الرئيسية / ملفات / ذكرى نبيل / من أجل تثبيت يوم 8 ماي يوما وطنيّا لمناهضة التّعذيب
من أجل تثبيت يوم 8 ماي يوما وطنيّا لمناهضة التّعذيب

من أجل تثبيت يوم 8 ماي يوما وطنيّا لمناهضة التّعذيب

علي الجلولي

تمرّ اليوم 33 عاما بالتمام والكمال على استشهاد المناضل الشيوعي نبيل البركاتي، نبيل الذي ظلّ طيلة هذه العقود رمزا للتّضحية والثبات والإيثار. لذلك فقد تحوّل منذ لحظة اغتياله في مركز شرطة قعفور من ولاية سليانة إلى أيقونةٍ، ليس للثوريّين والشيوعيّين فحسب، بل لكلّ التقدميين والديمقراطيين. فهو الذي تصدّى لآلة العنف والتعذيب الرّسمي الذي كان يهدف إلى إرهاب الشعب وإبعاده عن النضال والاحتجاج والتمسّك بالحقوق، وهو الذي خيّر بقرارٍ واعي التّضحية بنفسه وشبابه على أن يعيش ذليلًا بإعطاء معطيات عن رفاقه وحزبه. وهو أخيرا ذلك المواطن الحرّ الذي تمسّك بحقّه غير القابل للتصرّف في حرّية الرّأي والفكر والتنظّم.

ومنذ لحظة اغتيال نبيل، ناضل حزب العمال ولفيف واسع من القوى التقدمية والديمقراطية من أجل كشف الحقيقة كاملة حول ملفّ الاغتيال باعتباره ملفّ انتهاك جسيم لحقوق الإنسان والمواطنة، وباعتباره أيضا دليل إدانة لنظام الاستبداد والقهر الذي أناخ بكلاكله على صدر الشعب التونسي منذ تربّع حزب الدستور على كرسيّ البطش والظلم.

لقد قام الحزب وعائلة الشهيد والحركة الديمقراطية بجهد كبير ذي طابع سياسي نضالي، وذي طابع قانوني، وتمّ فرض تتبّع الجناة. لكن محاكم بن علي اعتبرت الجريمة بمثابة “تجاوز للسّلطة” يهمّ ذوات الأعوان بمركز الشرطة، علما وأنّ الشّكاوي المرفوعة طالبت بمحاكمة كلّ من تورّط في الجريمة أمرًا وتنفيذًا بدءًا من الأعوان وصولا إلى وزير الداخلية آنذاك زين العابدين بن علي، مرورا بالمسؤولين الأمنيّين والسياسيّين الجهويين (رئيس منطقة سليانة، الوالي، المعتمد…). كما شكّكت الشّكايات في تقارير الطبّ الشرعي التي خضعت إلى التّأثير والتّوجيه بما يبعد الشُّبهة عن الجناة ويرجّح فكرة أنّ نبيل أطلق الرصاص على رأسه بعد هروبه من المركز كما ادّعت الرواية الرسمية.

لقد صدرت أحكام ضدّ أعوان الشرطة المتّهمين بلغَتْ خمسة سنوات سجنٍ ضدّ “الحاج مفتاح” رئيس المركز. لكنّ عائلة الشهيد وحزبه والمنظّمات الحقوقية والمدنية واصلت المُطالبة بكشف الحقيقة كاملة، وهو ما لن يجدَ إطاره القانوني والسّياسي إلاّ ضمن مسار العدالة الانتقالية التي انطلق بعد الثّورة والذي وفّر إلى حدّ الآن خطوتين مهمّتين: الأولى هي تمكين عائلة الشهيد (عبر شقيقه المناضل رضا بركاتي) من الإدْلاء بشهادة علنية في وسائل الإعلام العمومية في إطار جلسات الاستماع لضحايا الاستبداد، وهذا مهمّ من الناحية الرّمزية والسياسية. وقد تمكّن الرفيق رضا بركاتي من سرْد كلّ الوقائع منذ لحظة الاعتقال مُرورا بالاغتيال وحيثيّاته وصولا إلى مطالب العائلة في كشف الحقيقة وردّ الاعتبار، ولقد كانت مداخلة نوعيّة شدّت أنظار مناضلي الحرية. فالعائلة شدّدت على الجوانب الأدبية والمعنوية والاعتبارية وطالبت بتحويل مركز الشرطة الذي نُفِّذت فيه الجريمة والذي أضحى منذ 8 ماي 1987 إلى عنوان قهرٍ وفضاء انتهاكٍ عند متساكني الجهة، إلى متحف أو مكتبة عمومية تتولّى العائلة تأثيثه بآلاف الكتب. كما طالبت بتسمية الشارع الرئيسي أين يوجد المركز باسم الشّهيد وأن ينصب له تمثال في وسط المدينة باعتباره رمزا للصمود والشّهامة.

