الرئيسية / الافتتاحية / وسُحبت ورقة التوت…
وسُحبت ورقة التوت…

وسُحبت ورقة التوت…

أثار تدخّل سعيّد ليلة 2 نوفمبر 2023، الموافق للذكرى 106 لإعلان وعد بلفور، لوقف مناقشة “برلمان الدّمى” لمشروع قانون لتجريم التطبيع والتصويت عليه، السّخط حتى لدى العديد من أنصاره. لقد ذهب في ظنّ هؤلاء، ومنهم القابعون في قصر باردو ممّن قدّموا مشروع القانون، أن سعيد صاحب قولة “التطبيع خيانة عظمى” سيدعمهم في مسعاهم ويكون ممتنّا لما يقومون به. لكنه اعترض على ما قاموا به وصرّح لرئيس “برلمان الدّمى”، بحضور نائبيْه، أنّ “مقترح قانون تجريم التطبيع سوف يضرّ بالمصالح الخارجية لتونس وأن هذا القانون يدخل في خانة الاعتداء على أمن الدولة الخارجي”. وهكذا انتقلنا من خانة تجريم التطبيع إلى خانة تجريم من يريد تجريم التطبيع واعتباره معتديا على الأمن الخارجي للدولة وهو ما يوجب، حسب القانون، عقوبة الإعدام.

ولمّا تمسّك “النواب” بمواصلة الجلسة واتّضح من خلال التصويت على الفصلين الأوّلين أن القانون سيصادَق عليه أوقف رئيس “برلمان الدّمى” الجلسة ولم يعد إليها إلى حدّ الساعة. وهو ما يفضح الطابع الشكلي المهزلي لهذا البرلمان غير الشرعي كما يفضح الطابع الديماغوجي للشّعارات الرنّانة التي يرفعها “الحاكم بأمره”. وأمام الاستنكار الذي خلّفته هذه المهزلة بكافة عناصرها اضطرّ قيس سعيد إلى الكلام يوم 3 نوفمبر 2023 في محاولة منه لتبرير سلوكه، لكنه لم ينجح في إقناع أحد، عدا التُبّع المصفّقين له في كل الحالات، ورسّخ القناعة بأنه غير مستعدّ لتجريم التطبيع، وهو أمر قلناه مِرارا، وهو لا يفسّر فقط بضغط القوى الأجنبية التي يرتهن لها نظام سعيد اقتصاديا وماليا وتجاريا وأمنيا، وإنما أيضا برفض كبار الرأسماليّين المحليّين الذين يعملون وكلاء لشركات أجنبيّة لها ارتباطات بالكيان الصهيوني أو أنّهم بكل بساطة لهم معاملات تجارية مباشرة أو غير مباشرة مع هذا الكيان.

لقد كرّر قيس سعيد في تدّخله يوم 3 نوفمبر 2023 أن “التطبيع” مصطلح “لا وجود له” عنده مبرّرا ذلك بأن هذا المصطلح “يعكس فكرا مهزوما…”، بينما قيس سعيد يتبنّى مقولة “الحرب الثورية الطويلة الأمد أسلوبا والكفاح المسلّح وسيلة”، مضيفا أنه عوض سنّ قانون لتجريم التطبيع كان بالإمكان الاستئناس بالفصل 60 من المجلة الجزائية واعتبار كلّ “تطبيع خيانة عظمى”. وإذا نظرنا إلى هاتين “الحجّتين” المقدّمتين لتبرير وقف تمرير مشروع قانون لتجريم التطبيع “ببرلمان الدّمى” فإنه ليس من العسير الوقوف عند طابعهما الدّيماغوجي الذي لا هدف منه سوى المغالطة ورفض تجريم التطبيع بل وغضّ الطرف عن التطبيع مع الكيان الغاصب الذي ما انفكّ يتّسع مجاله بعد الانقلاب، وهو ما كنّا تناولناه أكثر من مرّة في بيانات حزبنا (حضور وزر الدفاع في اجتماع موسّع لحلف الناتو في ألمانيا بحضور وزير الحرب الصهيوني، تبادل التحية والعبارات الودية بين رئيسة الحكومة السابقة ورئيس الكيان في قمّة المناخ في شرم الشيخ بمصر، وصول طائرة هذه السنة تُقِلّ “إسرائيليين” مباشرة من تل أبيب إلى جربة…).

