الرئيسية / منظمات / أخبار / الإسلام السّياسيّ والكورونا: البؤس الفكريّ والتّلاعب بالدّين
الإسلام السّياسيّ والكورونا: البؤس الفكريّ والتّلاعب بالدّين

الإسلام السّياسيّ والكورونا: البؤس الفكريّ والتّلاعب بالدّين

يعيش العالم بأسره والإنسانيّة جمعاء حالة من الذّهول والعجز أمام استفحال هذا الوباء النّاتج عن فيروس كورونا- المستجدّ (كوفيد-19). ذهولٌ وعجزٌ متفاوتان من دولة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر بحسب الإمكانات الاقتصاديّة والقرارات السّياسيّة والاستعدادات اللّوجستيّة في مثل حالات الطّوارئ والمستحدث من الأزمات والمشاكل العارضة.

وبصرف النّظر عمّا يُتداول في الأخبار والفيديوهات وصفحات التّواصل الاجتماعيّ من تحاليل ومعطيات وتخمينات في الغرب والشّرق، عن نظريّة المؤامرة أو غيرها، وعمّن يقف وراء هذا الوباء (الصّين تتّهم أمريكا، وأمريكا تتّهم الصّين) وعن تأثيراته المختلفة والمتفاوتة في سوق المال والبترول والبورصات العالميّة والشّركات العابرة للقّارات… وبصرف النّظر كذلك عن النّتائج السّياسيّة والاقتصاديّة المباشرة وغير المباشرة التي ستترتّب عن هذا الوباء في المستوى العالميّ… والتّفكير في الممكن من السّياسات المستقبليّة، بصرف النّظر عن هذا وذاك، يجد التّونسيّون أنفسهم أمام أسئلة حقيقيّة متعلّقة بواقعهم الصحّي بصفة عامّة، وبصفة خاصّة في القطاع العموميّ (المستشفيات والمخابر ووسائل التّشخيص والوقاية والعمل اليوميّ). ويجدون أنفسهم كذلك يواجهون “حالات وعي نادرة؟؟؟” مثيرة للاستغراب وداعية إلى السّؤال عن غايات أصحابها ومقاصدهم.

ومن تمظهرات هذه الحالات ما جاد به نائب منتخب من تفسير لانتشار هذا الوباء. هذا النّائب المنتخَب هو طبيب متخرّج في كليّة الطبّ بصفاقس. وقد فسّر ظهور الوباء في برنامج “للحديث بقيّة” بقناة الإنسان يوم الخميس 19 مارس 2020 بأنّه “عقاب الهيّ نتيجة لمنع النّقاب(؟؟؟)”.

والواقع أنّ مثل هذا التّفسير يمكن أن يُقبل من شخص من عامّة النّاس، محدود الثّقافة أو المعرفة. أمّا أن يصدر هذا التّفسير عن طبيب ونائب شعب ذي انتماء سياسيّ واضح (ائتلاف الكرامة) ويربطه بقضيّة خلافيّة ( قضيّة النّقاب؟) حتّى بالنّسبة إلى الفقهاء وأهل الإفتاء والمفسّرين، فهذا يعني أنّنا إزاء توظيف دينيّ- سياسيّ “للحظة الأزمة”. وهو توظيف يكشف بؤسا فكريّا، واستعدادا مستمرّا للتّلاعب بالمقدّس الجماعيّ وتحويله إلى رأسمال رمزيّ خاصّ يُلتمس به التّنصّل من تحمّل المسؤوليّة ومواجهة الواقع في تفاصيله المعقّدة.

انتشار الوباء عقاب إلهيّ؟؟؟

أليس أحرى بك أيّها النّائبُ أن تتواضع قليلا؟! أليس أجدر بك أن تعرف حدودك؟! ألستَ تدّعي على اللّه بما تقدّمه من تفسير؟! ولا أظنّك تجهل ما يترتّب على الادّعاء على الله والكذب عليه؟ هل هذا الوباء بالذّات، دون غيره، عقاب إلهيّ أم كلّ وباء أو مرض إنّما هو عقاب إلهيّ؟ ما ذنب التّونسيّين – الذين انتخبوك وانتخبوا من يشبهك على الأقلّ – حتّى يعاقبهم الله بجريرة غيرهم من المذنبين إذا جاريناك في التّفسير؟؟؟ هل هم الذين منعوا النّقاب؟
هل سمعت، أيّها النّائب، بطاعون عمواس (وهي بلدة في فلسطين المحتلّة التي لم تفعل أنت ومن يشبهك شيئا من أجلها. بل إنّكم عارضتم قانون تجريم التّطبيع الذي يُشهّر بالاحتلال الصّهيونيّ ويدين من يتعامل معه، بل إنّ شيوخ الإفتاء بالجهاد الذين أفتوا بتخريب سوريا وليبيا والعراق استثنوا فلسطين وسكتوا عن الجهاد فيها) في طاعون عمواس سنة 18 هجريّا مات من المسلمين في الشّام خمسة وعشرون ألفا وقيل: ثلاثون ألفا. ومن أشهر من ماتوا في الوباء أبو عبيدة بن الجرّاح- وهو أمير النّاس- ومعاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان وسهيل بن عمرو وغيرهم من أشراف الصّحابة، وغير ذلك من النّاس؟؟؟

فهل كان ذاك الوباء-الطّاعون عقابا إلهيّا؟؟؟ ألستَ تتقوّل على الله؟؟؟ أليس الله عادلا، فكيف يعاقب من لم يُذنب بجريرة من أذنبَ؟؟؟

لعلّ المضمَر في خطابك هو أنّ الخلق كلّهم مذنبون، وأنت وحدك النّاجي أو أنت وحدك الذي تنتمي إلى الفرقة النّاجية؟!

