل عبر اقتصاد وطني قويّ ومنتج للثروة يضمن حسن توزيعها في شكل حقوق أساسية للمواطن، وهو توجه غير ممكن دون خيارات اقتصادية وطنية وعبر نموذج ديمقراطي جوهره ومنطلقه الحرية كغاية والسلطة كخادم للحرية عبر فصل حقيقي للسلطات وتوازن بينها وقضاء مستقل ضامن للحقوق والحريات وقضاء دستوري يحمي الحقوق والحريات من تعسف أيّ أغلبية ومن خلال نظام دستوري ديمقراطي. إنّ احترام حرية اللباس أو غيرها من الحريات لا يمكن أن يضمن بصفة فعلية وناجزة إلا في ظل نظام ديمقراطي حقيقي كما لا يمكن تشييد نظام ديمقراطي دون عدالة اجتماعية وسيادة وطنية وهي قضايا مترابطة ومتداخلة. لا تنمية دون حرية ولا حرية دون سيادة وطنية وعدالة اجتماعية وهذا الربط لا يمكن تحقيقه بالنسبة للدول التابعة إلا في ظل نظام ديمقراطي وطني وشعبي.

في ظل غياب قانون ينظم هذه المسألة خلاف ما هو عليه الأمر في فرنسا أين حسم القانون رقم 2004-228 المؤرخ في 15 مارس 2004 الجدل الفقهي والقضائي الطويل حول ارتداء الرموز الدينية في المدارس، حيث أدرجت المادة L.141-5-1 في مدوّنة التربية. وتنصّ على منع ارتداء العلامات أو الأزياء التي تُظهر بشكل واضح الانتماء الديني في المدارس والإعداديات والثانويات العمومية، مع التأكيد على أنّ أيّ إجراء تأديبي يجب أن يسبق بحوار مع التلميذ، تبنّت المحكمة الإدارية في تونس توجها توفيقيا الأصل فيه هو احترام حرية اللباس والمعتقد ولكن مع إعطاء سلطة للإدارة واعتبرت أنّ المنع يجب أن يكون مؤقتًا ومرتبطًا بمبررات موضوعية (مثل ضرورة كشف الوجه أثناء الامتحان للتحقق من الهوية) بمعنى أنّ التقييدات يجب أن يكون الغابة منها ضمان الأمن والتعرف على الهوية وحسن سير المرافق العامة والعملية البيداغوجية. وعمليا أبطلت المحكمة الإدارية منع الحجاب لأنه لا يتعارض ومقتضيات حسن سير العملية التربوية وأجازت تقييد النقاب بصفة مؤقتة للتثبت من هوية الطالبة ولضمان حسن سير العملية البيداغوجية.

ثانيا: المصليات وحياد المرافق العامة

إنّ الدولة الديمقراطية لا تعادي الدين وهي على العكس من ذلك تضمن للجميع حرية الضمير والمعتقد وحرية القيام بالشعائر الدينية وهي حقوق فردية تضمنها الدولة الديمقراطية العلمانية التي تتأسس على كونية حقوق الإنسان وشموليتها وترابطها وتكاملها أي كل الحقوق لكل الناس إلا أنّ ممارسة هذه الحقوق يجب أن يتمّ تنظيمها بالقانون. والدولة الحديثة تقوم على المرافق العامة المحكومة بجملة من المبادئ على غرار المساواة والاستمرارية والحياد والتأقلم علاوة على قواعد الحكامة والنجاعة والنزاهة.
إنّ احترام مبدأ الحياد يقتضي أن لا تتبنّى المرافق العامة أيّ رؤية سياسية أو دينية ومن هذا المنطلق يتمّ ضمان الحياد من خلال اعتماد آلية موضوعية وهي المناظرة في انتداب الأعوان كما يمنع على هؤلاء توظيف المرفق العام لأهداف سياسية وحزبية أو لأهداف دعوية تبشيرية فالخدمة أو المرفق يجب أن تسدى وتقدم لجميع مستعملي المرفق على قدم المساواة في كنف الحياد والموضوعية.

أمّا المؤسسات العمومية فهي مرافق عامة تتمتع بالشخصية القانونية وما يميز هذا الصنف من المرافق العامة هو مبدأ التخصص (مرفق التعليم للتعليم، مرفق الصحة للصحة …الخ) وعلى هذا الأساس يجب أن تبقى المؤسسات التعليمية والتربوية مخصصة للعلم والمعرفة العلمية والموضوعية التي تربّي النشء على المعرفة العلمية والتسلح بالعقل العلمي النقدي المتحرر من كل الماورائيات والأحكام المسبقة ويجب أن يتمتع فيها مستعملو المرفق من “خدمات” التعلم ونيل المعارف في كنف المساواة التامة دون أيّ تمييز مباشر أو رمزي مهما كانت توجهاتهم الفكرية أو السياسية أو معتقداتهم الدينية. أمّا دور العبادة فهي مرافق عامة مخصصة للعبادة وممارسة الشعائر الدينية وهي مرافق يجب أن تجهّز وتدعم لتمكين المواطنين المتدينين من القيام بشعائرهم الدينية في كنف الطمأنينة والارتياح. وفي المحصلة فإن المدارس والجامعات يجب أن تبقى مرافق للعلم والمعرفة، أمّا ممارسة الشعائر الدينية فيجب أن يتمّ في دور العبادة. وهكذا يتمّ ضمان كل الحقوق لكل الناس كما يتسنى للمؤسسات التعليمية وفضاءات العمل القيام بدورها على الوجه الأمثل.