إن مصطلح التطبيع موجود أحبّ قيس سعيد أم كره وهو يعني بالملموس إقامة علاقات رسميّة أو غير رسميّة، بالكيان الغاصب بما يمثّل اعترافا به وتشريعا لاحتلاله على حساب الشعب الفلسطيني المحتلّة أرضه والذي يتعرّض للتهجير والتّقتيل المستمر بهدف استكمال الاستيلاء على وطنه وتهويده بالكامل. وهو ما يجعل من التطبيع جريمة على حساب الشعب الفلسطيني وعلى حساب الشعب التونسي ذاته الذي تعرّض إلى العدوان أكثر من مرّة من الكيان الغاصب. وهذه الجريمة لا بدّ من وضع قانون خاص يحدّد أركانها المادية والآثار التي تترتّب عنها أي العقوبات المنجرّة عن ارتكابها. وهو ما لا يستجيب له الفصل 60 من المجلة الجزائية التونسية. فهذا الفصل يتعلّق بالخيانة العظمى في تونس من قبيل حمل السلاح ضدّ تونس في صفوف العدوّ أو الاتصال بدولة أجنبية لدفعها للقيام بأعمال عدوانية ضد تونس أو تسليم دولة أجنبيّة أو أعوانها جنودا تونسيّين أو أراضي أو مدنا أو تحريض عسكريّين على الالتحاق بخدمة دولة أجنبيّة أو إفشاء أسرار الدفاع الوطني لدولة أجنبية، الخ.

إن قيس سعيد نفسه لمّا سئل سنة 2012، بوصفه مدرّس قانون دستوري، عن إدراج فصل في الدستور الجديد الذي كان يُناقَش صُلب المجلس الوطني التأسيسي، لتجريم التطبيع مع الكيان الغاصب، أجاب بأن لا شيء يمنع ذلك على الإطلاق مؤكّدا أن ذلك يعكس إرادة الشعب وإرادة السلطة التأسيسيّة التي تمثّل الشعب وأوضح أنه لا بدّ، بعد إدراج مثل ذلك الفصل في الدستور، من سنّ قانون خاص يحدّد الرّكن المادي للجريمة والعقاب المُوجب لارتكابها. ولكنه اليوم وهو في السلطة يتراجع عن هذا الموقف ويختلق تِعلّات واهية لمنع تجريم التطبيع ويغلّف ذلك بشعارات ديماغوجية لم تعد تنطلي على أحد. فهل يعقل ألّا يقبل من يدعو إلى تحرير فلسطين عن طريق “الحرب الثورية طويلة الأمد أسلوبا والكفاح المسلّح وسيلة”، إصدار قانون لتجريم التطبيع مع الكيان الذي يدعو إلى إزالته بهذه الحرب؟ إن الحقيقة كلّ الحقيقة أن خطاب قيس سعيد حول القضية الفلسطينية هو خطاب ديماغوجي، للمغالطة ليس إلّا، وأنه للاعتبارات الداخلية والخارجية التي ذكرناها أعلاه يرفض تجريم التطبيع، وهو ما انكشف بوضوحٍ ساعة مناقشة برلمان الدّمى مشروع قانون يتعلّق بهذا الأمر (وهو مشروع هزيل جدّا من الناحية القانونية) فاعترض وكشّر عن أنيابه معتبرا هذا المشروع “اعتداء على الأمن الخارجي للدولة”.

إن نظام قيس سعيّد لا يختلف في الواقع عن باقي الأنظمة العربيّة التي تتفرّج على المجزرة في غزة وتكتفي بالكلام ولا تفعل شيئا ملموسا لوقفها، إن لم تكن تشجّع عليها سرّا كما هو حال بعض الأنظمة المطبّعة، لارتهانها للقوى الاستعمارية الغربيّة التي تدعم حرب الإبادة وفي مقدّمتها “رأس الحيّة”، الولايات المتحدة الأمريكية.
إن الحلّ اليوم يبقى بيد الشعب التونسي وقواه الحيّة من أجل مواصلة دعم غزة والضغط بمختلف الأشكال من أجل وقف حرب الإبادة والتمسّك الصّارم بسنّ قانون لتجريم التطبيع لأن ذلك لا يخدم القضية الفلسطينية فحسب وإنما يخدم قضية تحرّرنا نحن هنا في تونس من كافة أشكال الاستبداد ومن التبعيّة الاستعمارية الجديدة التي من شأن أيّ تسرّب صهيوني لبلادنا سواء كان اقتصاديا أو سياسيا أو تجاريّا أو ثقافيا أو أمنيا أن يعزّزها ويؤبّدها.

فلنواصل المعركة من أجل تجريم التطبيع.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×