الرئيسية / أقلام / أمام هجمة رأس المال، الطبقة العاملة العالمية تتجنّد للدفاع عن حق الإضراب
أمام هجمة رأس المال، الطبقة العاملة العالمية تتجنّد للدفاع عن حق الإضراب

أمام هجمة رأس المال، الطبقة العاملة العالمية تتجنّد للدفاع عن حق الإضراب

الدكتور والباحث والمحاضر: مرتضى العبيدي

الدكتور والباحث والمحاضر: مرتضى العبيدي

 “لا للمساس بحقّ الإضراب”، تحت هذا الشعار نظمت، يوم 18 فيفري الجاري،  النقابات العمالية في كافة أرجاء المعمورة تظاهرات مختلفة الشكل والحجم للإعلان عن رفضها للمساس من حقّ الإضراب الذي يسعى الرأسماليون للالتفاف عليه بألف طريقة وطريقة.

والمعلوم أنّ هذا الحق لم يأت هدية من أرباب العمل بل جاء نتيجة نضالات مريرة ودامية خاضها عمّال العالم طيلة أكثر من قرن، وتمّ الاعتراف به دوليا ضمن الاتفاقية رقم 87 الصادرة عن المنظمة الدولية للشغل سنة 1948، وقد صادقت عليها إلى حدّ الساعة 147 دولة. لكن وإن كانت قوانين الشغل في جميع هذه الدول تقرّ للعمّال بحقّهم في الإضراب، فإن كل واحدة منها تسعى إلى إلغائه أو على الأقل تعطيله بل وتجريمه بشكل أو بآخر. وكنّا تعرّضنا في مقال سابق للحالة التركية التي يجرّم فيها الإضراب ويتمّ تسخير العمال المضربين بدعوى المساس بالأمن القومي (أي أمن أرباب العمل). ولكن الأمر يتعدّى الدول ذات الأنظمة الدكتاتورية وإن تغلفت برداء الديمقراطية الشكلية ليشمل أكثر البلدان تطوّرا وادعاء لاحترام حقوق الإنسان والحريات العامة والخاصة كما سنبيّن ذلك.

ونحن نذكر في بلادنا كيف واجهت الحكومات المتعاقبة على مرّ السنين هذا الحق الذي كانت ممارسته تؤدّي حتما لمواجهات عنيفة ودامية بين العمال المضربين وأجهزة القمع التي لم تكن تحمي سوى مصالح الأعراف، ولا يمكن حصر قائمات العمال والأجراء الذين تعرّضوا للمحاكمات الجائرة وللطرد من الشغل لا لشيء إلا لتمسّكهم بحق الإضراب الذي ضمنته الشرائع الدولية، كما ضمنه دستور البلاد وقوانين الشغل، ولا نبالغ في شيء إذ نقول إنّ عددهم يتجاوز عشرات الآلاف. كما أنّ ممارسة هذا الحق أدت في بعض الحالات إلى مواجهات دامية استشهد فيها عدد لا يحصى من التونسيين كما هو الحال إبّان الإضراب العام ليوم 26 جانفي 1978.

وفي السنوات الأخيرة ومع احتداد أزمة النظام الرأسمالي،  حاول أرباب العمل التراجع عن هذا المكسب، من ذلك أن ممثلي الأعراف في المنظمة الدولية للشغل عمدوا منذ سنة 2012 إلى مقاطعة الجلسات المخصصة لدراسة شكاوي النقابات، والتي يحضرها في الأصل ممثلين عن الأجراء وممثلين عن أرباب العمل وتعمل المنظمة الدولية للشغل دور الحكم في هذه المواجهات.  وقد برّروا مقاطعتهم بأنّ الاتفاقية رقم 87 تتعلق بالحريات النقابية فقط ولا تحتوي على قاعدة قانونية تشرّع حقّ الإضراب بمعنى آخر أن الأعراف الذين شاركوا في مثل تلك الجلسات منذ سنة  1948 لم يتفطنوا لهذا الخلل القانوني إلا بعد مرور 64 سنة. لذلك قرّر الطرف النقابي ليس فقط التشهير بهذا التراجع الفاضح في حق مكتسب منذ عقود بل وطرحه أمام عموم الشغالين في العالم وتجنيدهم للدفاع عنه بكل قوّة. فدعت الكنفدرالية النقابية الدولية لاعتبار يوم 18 فيفري من كل سنة يوما عالميا للدفاع عن حق الإضراب ، وقد تمّ تنظيمه هذه السنة في جميع أرجاء العالم. وخرجت فيه الطبقة العاملة العالمية إلى الشوارع للتعبير عن قوّتها وعن استعدادها للدفاع عن هذا الحق المقدّس.