في زمن هذا الفيروس القاتل، في هذا الظّرف الذي يستوجبُ أن تُقدّم فيها تحاليل عقلانيّة علميّة تساعد على فهم ما يحدث ومواجهته والحدّ من انتشاره، يطالعنا هذا النّائب وغيره بمثل هذه الخطابات التي تسيء إلى الدّين والعلم، في آن معا. وبدل أن تُوجّه الأنظار إلى البحث فيما يجب أن يكون وإلى تدارك القصور والنّقائص في الاعتمادات والوسائل والتّشريعات المتعلّقة بصحّة التّونسيّين نجد أصحاب هذه الخطابات يبذلون كلّ جهودهم وإمكاناتهم لتكريس ثقافة الإحساس بالإثم والذّنب والخطيئة لدى عامّة النّاس.

ومن تمظهرات تلك الحالات كذلك، ما قاله وزيرُ الشّؤون المحليّة والبيئة المنتمي إلى حركة النّهضة عن المسيرات اللّيليّة التي خرجت في بعض الأحياء في تونس العاصمة خارقةً حظرَ التّجوّل والحجرَ الصحّي. قال الوزير: “المظاهرات الليليّة هي ردود أفعال شعبيّة في كلّ دول العالم. وهي ردّ فعل أشخاص يشعرون بالخوف من تزايد أخبار الموت بهذا الفيروس وارتفاع عدد الإصابات”.

هي مسيرات للتّهليل والتّكبير. ولا أحد يصادر حقّ التّونسيّين في أن يكبّروا أو يهلّلوا. ولكن أليس من أهمّ واجبات الحاكم وأوكدها أن يحفظ مصالح النّاس، بأن يحفظ نفوسهم في الدّرجة الأولى؟!

أليس التّظاهر في جماعات تجوب الأحياء والأنهج، في زمن تفشّي الوباء وانتشار العدوى، بابا من أبواب المضرّة والفساد في الأرض وإلقاء النّاس إلى التّهلكة؟!

ثمّ أيّ معنى للتّهليل والتّكبير في الشّوارع، والوقت وقتُ حظر وحجر؟! أليس هذا من باب المزايدات السّياسيّة ووضع الدّولة بأسرها لحظة الأزمة أمام إحراجين: إمّا أن تستعمل القوّة المخوّلة لها بالقانون. وإمّا أن تراقب هذه المسيرات من بعيد دون تدخّل.

في الحالة الأولى، في حالة استعمال القوّة، ستكون الدّولة محلّ إدانة، بل قد تكون محلّ تكفير من قبل البعض لأنّها تعاقب أو تعنّف من يهلّل ويكبّر، من يلهج باسم الله فقط. (يمكن نعتها بأنّها دولة كافرة؟! أليس كذلك)

وفي الحالة الثّانية، حالة المراقبة دون تدخّل، تصبح الدّولة ذاتها محلّ شكّ، بل إنّها قد تنفي ذاتها رمزيّا. فهي تقرّ تشريعات أو قوانينَ أو أوامرَ وتخرقها هي ذاتها بعدم ردعها للخارجين عن القانون، بل إنّ الدّولة تغدو مساعدةً على نشر العدوى واستمرار المحنة وجلب المضرّة.

ثمّ، أ يجبُ أن يكون الدّعاء جماعيّا وفي الشّوارع حتّى يُسمع؟! ألا يُسمع الدّعاء الفرديّ؟! ألا يُقبل الدّعاء في المنازل أو من المنازل؟!

إنّ استدرار مشاعر النّاس في حالات الخوف والهلع وتوظيفها سياسيّا ضرب من ضروب البؤس الفكريّ واستهتار بالرّمزيّ (الدّولة) والمقدّس(الدّين) في آن معا.

والثّابت أنّ الإسلام السّياسيّ يعتمد التّكتيك نفسه في لحظات-الأزمة، في أماكن مختلفة. فمصر والمغرب شهدتا مسيرات مشابهة لما حدث في تونس. وقدّم الجماعة هنا وهناك التّبريرات نفسها. وهذا دليل على أنّ ما حدث لم يكن عفويّا أو تلقائيّا، وإنّما هو معدٌّ وتبريراته جاهزة سلفا.

وإذا الوزير قد تراجع بعد ذلك ودعا إلى احترام القوانين، فلأنّ فئات اجتماعيّة وناشطين وسياسيّين وأحزابا سياسيّة قد عبّرت، في فضاءات مختلفة، عن رفضها لهذه الظّواهر وما تعلّق بها من تبرير.

إنّ أحزاب الإسلام السّياسيّ، وإن تغايرت تسمياتها، لا يختلف بعضها عن بعض في التّوظيف الانتهازيّ للدّين خاصّة في اللّحظات الحاسمة (المواعيد الانتخابيّة، التّحوّلات الاجتماعيّة) وفي تعبئة الجماهير المهمّشة والمفقّرة، ثمّ التّنكّر لها ولجمها عن المطالبة بحقوقها بخطابات شعبويّة أو بالتّكفير أو بتوجيه أنظارها إلى السّماء.

عمر حفيظ
باحث جامعي

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×