بقلم عمار عمروسية
غزة: حول انتصار المقاومة الباسلة والشعب الصامد (الجزء الأوّل)
ج. الجيش المنهك
لم يقدر الجيش الأقوى بالمنطقة والمدعوم كما لم يحدث بكلّ الوسائل أمريكيا وغربيا على حسم معركته وفق عقيدته العسكرية القائمة على إنجاز جلّ المهمّات في أسرع الأوقات وبأقلّ التكاليف.
فحركة “حماس” وباقي فصائل المقاومة منذ انطلاق عملية طوفان الأقصى فجر 7 أكتوبر 2023 حدّدت الإطار العام لهذه الحرب وضبطت سياقات تطوّراتها لاحقا.
فالمقاومة افتتحت معركتها وفق حساباتها وتمكنّت منذ الساعات الأولى لعملية الطوفان البطولية من تسجيل نقاط أساسية ضدّ آلة البطش والدّمار الصهيونية.
فالمبادرة بيد المقاومة وميدان المعركة من اختيارها الأمر الذي جعلها من الناحية العسكرية في موقع متقدّم على عدوّها الأمر الذي مكنّها في البداية من توجيه ضربة موجعة لأسس العقيدة العسكرية الصهيونية المرتكزة على التفوّق الاستخباراتي وبعدها في استدراج جيش الحروب القصيرة إلى مستنقع الاستنزاف المستمرّ بما يصحبه من فاتورة خسائر مفتوحة.
لقد انطلق “الجيش الذي لا يقهر” مساء 7 أكتوبر في عدوانه تحت مفاعيل صدمة كبيرة وعدم توازن فاضح اعترف بآثاره السلبية حتى كبار خبراء الاستراتيجيات العسكرية في الكيان وخارجه.
فجيش الاحتلال النازي اندفع نحو عدوانه فاقدا لأسبقيته في الإنذار المبكر ومحروما من وسائل الحسم السريع بالإضافة إلى افتقاره إلى أمرين أساسيين هما بمثابة الشرط الأوّلي لربح الحرب.
فحجم القوّة البرّية رغم حملات التعبئة والتجنيد ظلّت ضعيفة وزاد ضعفها بفعل الخسائر البشرية في ارض المعركة والحالة المعنوية لعصابات القتل تفاقمت اهتزازاتها واستقرّت منذ الأشهر الأولى للعدوان في مساحات الانكسار والانكفاء وراء إدارة فعاليات الميدان وفق عقلية انتقامية متوحشة قوامها التعويل على التوظيف العشوائي للذخيرة وترسانة السلاح الرهيبة وعلى الأخصّ سلاح الجوّ.
فجيش الاحتلال المدجّج بأرقى منجزات الصناعات العسكرية وجد نفسه تحت ضربات المقاومة وحسن تكتيكاتها سجين بوتقة أعمال عبثية الأمر الذي دفع “إسحاق بريك” أحد أكبر جنرالات الجيش إلى الإعلان منذ ماي 2023 قائلا “هذه الحرب عبثية… نحن في حلقة مفرغة خسائرنا أكبر من منحزاتنا…”.
د. خسائر اقتصادية فادحة
مثلما هو معروف لم تقف كلفة العدوان الهمجي على جانبها البشري بل تجاوزته إلى المجال الاقتصادي والمالي.
فاقتصاد الكيان عرف انتعاشته وعنفوانه عبر عقود ضمن مناخ آمن بعيدا عن الهزّات العسكرية وتداعياتها الأمنية وهو أمر عصفت به ليس فقط صواريخ المقاومة الفلسطينية وإنما مجمل فعاليات إسناد محور الدعم من “لبنان” و”العراق” و”اليمن”.
فسيل المسيّرات والصواريخ من تلك الجبهات المختلفة والمتباعدة أربك السير العادي للمنشآت الاقتصادية والصناعية تقريبا بكامل الأراضي المحتلّة كما أنّ حملات التجنيد المتواصلة في ما يسمّى جيش الاحتياط أسهم في خلق فراغات واسعة في تلك الموارد البشرية الموضوعة على ذمّة تشغيل ماكينة التصنيع التي لم تألف بالمطلق آليات وديناميكيات اقتصاد الحرب الطويلة.
وبالتوازي مع ذالك التعثّر المستدام خسر الكيان أولا سلّته الغذائية المتأتية في أغلبها من المناطق الحدودية مع كلّ من “غزة” و”لبنان” وثانيا عائدات الجزء الأكبر من القطاع السياحي.
فمنذ الثلاثي الأوّل للعدوان بدأ اقتصاد الكيان يسير نحو أزمة عميقة تجلّت لاحقا في تراجع نسبة النموّ إلى حدود 1،2 % وخفض التصنيف الائتماني أكثر من مرّة زيادة عن ارتفاع المديونية الخارجية بالرّغم من التدفق الضخم للهبات والإعانات لكلّ من أمريكا وبعض دول الغرب.