ولم تأت هذه التحرّكات من فراغ، بل جاءت نتيجة لهجوم رأس المال على حق الشغل وحقوق الشغالين والتي لم يسلم منها أيّ بلد. ففي فرنسا مثلا، استعملت الحكومة قانون “استمرار المرفق العمومي” في وجه إضراب النقل سنة 2007 وفي 2008 استعملت مبدأ “توفير الحد الأدنى من الخدمات” في وجه إضراب مدرّسي التعليم الابتدائي وفي 2010 ولمّا احتدّ الخلاف بين الحكومة والنقابات حول ملفّ التقاعد وشنّت بعض القطاعات الإضرابات، التجأ ساركوزي إلى سلاح التسخير في قطاع تكرير النفط وقدمت النقابات شكوى ضد الحكومة الفرنسية لدى منظمة العمل الدولية التي أقرّت أن الحكومة الفرنسية خرقت بصنيعها ذاك الاتفاقية المذكورة ومسّت من الحق في الإضراب. وفي 2012 استعملت نصا قانونيا آخر لمنع إضراب النقل الجوّي. هذه بعض عيّنات من ألاعيب رأس المال بالمنظومة القانونية التي وضعها بنفسه ويسعى إلى التفصّي منها أو إلى تطبيقها بالشكل الذي يضمن مصالحه. وبعد وصول الاشتراكيين إلى الحكم لم يتغيّر أيّ شيء إن لم نقل إنّ الأوضاع في هذا المجال ازدادت سوءا. من ذلك المحاكمات العديدة التي يتعرّض لها النقابيون على خلفية ممارستهم لحق الإضراب: محاكمة 19 عاملا من قطاع النقل الحديدي سنة 2013، الطرد من الشغل للعامل “يان لوميري” من قطاع البريد بسبب مداخلاته في إضراب القطاع الذي تواصل لمدة 173 يوما بإحدى ضواحي باريس والذي كان مطلبه الرئيسي ترسيم عدد من العمال الوقتيين وتمتيعهم بحقوقهم كاملة وللتنديد ببرنامج إعادة هيكلة القطاع. وتدخل هذه الهجمات في سياسة شاملة تشنّها البورجوازية على حقوق العمال المكتسبة. فها هو “بيار قاتّاز” رئيس اتحاد الأعراف الفرنسيين يدعو الحكومة إلى الخروج من الاتفاقية 158 للمنظمة الدولية للشغل حتي يسمح لأرباب العمل بتسريح العمّال دون اتباع الإجراءات القانونية أو تقديم سبب ما للطرد، إذ أن ذلك يشكّل عائقا لبلوغ المؤسسات الفرنسية درجة عليا في المنافسة مع مثيلاتها في دول أخرى حسب زعمه. إذن فالملاحظ أنّه في بلد “الميثاق العالمي لحقوق الإنسان والمواطن” هنالك سعي محموم من قبل الدولة وأرباب العمل للتخلّي الفعلى عن قانون الشغل وخاصة عن جهازه القانوني الذي يقي العمّال من غطرسة المشغلين.

وإذا كان الوضع على هذه الشاكلة في فرنسا حقوق الإنسان، فحدّث ولا حرج عن البلدان التي لم يصل فيها حق الإضراب إلى مستوى الضمان الدستوري. فللسيّد “بيار قاتّاز” رئيس اتحاد الأعراف بفرنسا مثله الأعلى في هذا المجال، ألا وهو كوريا الجنوبية التي لم يشرّع فيها حق الإضراب رسميا إلا سنة 1987 لكن الفصل 314 من الدستور الذي يعترف بهذا الحق يعرّف الإضراب على أنّه “تعطيل للمصالح” ويُبقي المجال مفتوحا للمؤسسات للتعامل معه حسب ظروفها. فالمؤسسات الكبرى على غرار سامسونغ تمنع على عمّالها الحق في الانخراط في النقابات وكذلك الشأن بالنسبة لأعوان القطاع العمومي، وتحدّد الدولة قائمة القطاعات والمؤسسات المؤدية “لخدمات أساسية” والتي لا يحقّ للعاملين فيها أن يُضربوا، وتتمطّط هذه القائمة من سنة إلى أخرى. لكن ذلك لا يعني أن الطبقة العاملة الكورية تستكين وتقبل بالأمر الواقع، بل إن النضالات التي خاضتها والتي تخوضها من حين لآخر تتّسم باستماتة فائقة في الدفاع عن مصالحها وتبرز عزمها على افتكاك المزيد من الحقوق.

فخلاصة القول أن لا مكسب نهائي وأنّ الصراع الطبقي حقيقة موضوعية وليس مجرّد شعار. وعليه فإنه على الطبقة العاملة وعموم الأجراء اليقظة ومزيد اليقظة للمحافظة على الحقوق المكتسبة وتدعيمها بأخرى، وهذا يطرح مجدّدا الدور الريادي الذي من المفروض أن تلعبه المنظمات النقابية على مستوى التوعية والتعبئة والتنظيم.

بقلم: مرتضى العبيدي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×