والخطوة الثانية تمثّلت في شروع الدائرة المختصة للعدالة الانتقالية بمحكمة الاستئناف بالكاف في فتح ملفّ الاغتيال ومحاكمة الجناة. وقد كانت أيضا لحظة فارقة حضر انطلاقتها عددٌ كبير من أنصار الحقيقة ومناضلي الحرية، وتتواصل إلى اليوم جلسات الاستماع التي شملت بعض الشهود وبعض المتّهمين، وركّزت العائلة كما لسان الدفاع وحزب الشهيد أنّ المطلب الأساس ليس الانتقام والتشفّي، بل كشف الحقيقة كل الحقيقة. وقد تابع الرّأي العام نموذجا راقيا في التعامل مع قضايا الحرّية، وهو حضور أحد المتّهمين دون أن يتعرّض له أحد بالإهانة.

إنّ هاتين الخطوتين على أهمّيتهما الرّمزية مازالا دون تحقيق المطالب التي رفعتها الحركة الديمقراطية منذ عقودٍ، وخاصة تلك المتعلّقة بالتصدّي لآفة التعذيب باعتبارها لازِمَة من لوازم الدكتاتورية والاستبداد. فرغم المكاسب المحقّقة في بلادنا مازال شبح التعذيب يخيّم، ومازالت مراكز الإيقاف والسّجن تشي بممارسات مهينة وحاطة من الكرامة.

لقد طالبت الحركة الديمقراطية بجملة من المطالب في الغرض يمكن تكثيفها في مطلب اعتماد “يوم وطني لمناهضة التعذيب” يكون فرصةً لتتبّع التقدّم من عدمه في التصدّي لهذه الآفة. وقد اقترحت الحركة الديمقراطية أن يكون يوم 8 ماي، ذكرى استشهاد نبيل، هو ذاك اليوم بالنظر إلى عدّة اعتبارات منها أنّ الشّهيد صمد وقدّم حياته قربانا للحرية، ومنها أنه تعرّض إلى تعذيب وحشي، ومنها أنه الشّهيد الوحيد (نعم الوحيد) الذي صمدت عائلته وحزبه ورفاقه ولفيفٍ واسع من الحركة الديمقراطية السياسية والمدنية والحقوقية لإحياء ذكراه كلّ عام منذ العام الأول إلى اليوم بما في ذلك سنوات القمع السافر حين بلغ عدد الحاضرين في إحياء الذكرى بضعة أنفار، وفي سنوات أخرى منعت تظاهرة الإحياء أصلا.

وحول الذكرى وفي خضّمها تشكّلت الفكرة ووقعت الدعوة إليها وتبنّتها أطراف عديد منها الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمجلس الوطني للحريات ومنظمة مناهضة التعذيب. وبعد الثورة تعهّد الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي الذي شارك يوم 8 ماي 2012 في إحياء الذكرى، تعهّد بإقرار يوم 8 ماي يوما وطنيا لمناهضة التعذيب، ولكنّه بقي دون تفعيل. علما وأنه كان في سنوات الاستبداد من المطالبين بقوة بذلك المطلب.

وفي 7 ماي 2015 استقبل الرّئيس السابق الباجي قايد السبسي الأستاذة راضية النصراوي رئيس المنظمة التونسية لمناهضة التعذيب على رأس وفدٍ من المنظمة وأقرّ تحقيق مطلب الديمقراطيين في اعتبار يوم 8 ماي يوما لمناهضة التعذيب. ولئن لم يصدر الأمر ضمن الرائد الرسمي، فإنّ بلاغ الرئاسة أشار إلى ذلك.

والمطلوب اليوم من السلطات العامة، وفي مقدّمتها رئيس الدولة الذي صرّح أكثر من مرة أنه يؤمن بـ “استمراريّة الدولة”، الإذن بإصدار القرار في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية، وإذا ما تواصل عدم الإصدار فإنّ ذلك لن يُفهم إلاّ باعتباره جزء من تعطّل مسار العدالة الانتقالية الذي قامت حركة النهضة بكلّ ما في جهدها لتشويهه وتحويله إلى مجرد قرارات للتّعويض المادّي ضمن منطق الغنيمة والتمكين. كما أنّ المسار يتعرّض إلى الاستهداف من قبل زبانيّة النظام السابق بحكم المسؤولية المباشرة على الانتهاكات التي طالت الشّعب وأبناءه وبناته.

إنّ معركة تثبيت 8 ماي يوما وطنيا لمناهضة التعذيب هي معركة سياسيّة بامتيازٍ، معركة كلّ الأحرار من أجل اتّخاذ خطوات لتجريم التعذيب وإدانته ووضع السّبل للقضاء عليه رغم كلّ التعطيلات التي تضعها قوى الاستبداد القديم والجديد، وما على قوى الحرية إلاّ خوض هذه المعركة إلى النهاية انتصارًا لضحايا التعذيب وتأسيسًا لغد أفضل.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×