تحتل المدرسة مكانة مركزية في الدولة اللائكية باعتبارها الفضاء الذي تتجسد فيه قيم المواطنة والحرية والمساواة. فهي ليست مجرد مؤسسة لتلقين المعارف، بل هي أداة لتكوين الفرد الحرّ، المستقل في تفكيره والمتجذر في الانتماء إلى جماعة سياسية تقوم على القانون والحقوق لا على الانتماءات الدينية أو الطائفية.

في الدولة اللائكية، تضطلع المدرسة بمهمة مزدوجة: فمن ناحية، تعمل على نقل المعارف العلمية والفكرية بشكل موضوعي، خالٍ من كل تأثير ديني أو إيديولوجي، وذلك لضمان تكافؤ الفرص بين جميع التلاميذ مهما كانت خلفياتهم، ومن ناحية أخرى، تسعى إلى ترسيخ قيم العيش المشترك واحترام التعددية، عبر تكوين مواطنين قادرين على الحوار والنقد والتعايش ضمن مجتمع متعدد.

وتعتبر المدرسة كذلك إحدى الأدوات الأساسية لحماية حياد الدولة تجاه الأديان، إذ تمنع استغلال الفضاء التعليمي لأغراض دعوية أو سياسية. فالمدرسة اللائكية تضمن أن يبقى الدين شأناً خاصاً يمارس في فضائه الطبيعي، في حين يبقى التعليم مجالاً عاماً موجهاً لتكوين العقل النقدي وتنمية التفكير الحرّ وتعزيز الروح العلمية.

كما تمثل المدرسة في هذا السياق آلية لتحقيق العدالة الاجتماعية، إذ أنها تتيح لجميع أبناء المجتمع إمكانية الوصول إلى نفس المعارف والحقوق التعليمية، بعيداً عن أيّ شكل من أشكال التمييز القائم على المعتقد أو الانتماء الثقافي. فهي بذلك تشكل فضاءً للمساواة الفعلية، ومختبراً لإنتاج هوية وطنية مشتركة ترتكز على قيم الجمهورية والمواطنة، لا على روابط دينية أو طائفية.

وبهذا المعنى، تصبح المدرسة في الدولة اللائكية أكثر من مجرد مؤسسة تعليمية؛ إنها ركيزة للمشروع المجتمعي برمته، وأداة لبناء دولة مدنية ديمقراطية حديثة، تقوم على العقلانية والحرية، وتعمل على تكوين أجيال قادرة على الجمع بين الإبداع العلمي والانتماء الإنساني، ضمن إطار يحترم التعددية ويضمن وحدة الجماعة السياسية.

أمّا الأحزاب والتيارات السياسية، فيجب أن تلتزم بالمبادئ الديمقراطية في سيرها ونشاطها، وأن تُدار وفق قواعد الشفافية والمساءلة واحترام الدستور والقانون. ولا يجوز لها توظيف الدين أو الشعائر الدينية في الصراع السياسي أو تحويل المؤسسات التربوية والتعليمية إلى فضاءات دعوية أو تبشيرية، لأن ذلك يهدد حياد المرفق العام ويشوّه الممارسة الديمقراطية. فالأحزاب في الدولة المدنية الديمقراطية يجب أن تكون أداةً لتنظيم المشاركة السياسية والتداول السلمي على السلطة، لا وسيلةً لتكريس الانقسام أو خلط المقدس بالسياسي.

خاتمة

إنّ الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية هي الكفيلة بضمان الحريات الفردية والجماعية، ومن بينها حرية اللباس والمعتقد، في إطار احترام الضمير الإنساني ومبادئ المساواة. وهي أيضًا الدولة التي تحافظ على حياد المرافق العامة لضمان حسن سيرها، وتُكرّس العلم والمعرفة كأساس للتربية والتعليم، وتفصل بين المجال الديني والسياسي دون عداء لأي منهما.

وبذلك، يتحقق التوازن بين الحرية الفردية ومتطلبات المرفق العام، وتُبنى دولة ديمقراطية عصرية تضمن الحقوق لجميع المواطنين، وتؤسس لمجتمع يقوم على الحرية والعدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية، في كنف احترام القيم الكونية لحقوق الإنسان.

إلى الأعلى
×