الرئيسية / عربي / الأنظمة العربية وفلسطين: الحقيقة عن التّواطؤ واللامبالاة
الأنظمة العربية وفلسطين: الحقيقة عن التّواطؤ واللامبالاة

الأنظمة العربية وفلسطين: الحقيقة عن التّواطؤ واللامبالاة

بقلم علي الجلولي

يتداول العالم منذ يوم العاشر من شهر أكتوبر الجاري صورا ومشاهد غاية في الوحشيّة والبربريّة، صورا صدمت الضّمير العالمي وخلقت تحوّلا غير مسبوق في توجّهات الرأي العالم العالمي الذي طالما وقع جزء منه ضحيّة المغالطات الصّهيونية المسيطرة على وسائل الإعلام والاتصال. صور أطفال وشيوخٍ وعجائز تحت الأنقاض، بشر متفحّم، جثث تحلّلت ونشرت الأوبئة والجوائح، ومؤخّرا أطفال ينامون تحت هطيل الأمطار التي اخترقت بيوت البلاستيك التي يقضون فيها ذروة فصل الشتاء. في خضمّ هذه الصور الموجعة يتساءل بعض السذّج منّا، أين الحكّام العرب؟ “ألا تهتزّ لهم قصبة”، كما قال الشاعر مظفر النواب؟

لماذا يتواطؤ الحكّام العرب؟

إنّ المسألة في تقديرنا ليست أخلاقية، بل هي سياسية ترتبط رأسا بطبيعة هذه الأنظمة منذ ولادتها إلى اليوم. إنّ أغلب الأنظمة القائمة هي ترِكة من تركات الاستعمار المباشر الذي خضع له الوطن العربي إلى حدود النصف الثاني من القرن الماضي. ولأنّ أغلب البلدان لم تحقّق استقلالها الكامل والنّاجز، بل إن الاستعمار المباشر خرج منها وِفقا لاتفاقيّات تُرتِّب الوضع الجديد وتضبط فيها الأدوار التي يمكن حوصلتها بتعويض الاستعمار المباشر بآخرٍ غير مباشر تمّ التنصيص بالتّصريح وبالتلميح عن بنوده وشروطه، كما تمّ تكبيل الأنظمة المنبثقة باتفاقيات اقتصادية وسياسية وثقافية تضمن تواصل المصالح القديمة. كما اختار الاستعمار القديم في عديد الحالات متربّعي العروش من عائلات عميلة وصنيعة لتلعب بالضّبط دور الكمبرادور أي الوكالة في الحفاظ على المصالح. كما اختار القادة الذين قبلوا الأدوار الجديدة وذلك لقطع الطريق أمام الحركات التحرّرية التي عرفت ذروتها خاصة بعد الحرب العالمية الثانية. وحتى الأنظمة الوطنية التي انبثقت عن حركة التحرّر (الجزائر تحديدا) أو عن انقلابات عسكرية خاصة في الشرق (مصر، سوريا، العراق، السودان) فإن انشغالاتها كانت في الأساس الحفاظ على كراسي الحكم عن طريق القوّة والاستبداد، وفشلت على العموم سواء في الاستحقاق الديمقراطي، وكذلك في الاستحقاق الوطني وعلى رأسه ما يهمّ القضية الفلسطينية التي كثيرا ما سوّقتها هذه الأنظمة على أنها “قضية الأمّة” و”القضية المركزية”. ونحن لا نجانب الصّواب حين نقول أن هذه الأنظمة أساءت للقضية وللشعب الفلسطيني أكثر ممّا قدّمت لهما.
إنّ علاقة الأنظمة العربية اللاوطنية بالكيان الصهيوني هي علاقة ترتّبها الامبريالية وترعاها، فالكيان المحتلّ هو أداة للامبريالية في المنطقة لرعاية مصالحها وحراستها، والأنظمة العميلة تحمل نفس الطبيعة من جهة ارتباطها العضوي بالامبريالية والرأسمال الاحتكاري العالمي، لذلك فإن تحرّكها في علاقة بالقضية الفلسطينية هو “تحرّك محسوب ومراقب وموجّه من الخارج”، فحتى الاحتجاج أو اتّخاذ بعض الإجراءات المحدودة فالغرض منه امتصاص الغضب الداخلي لا غير. أمّا المساعدات الموجّهة إلى فلسطين في إطار الجامعة العربية، فالغرض الأصلي هو خلق طبقة طفيلية من رحم الحركة الوطنية الفلسطينية لربطها بالنظام الرسمي العربي، ويعتبر محمود عباس وزبانيّته وأجهزة حُكمه المحلي الذي لا يتجاوز عتبة مكتبه في رام الله، نموذجا للزبونية التي ساهمت الأنظمة العربية في خلقها تماما مثلما صار معها في بدايات تشكلها في إمارات ودول مصطنعة من قبل مطابخ القرار الاستعماري الذي قسّم المنطقة وشكّلها وركّبها بما يخدم مصالحه التي ليست سوى وضع يده على آبار النفط ومعابر البحر التي وضع في قلبها الكيان الصهيوني ليمنع شعوب المنطقة من الوحدة والتحرّر. من هذه الزاوية وانطلاقا من هذا الفهم نعي موقع الأنظمة العربية من الصراع الفلسطيني الصهيوني والعربي الصهيوني، فحتْى الأنظمة التي لها أراضي محتلّة (لبنان وسوريا) فإنها غير معنيّة بتحريرها، فقط الشعوب وحركاتها التحرّرية من اضطلع ولا يزال بذلك.