لقد عرفت البورصة بالكيان هزّات متعاقبة خلّفت خسائر مالية تبعتها هجرة استثمارات كبيرة زيادة عن التوقف الكلّي لأنشطة ميناء “إيلات” والهبوط الحادّ لنظيره في “حيفا”.
ه. قلق اجتماعي وتشظي مجتمعي
لقد قوّض فعل المقاومة الفلسطينية ومحورها واحدة من دعامات الاستقرار “المجتمعي” بالكيان ذلك أنّ معزوفة “بلد الرخاء الاقتصادي والأمان” أخلت مكانها لمصاعب كبيرة جمعت بين غلاء الأسعار وندرة المواد الأساسية وسيادة مشاعر القلق وحتّى الخوف ليس فقط من المستقبل وإنما على الحياة والسلامة الجسدية نتيجة تقاطر الصواريخ على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة.
فالحياة داخل الكيان على حدّ تعبير ورد بصحيفة “يديعوت أحرنوت” يوم 30 جويلية 2024 “انقلبت رأسا على عقب بعد طوفان الأقصى.. فهي كابوس مخيف يراقب فيه طوال الوقت المستوطنون السماء في انتظار أسراب المسيّرات…”.
من هذه الفجوات دبّت بوادر الانقسامات المجتمعية التّي تعمقت لاحقا حول قضايا أخرى مثل الإخفاق في تحرير الأسرى،الفشل العسكري الخ…
فحرب الاستنزاف غير المسبوقة التي فرضتها المقاومة أسهمت تدريجيا في الحدّ من مفاعيل الخطاب الديماغوجي لحكومة “نتنياهو” وفتحت أعين قطاعات واسعة من الصهاينة على خواءها وزيفها، فالحرب الوجودية وفق تلك “البروباغندا” لدى عائلات الأسرى “هي حرب بقاء نتنياهو” على كرسيه وهي وفق أحد أبرز وجوه المعارضة الصهيونية “لابيد” “مغامرة كارثية على دولة إسرائيل تحرّكها حسابات شخصية ذاتيه سياسوية”.
لقد تعاظمت الخلافات بين المؤسسة العسكرية والحكومة وتعمّق الانقسام المجتمعي كما لم يحدث من قبل ووصل الأمر برئيس الكيان في الأشهر الأخيرة إلى التحذير الجدّي من مخاطر السقوط في أتون الحرب الأهلية.
فالرأي العام الداخلي فقد تماسكه وراء عساكره وساسته وانقلب وفق كلّ استطلاعات الرأي ضدّ استمرار هذه الحرب ولم يعد قابلا بغير إنهاءها مهما كانت أثمانها.
و. عودة “ترامب” للحكم
مثّل فوز “ترامب” بالانتخابات الرئاسية الأخيرة فرصة ثمينة له من أجل إعلاء صوته مجدّدا بضرورة إيقاف هذه الحرب ضمن تصوّر عام يقوم على تبريد جميع السّاحات الساخنة بالشرق الأوسط.
فالرئيس الجديد أدار حملته الانتخابية ضدّ منافسته من الحزب “الديموقراطي” تحت يافطة إنهاء “حريق غزة” مثلما قال في أحد اجتماعاته مشيرا إلى مقاربة سياسية مغايرة نعتها قائلا “لا بدّ من الهدوء هناك حتى ننجح في إدماج إسرائيل في محيطها…”.
وذهب إلى حدّ ضرورة اشتراط وقف القتال وإجراء تبادل الأسرى قبل 20 جانفي يوم دخوله “البيت الأبيض” وهو ما تمّ فعلا بعد أن باشر “ترامب” وفريق مستشاريه ملّف المفاوضات حتّى قبل استلامه مقاليد السلطة.
فالرئيس القادم بشعارات استعادة عودة “عظمة أمريكا” والمسكون برغبة الظهور الدائم بصورة الحاكم القويّ وضع كلّ نفوذه من أجل إعادة العلاقات الأمريكية-الصهيونية إلى قواعدها التقليدية التي لا مجال فيها لهوامش الاستقلالية للكيان بما يعنيه من ضرورات الطاعة وحسن التنفيذ.
فكلّ هوامش المناورة والتلاعب التي استفاد “نتنياهو” من وجودها زمن “بايدن” سُدَّت ولم يبقى أمام الأوّل سوى ترتيب أوراقه وإدارة جميع موازنات تحالفه الحكومي وغير الدّخول الجادّ في المفاوضات والانتهاء إلى هذه الصفقة التّي انخرطت فيها حكومة القتل صاغرة ذليلة لفسح المجال أمام شروع “ترامب” في تنفيذ مشروعه السياسي القائم على أولويات مختلفة عن سابقه.