لكن التواطؤ بلغ ذروته!

يتساءل الشارع العربي عن سرّ هذه اللامبالاة رغم هول العدوان الذي سمّاه كل العالم حرب إبادة، ورغم قيام عديد الأنظمة في العالم بتحرّكات نوعية من غلق السفارات في جنوب إفريقيا وكولومبيا إلى رفع الدّعوى الشهيرة أمام محكمة العدل الدولية التي أصدرت حكما تحضيريا دون ما تطمح إليه الشعوب التواقة إلى العدل، ها هي الشيلي وجنوب إفريقيا ترفع دعوى جديدة أمام المحكمة الجنائية الدولية، وأهمية هذه الدعاوي هي في محاصرة آلة الدمار الصهيونية ورفع “لا” كبيرة في وجهها وأن العدو المحتلّ لن يفلت من العقاب ولو بعد حين. في المقابل من ذلك يواصل النظام الرّسمي العربي السّبات والصّمت الذليل، فحكومة الأردن تمدّ العدو بحاجياته من الخضر والغلال في الوقت الذي يموت فيه الفلسطينيّين جوعا، ونظام العمالة في الإمارات يمدّ العدوّ بالأدوية والمساعدات المالية والمادية بكلّ سخاء، وتفتح البحرين أرضها وجوّها للعدوان على اليمن لأنه فتح النار على الصّهاينة وأسيادهم الأمريكان والأنجليز، ويواصل نظام السّيسي غلق معبر رفح وراجت مؤخّرا أخبار مفادها سرقة الإعانات الموجّهة إلى الفلسطينيّين (سيارات إسعاف، أدوية، مؤونة…). وفيما يُقتل الشعب المسالم في غزّة والضفّة والقدس والدّاخل المحتل، لم تُغلق أي سفارة صهيونية في أيّ من الأقطار المطبعة (المغرب، مصر، الأردن، الإمارات، البحرين..)، وبخلاف برلمانات اليمن، العراق وليبيا، فإنّ بقية البرلمانات بلع نوابها المعيّنون ألسنتهم كي لا يصدروا قوانين تجرّم التطبيع مثلما فعل برلمان الأحرار في جنوب إفريقيا.
لقد وصل الصّمت والخضوع ذروته، فحكّامنا يتصرّفون وكأنّ ما يجري في فلسطين يجري في عالم آخر. لقد سقطت ورقة التّوت عنهم جميعا، وبان للمرّة الألف طبيعة الجامعة العربية كمكتبٍ للعجز والفشل، فحتى بيانات التنديد والإدانة التي ميّزت هذه الجامعة منذ تأسيسها كفّت عن الصدور، والاجتماعات وقمم الخطب و”العياط” اختفت.

وحتى نظام الجزائر التحق بجوقة الصّمت

لم يُخف العديد من المتابعين حيرتهم من صمت نظام الجزائر الذي طالما ادّعى أنّه سليل الثورة الجزائرية المظفّرة. لقد كان خطاب النظام الجزائري مثل خطاب الأنظمة القوميّة (العراق وسوريا) خطابا مختلفا عن بقيّة الأنظمة، وقدّمت الجزائر في الأطر الدّولية والإقليميّة مواقف على العموم تحُوز الحدّ الأدنى من التعاطف مع القضية الفلسطينيّة. لكن صوتها خبا هذه المرّة، فالنظام منشغل بترتيب مستقبل الحكم وبالصّراع مع النظام المغربي المسنود امبرياليًّا وصهيونيًّا. فرغم وضوح الاستهداف الذي يطال الجزائر بلدا ونظاما وذلك لاستكمال وضع اليد على المنطقة في إطار صراع دولي متصاعد، وفي القوت الذي من المفترض أن يتصرّف النظام الجزائري بما يعمّق تمايزه مع أنظمة التطبيع والعمالة، نجده يخيّر الصّمت ويؤْثر السّلامة، ولم يكتف بذلك، بل فرض على الشّعب الجزائري صمت المقابر، فلأوّل مرّة يصمت الشارع الجزائري الهادر أمام الجرائم الصهيونية في فلسطين. لقد تحرّك في بداية العدوان لكن السلطة تدخلت بقوّة مثلها مثل نظام مصر مستعملة نفس الحجّة، إن النظام يقوم بالواجب، والواجب كما هو واضح للعيان هو الصّمت والتواطؤ. إن النظام الجزائري لا يفكر الآن إلّا في ما يهمّ كرسي الحكم وترتيب العلاقات مع القوى المسيطرة على المنطقة خاصة بعد فشل انتزاع مقعد في فضاء “بريكس”. لقد فقد الشعب الفلسطيني هذه المرّة مساندا من الحجم الهام هو الجزائر التي اضطلعت بدورها حكومة جنوب افريقيا.
إن حركة المساندة في الوطن العربي ظلّت على العموم ضعيفة ومحدودة حتى عند الجماهير وذلك بسبب القمع والتواطؤ من جهة، وبسبب حالة الارتباك وهبوط المعنويات لدى الشعوب وحركاتها الوطنية والتقدمية في هذا الظرف الدقيق الذي تمرّ به القضية المركزية للمنطقة، وهو وضع لا يستفيد منه إلّا الحلف الثلاثي المعادي للشعوب وهو حلف الكيان الصهيوني والامبريالية والرجعية العربية والإقليمية.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

إلى الأعلى
×