فالأولّ وفق كلّ المعطيات الراجحة أعاد صياغة استراتيجية إدارته ضمن قديم سياساته بالمنطقة العربية التّي يشكّل التطبيع مع الكيان النازي محورها الأساسي.
فوقف العدوان على “غزة” وشعبها في منظوره ليس رأفة بالضحايا ولا اقترابا من ملامسة رؤية متوازنة من مسألة الاحتلال والمذابح.
فالأمر وفق منطقه لا يتجاوز حدود خلق الشروط الأنسب لتحريك قطار صفقة القرن والمرور به نحو استكمال حلقاته الأساسية التي تشمل في البدء نظام العمالة والفساد بالعربية السعودية وبعدها ما بقي من فتات مكوّنات النظام الرسمي العربي وحكوماته المذعورة من بطش كيان الاحتلال وحماته من القوى الإمبريالية.
حول انتصار المقاومة
أثار اتفاق وقف القتال في “غزة” جدلا قديما – جديدا حول الجهة الرابحة في هذه الجولة.
ومن المفارقات العجيبة أنّ الكثير من نخب التطبيع والانكسار في الساحة العربية هي من أخذت على عاتقها التّرويج الواسع لهزيمة المقاومة وذهبت شعوذات بعض تلك الأصوات الناعقة والمظلّلة حدّ تجريم العمل المقاوم ورمي مسؤولية ما يزعمون أنّه الضياع التاريخي للقضية الفلسطينية على عاتق مخطّطي ومنفذي عملية طوفان الأقصى.
يجتهد مثقفو الانكسار والتطبيع صباحا مساء في فبركة البراهين الواهية لتمرير أحكام تصفوية متساوقة مع مسخ ثقافي وسياسي يبرّر الخضوع والاستسلام أمام هيمنة صهيو-أمريكية-غربية في ما يسمّونه شرق أوسط جديد يخلو ليس فقط من حركات مقاوماته وإنّما من تطلّعات شعوبه نحو التحرّر والكرامة.
فمجرد إلقاء نظرة سريعة على مضمون الصفقة الأخيرة وما رافقها من حيثيات مسار تفاوضي شاق وعسير يمكّن من الوقوف على جملة نقاط أساسية تصب في أحقية القول بانتصار المقاومة الباسلة وشعبها الصامد وهو أمر يقرّه أكثر قادة الرأي العام بالكيان الصهيوني فقد ورد بصحيفة “هارتس” يوم 16 جانفي “الفلسطينيون أفضل شعوب الأرض في الدفاع عن أوطانهم” ويدعمه صاحب خطّة الجنرالات “رئيس مجلس الأمن القومي غيورا إيلاند” الذي لم يجد حرجا في التصريح على أكثر من فضائية قائلا “حماس انتصرت وإسرائيل فشلت فشلا مدويا”.
فحماس التي كان هدف العدوان الصهيو-أمريكي-الغربي سحقها وتدميرها هي الجهة التي أشرفت من الجانب الفلسطيني على مجمل المباحثات وهي من أدارته وفق ثوابت الخيارات الوطنية التي بلورتها منذ أوّل لقاء تفاوضي غير مباشر.
فالنصر المطلق الذي لاحقه ” نتنياهو” وأركان حكمه لم يكن سوى انكسارا حقيقيا قابله صمود أسطوري للمقاومة وشعبها وهو بمثابة الانتصار ضمن ما يعرف بالمواجهات غير المتكافئة.
فالمقاومة و حركة حماس باعتراف أحد كبار المحللين السياسيين الصهاينة “آلون مزراحي” لم تهزم إسرائيل فحسب بل الغرب برمته… والمقاومة رغم الاختلال الرهيب في موازين القوى تمكنّت من إفشال جميع أهداف الحرب العدوانية المعلنة وغير المعلنة فلا هي انهارت أو رفعت الرايات البيضاء ولاهي فرطّت في شروطها التفاوضية رغم حجم الأذى الذي لحق حاضنتها وفداحة خسارة قياداتها الكبيرة والتاريخية.
فهي، أي المقاومة، حتّى اليوم الأخير من العدوان ممسكة بالأرض والسلاح والأسرى الأمر الذي عبّر عنه بوضوح الجنرال المتقاعد “إسحاق بريك” في مقال نشرته صحيفة معاريف في سبتمبر 2024 حيث ورد “تبتعد إسرائيل أكثر عن قدرتها على القضاء على حماس… نحن موجودون في الأعلى لكن كلّ شيء مازال يجري في الأسفل في الأنفاق…”.